نـفــحاتٌ مــلكوتيــة مِن الــخطاب الــزينبي(٣)

"أَظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ، وَضَيَّقْتَ عَلَيْنَا آفَاقَ السَّمَاءِ، فَأَصْبَحْنَا لَكَ فِي إِسَارٍ، نُسَاقُ إِلَيْكَ سَوْقاً فِي قِطَارٍ، وَأَنْتَ عَلَيْنَا ذُو اقْتِدَارٍ، أَنَّ بِنَا مِنَ اللَّهِ هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً وَامْتِنَاناً؟ وَأَنَّ ذَلِكَ لِعِظَمِ خَطَرِكَ وَجَلَالَةِ قَدْرِكَ؟" كما اعتدنا أن نستشف من مقطعٍ كلام سيّدة البيان، عظيمة المنزلة والشأن، السيدة زينب (عليها السلام) أكثر من نفحة، بعض النفحات تجول بنا في عالم الملكوت، واخرى في عالم الملك. والتعريج على مراد هذا المقطع سيكون ضمن النواحي الثلاث التالية: الناحية الأولى: الناحية التاريخية: إنّ المتتبع لتاريخ الطاغية يزيد (لعنه الله) يتضح له شناعة الجرائم التي ارتكبها بحكمه الظالم بحق الناس عموماً، وبحق أهل البيت خصوصاً. حيث قال الذهبي بحقه: "...وكان ناصبيًا، فظًا، غليظًا، جلفًا، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين [عليه السلام]، واختتمها بواقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره"(1). فيزيد أفجع سكان الأرض والسماوات في حكمه، وعدائه لآل محمد (عليه السلام)، فما محاصرة الحسين عليه السلام وقطع الماء عنه وعياله؟ وما أمره بقتل الحسين وآله ومكافأة قاتله الدني الحقير؟ ما قتل الرضيع وترويع الصغير؟ وما سبي النساء وبعد المسير؟ فبظلمه وجوره فجع من فجع من الموالين المستضعفين. وأما السماء فقد شهدت ترويعاً بملائكتها؛ نتيجة ظلم وفسق الطاغية، حيث يذكر لنا التاريخ أنّ رأس الحسين(عليه السلام) حينما وضع داخل التنور رأت تلك المرأة عمود نور... حيث "جاء خولي بالرأس الشريف فوجد باب القصر مغلقًا، فأتى بالرأس إلى منزله، فوضعه تحت إجّانة -هي الوعاء الّذي يعجن فيه العجين ، ويسمى اليوم المعجن-، ودخل فراشه. وكان لخولي امرأتان: امرأة أسدية، وامرأة حضرمية يقال لها النّوّار، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية، فأوى إلى فراشها. فقالت له: ما الخبر؟ فقال: جئتكِ بغنى الدهر ، هذا رأس الحسين بن علي معك في الدار! فقالت : ويلك ، جاء الناس بالذهب والفضة ، وجئت برأس ابن بنت رسول الله [صلّى اللّه عليه وآله]! والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة أبدا. وقامت من الفراش فخرجت إلى الدار . . . قالت : فما زلت والله أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من الإجّانة إلى السماء ، ورأيت طيورًا بيضًا [لعلها ملائكة] ترفرف حولها وحول الرأس . فلما أصبح خولي ، غدا بالرأس إلى ابن زياد"(2). واستمرت هذه الكرامة للإمام الحسين (عليه السلام) إذ لا زالت ملائكة السماء تغدي وتمسي بأفواجها على قبره (عليه السلام). "عن أبان بن تغلب قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين صلوات الله عليه شعثا غبرا يبكونه إلى يوم القيامة رئيسهم ملك يقال له : منصور ، فلا يزوره زائر إلا استقبلوه ، ولا يودعه مودع إلا شيعوه ، ولا يمرض إلا عادوه ، ولا يموت إلا صلوا على جنازته واستغفروا له بعد موته"(3) الناحية الثانية: الناحية البلاغية إنّ البيان البلاغي بات واضحاً في خطاب السيّدة الجليلة زينب (عليها السلام)، حتى أخذت تستفهم الحاكم الظالم ذلك الاستفهام غير الحقيقي؛ ووجه فهم خروج سياقها الكلامي عن الاستعمال الحقيقي هو وجود قرائن تصرف الاستعمال من الحقيقي إلى غير الحقيقي، وهي قرينة حالية، فحال المتكلمة يدل على أنّ غرضها من السؤال هو تكذيب الطاغية وإبطال ظنّه بأنّه بفعله الشنيع ولم ينله عقاب آني من الله تعالى أنّ له عنده كرامة وعظمة منزلة، ولآل الحسين (عليه السلام) هواناً ودنو منزلة! وهذا ما يسمى بالاستفهام الاستنكاري أو التكذيبي. الناحية الثالثة: الناحية العقائدية (أنّ بنا هواناً، وبك عليه كرامة) اشارةً منها إلى العدل الإلهي، وبينًا لنكتة قرآنية أشار المولى سبحانه إليها في كتابه، وهي إمهال الظالمين وعدم إهمالهم، حيث قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَار}(4). فإمهاله للكافرين عن حكمةٍ، والله تعالى لا يفعل العبث. وكذا ابتلاؤه للأولياء والصالحين يرجع إلى حكمته سبحانه، وليس في ذلك منقصةٌ لأهل البلاء؛ إذ القرآن الكريم يخبرنا بفلسفة البلاء، وتلك الحكمة إما أن تكون ظاهرة أو خفية. فالظاهرة هي للوصول إلى الدرجات العلى، ولزيادة الأجر والرضا. فالسيّدة (عليها السلام) ظاهراً تريد أن تنفي العبثية عن الله تعالى التي استبطنها يزيد بفعله، بل بسابق قوله حينما قال: "لعبت هاشمُ بالملكِ *** فلا خبرٌ جاء ولا وحي نزل"، فإنّه (لعنه الله) ظنّ أنّ له عند الله تعالى كرامة؛ لأنّه لم ينزل وحياً يلومه على شناعة أفعاله, واستنتاجه أنّ الحسين وآله أقل منزلةً منه. هذا فضلًا عن أن كلامه هذا فيه تكذيبٌ لأصل نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والحاصل: أن لازم قوله أمور: 1- الطاغية يثبت عدم حكمة الله تعالى الذي يأمرنا بطاعة واتباع أهل البيت (عليهم السلام) وهم في نظره أهون خلق الله منزلة، وطاعة المفضول غير طاعة الفاضل. 2- الطاغية يثبت نسبة الظلم إلى الله تعالى؛ إذ يبيّن (عليه لعنة الله) أنّ الحسين وآله (عليهم السلام) قدّموا تضحيات في سبيل ربّهم، والله تعالى لـم يجازهم في الدنيا بالنصر. 3-الطاغية كفرَ بأحاديث النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) التي تأمر باتباع الثقلين, "عن ‏ ‏جابر ابن عبد الله ‏، ‏قال : ‏رأيت رسول الله ‏ (ص[صلى الله عليه وآله وسلم] ) ‏ ‏في حجته يوم ‏ ‏عرفة ‏ ‏وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته ، يقول : يا أيها الناس إني قد ‏ ‏تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، قال : ‌‏وفي ‏ ‏الباب ‏ ‏، عن ‏ ‏أبي ذر ‏، ‏وأبي سعيد ،‏ ‏وزيد بن أرقم ،‏ ‏وحذيفة بن أسيد ‏ ، ‏قال : ‏وهذا ‏حديث حسن غريب ‏ ‏من هذا الوجه ‏، ‏قال : ‌‏وزيد بن الحسن ‏، ‏قد روى عنه ‏ ‏سعيد بن سليمان ‏، ‏وغير واحد من أهل العلم"(5). فـهل من المنطق أن يكون استفهام السيّدة (عليها السلام) حقيقياً وتنتظر من الطاغية -الذي عرفنا تاريخه- جواباً وهو يصرّح بكفره, وإن كان غير ملتفت؟!. ولهذا تجلّى البيان على اللسان؛ لدحض باطل أهل الشنآن. ____________________ (1) سير أعلام النبلاء: للذهبي, ج4, ص37. (2) موسوعة كربلاء: لبيب بيضون, ج2, ص261-262. (3) وسائل الشيعة: للحر العاملي, ج14, ص410. (4) ابراهيم: 42. (5) سنن الترمذي: للإمام الترمذي. كتاب المناقب - باب مناقب أهل بيت النبي (ص[صلى الله عليه وآله وسلم]), ج5, ص328. ‏يا زينبُ أعربتُ اسمَكِ فانحنتْ *** لغتي وقالـت: زينبٌ لا تُــعرَبُ مـرفوعـةٌ عـنـدَ الســباءِ بهـودجٍ *** تُخفي النحيبَ وما سواها ينحبُ كانت تجرُّ الصبرَ رغمَ عذابها *** وهي التي قهراً تُجَـرُّ وتُسحبُ مهضومةٌ نُصبَ العَداءُ لأهــلها *** طولَ الزمانِ وللقيامةِ يُنصَـبُ. والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين. علوية الحسيني

اخرى
منذ 5 سنوات
1667

الرصاصُ المقبور شاهدٌ وشهيد

بقلم: عبير المنظور كثيرةٌ هي اللحظات التي كنتُ أتمنى فيها أن أتحرر من سجني، لا لحريةٍ مكذوبةٍ أتمناها، وإنّما لحريةٍ حقيقةٍ كنت أرومها، وهي أن أُرزقَ الشهادة، فقد كان حلم الشهادة يراودني أنا ورفاقي ويحرّك الأمل القابع في الروح شوقًا وتحرّقًا لتحقيق ذلك الحلم يومًا ما، كنا جميعًا نتشاطر ذات الحلم، كنّا نغبط رفقاءنا الذين سبقونا للشهادة، وقضوا على أشرار الخلق، وانتهت حياتهم بشرف بانتهاء تلك المَهمَّة بزفَّةِ عُرسٍ مُضمّخةٍ بدماءِ الشهادة، كنت كلما أرى شخصًا يفتح باب السجن كنتُ أتوجّه إلى الله بتراتيل دعاء، وأتمتم بترنيماتِ عشقٍ وأملٍ بأن يحين دوري للمَهمَّة القادمة، وفي كلّ مرة كنت أزداد أملًا عن سابقتها حتى حان دوري، طاش لُبّي فرحًا وتلعثمتُ بهجةً وسرورًا، ودّعتُ رفاقي وانطلقت مُحلِّقةً بزهوٍ في السماء بين أقراني، ملأنا الخافقين مرة واحدة كزخات المطر، وأصبحنا نتراشق من هنا وهناك في أعالي الجوّ مع أسراب الطيور، كان منظرًا جميلًا لم أشهده من قبلُ، فكل ما كنتُ أعرفه عن عوالمنا أنها خالية من الحياة والجمال والعطاء، فنحن خُلِقنا للحروب والقتل في المعارك الضارية، ووُجِدنا لقتل الأشرار وتنقية العالم منهم، إلا أنني لم استمتع بمنظر أسراب الطيور الخلّاب هذا، فوجودنا قد أثار الطيور وشتت انتظامها مما اضطرها للهروب، لم أفهم للوهلة الأولى ما يجري، وأكملتُ مسيرتي بحسب ما يرسمه القدر لوِجْهَتي. توقفتُ في المحطة الأخيرة، واخترقتُ الخطوط، وجِبتُ الأروقة، لكنني كنت في كلّ مرة أزداد تعجُّبًا ممّا أرى، وفي الوقت ذاتِه أصبحتُ أُدركُ جيدًا أنني أخطأت الهدف، حاولتُ الرجوع مرارًا ولكن هيهات، كان خطُ انطلاقِ مَهمَّتي خطَ انطلاقٍ لا رجعةَ فيه، لم أجد بُدًّا من الاستقرار في قلب الهدف إلا أنّني أُعجِبتُ بكَمِّ النقاء والبراءة فيه، كان الهدفُ عبارةً عن رأس طفلة لم تتجاوز السابعة من عمرها الغضّ، رأسٌ صغيرٌ سكنتهُ صور الوالدين والإخوة والأقارب والأصدقاء ترافقها أحلامٌ كبيرةٌ بأن تصبح طبيبة؛ لتخدم الإنسانية، وتسهم في تقدم وطنها وازدهاره، وفيه العديد من الأفكار البريئة والذكريات الجميلة من ابتساماتٍ تلقائية وضَحكاتٍ لمواقفٍ طريفةٍ جمعتها مع الأحبة، ويبدو أنّ دُميتها الصغيرة كانت تحتلُّ مساحة كبيرة فيه. لم أجد في ذلك الرأس شيئًا من التعقيد إلا بعض المسائل الرياضية التي أشكل فهمها على تلك الطفلة المسكينة؛ بسبب صعوبة المناهج الدراسية في أثناء السنوات الأخيرة، كانت هذه الجنبة السلبية الوحيدة التي وجدتها في رأس تلك الطفلة، وانزعجتُ؛ لأنني لم أجد ما كان يتكلم عنه رفاقي الذين رافقوا أبطال الحشد الشعبي في معاركهم البطولية عن هدف، وأصل مَهمًّتنا هو القضاء على الشر ومصدره ومحيطه، ونحقق الخير والأمان، لم أجد الشرّ الذي كانوا يتكلمون عنه، فبدأت ألوم نفسي، أيعقلُ أنني غيّرت المسار وغيّرتُ الهدف؟! كيف ذلك وأنا موجهةٌ نحو الهدف فأصبحتُ على يقين أنَّ الرامي هو مَنْ أخطأ الهدف، فهو كما يبدو لم يُصوِّبْ على هدفٍ معينٍ بل أطلقني عشوائيًا وإلاّ لِمَ أصبتُ هذا المحيط المتشبّع بالخير والنقاء! أيُعقل أن يكون الرمي العشوائي بهذه القسوة؟! أن يقتل أحلامًا وضَحكاتٍ لطفلةٍ بريئةٍ ليس لها ذنب سوى أنّها كانت جالسةً في حديقة منزلها تتأمّلُ الورد؛ لتقطف أزاهيرًا من الشكل أجملها ومن العبق أضوعها؛ لتهديها لأمها في عيد الأم. تُرى منْ المسؤول عن هذه الفاجعة؟ هل هو جهل الرامي أم تهوره الذي تسبب في مقتل شخص برئ بالخطأ؟ ألم يكن يعلم أن الرصاص يقتل؟! وأنّه وُجِد لساحات الوغى والقتال للقضاء على الأعداء والأشرار؟! كم كنتُ غبيةً حينما كنتُ أُمنّي نفسي بالخروج من حافظة الرصاص التي كنتُ أعدُّها سجنًا لي كي أُرزق الشهادة وأموت في رأسٍ داعشيٍّ بغيضٍ دنَّس أرض المقدسات؛ لأقضي على أفكاره الشيطانية وخططه القذرة، وأقتل بذلك آماله بأن يقتل الأبرياء، ويسبي النساء، ويستعمر بلد الأنبياء والأولياء، وإذا بي أجد واقعًا مختلفًا عمّا كنتُ أخططُ له. كم كنتُ ساذجةً حينما كنت أرسمُ نشوةَ شهادتي في رأسه العَفِن، وإذا بي استقرُّ في رأس طفلة بريئة، كم احتقرتُ نفسي حينها واحتقرتُ مَن أطلقني أكثرَ وأكثرَ. أيُّ استهتار وأيُّ جهل وأيُّ تسيّب أوصل الأمة لهذه الحال البائسة؟! ما الدافع المُهم الذي يستوجب الرمي العشوائي؟ مهما كانت المناسبة ومهما كانت الأسباب فإنّها مسوغات سخيفة جدًا وغير منطقية للموجودات العاقلة. أنا أُحدّثكَ أيها الرامي بشكل عشوائي فاستمع مقالي: أولاً وقبل كلّ شيء: أنا لستُ رصاصة طائشة كما تزعم، وإنّما أنت الطائش بتصرّفك غير المسؤول هذا. تُرى ماذا ستكون ردّة فعلكَ إن استقرتْ رصاصة في رأس أحدٍ من أطفالك أو أقاربك؟ هل ستقول: إنّها رصاصة طائشة! أم ستلعن مَن أطلقها لعنًا وبيلًا هو وأهله وعشيرته؟ تُرى هل ستتخيل نفسَكَ يوم القيامة قاتلًا لنفس بريئة دون ذنب؟! وإن قلتَ: إنّكَ لم تكن قاصدًا لقتل نفس بريئة، وإنّكَ رميتَ عشوائيًّا بدافع الفرح والحماسة، أقولُ لكَ: ألمْ تسمعْ وترى في كلّ الأعياد والمناسبات العامة والخاصة بحالات القتل بالرصاص العشوائيّ أو الطائش كما تزعم؟! وإن لم تسمعْ بذلك، ألمْ تفقه أننا جنس قاتل؟! ألم يُخبركَ مَنْ علّمكَ حملَ السلاح أنّ الرصاص غادرٌ ومُميتٌ، وعليكَ إتقان التصويب؛ كي لا تُخطِئَ الهدفَ فتقتل شخصًا بريئًا دون قصدٍ أو تُصيبهُ بإعاقةٍ دائمةٍ أو مؤقتةٍ؟! لماذا لا تُعبّرُ عن فرحِكَ وحماسِكَ بطُرُقٍ وأساليبٍ حضاريّةٍ تُوافق كونَكَ إنسانًا لا همجيًّا وفوضويًّا؟ ألمْ تعلم كلّ هذا؟! ألمْ تعلم بأنّ الله سيَحشُركَ مع القتلة والمجرمين وإن كنتَ غير متعمِّدٍ للقتل، ولكنك ستُحاسَبُ على إصرارك وتهوُّرِكَ واستهتارِك بأرواح الأبرياء في الرمي العشوائيّ مع احتمال قتل نفس محترمة ولو بنسبة ١ %؟ زيادةً على مساهمتك في زعزعة الأمن والسلام في المجتمع وإخافة الناس وترويعهم وخاصة النساء والأطفال، إذن ما الفرق بينك وبين الإرهابيين؟! شارفت حياتي على الانتهاء ولم يَعُدْ لي متسعٌ من الوقت، ولم تنتهِ كلماتي للرامي العشوائيّ بعدُ، فتوجّهتُ لله تعالى ودعوتُ بدعواتي الأخيرة: إلهي، اغفر لي فأنت تعلم بأني لستُ أنا المذنبة في جريمة القتل هذه، وأنا سأكون شاهدةً على جريمة الرامي يوم القيامة؛ لآخذَ بحقِّ هذه الطفلة التي يتمنى أهلها أن يعرفوا شخصَ قاتِلها للاقتصاص منه؛ كي تهدأ ثورة نفوسهم. ورجائي الأخير أنْ أُقْبَرَ مع كَمّ البراءة هذه في قبرها الصغير، وأنْ لا أخرجَ منه أبدًا؛ لأنني لم أجد مكانًا أكثرَ نقاءً وبراءةً من رأسِ هذه الطفلةِ الصغيرةِ لأُدفنَ به... أحسستُ ببرودةٍ أحاطتْ جسدي، وأيقنتُ بحلول أجلي، فتمنّيتُ أمنيتي الأخيرة بأن تخترقَ رأسي رصاصة عشوائية وتستقر فيه؛ لتقتلَ خلايا ذاكرتي التي امتلأتْ بالذكريات المؤلمة في هذه الرحلة التي خيّبتْ آمالي وأراقتْ دمَ شخصٍ بريءٍ... أنا... أنا تلك الرصاصة التي تنقلُ لكم ما رأته وما تشعرُ به الآن؛ لأرقد بسلامٍ حتى أُستدعى للشهادة في ساحة المحشر، أنا والعديد من أمثالي من الرصاص المقبور.

اخرى
منذ 5 سنوات
1176

تفكير بالهواء الطلق

بقلم : علوية أم مهدي أتحدث عن زوجة ﻻ تتحمل وجود أم زوجها وأخته معها في البيت! كنتُ أسيرُ في أرجاء العيادة الاستشارية منتظرة ابتداء الدوام الرسمي، جذبني حديثها؛ إذ كانت كلماتها ذات وقع في أذني، أحسست أنّها مخنوقة من حالها؛ لقد طرقت سمعي شكواها... اقتربتُ منها وسألتُها إن كان بإمكاني الجلوس قربها، بعد إلقاء السلام، كانت إجابتها بوجهٍ شاحبٍ أنهكه التفكير: -نعم تفضلي كما ترين المكان يكاد يكون فارغًا، الظاهر أنه لا زال الناس يهابون الوصول إلى الطبيب النفسي! أجبتها بابتسامة خفيفة: ﻻ تنسي أنّنا حديثو عهدٍ باﻻنفتاح فما يزال أمامنا وقت حتى نستوعب حصول التطور وحاجتنا الفعلية له. بادرتني هي بالسؤال: كم هو رقمك؟ اجبتها بارتباك خوفًا من أن تسيء فهمي: مشكلتي لم تتطور لهذا الحد، إنني أحاول دفعها بقدر الإمكان بالأدعية وخطوات التنمية البشرية وتطوير الذات، ولكن مع ذلك أخذتُ رقم الطبيب احتياطًا لأيّ طارئ. قلت كلامي ولزمت الصمت، فردت بين اﻻستنكار والتوجّس: كيف استطعتِ دفع المشاكل؟! إنّها عندما تهجم ﻻ تترك مجالًا للدفاع، لابد من هجوم حتى يخسر أحد الأطراف. فوجدت في كلامها أنّها تريد الكلام؛ لإخراج ما في داخلها ،فقلت لها: - تعلمين، أن نكون نساءً فهذا قدرنا؛ الله ميّزنا عن الرجل، وكلٌّ منّا يملك عقلًا وفطرةً، علينا أن نستعملها دومًا في إرشاد أنفسنا لما فيه خيرها وصلاحها، ولكن استعمال هذا العقل دون مراعاة العقل وشروط التفكير يجعل الحياة صعبة، إنّ الله تعالى خلق المرأة وهي كتلة من المشاعر والعاطفة وفي ذات الوقت جعل لهذه المشاعر ضوابط تضبطها حتى ﻻ تخرجنا عن جادة الحق؛ حدود شرعية نلتزم بها، ألم تسمعي قصة العقيلة زينب بنت علي(عليهما السلام)، كيف أنّها رأت الأبناء صرعى مرملين على أرض كربلاء، وعلى الرغم من ذلك كان التزامها الديني يحتم عليها الصبر والتصبّر؛ لإدامة النصر، وهزم الأعداء، وما نالت (سلام الله عليها) تلك المنزلة الرفيعة إلا بسبب ذلك الوعي والإدراك لوظيفتها في هذه الحياة وتنوع أدوارها. فقالت وهي شاردة النظرات: كلامك صحيح، ولكنها زينب (سلام الله عليها) مَن يصل إلى صبرها؟! وجدت الوقت مناسبًا للتعمق فقلت : مَنْ قال ذلك؟! لنا أمثلة أخرى وهي عديدة وأكثر من أن تُحصى ، خذي مثلًا زوجة وهب، زوجة حديثة عهد بالزواج ومع ذلك أظهرت مع والدته شجاعة وصبرًا، فما يزال التأريخ يشيد بهما... ولم تمهلني أكمل فضربت على فخذيها، أرعبني الصوت، فقالت -وأنا مذهولة-: هذه أمه إنسانة راقية لوﻻ ذلك لم تكن أمًّا لزوجته بعد استشهاد وهب، بالله عليكِ مَن في زمننا الحالي ستتصرف مثل أم وهب؟! قلت لها وقد أدركت أنّ مشكلتها مع أم زوجها: - بغض النظر كيف كانت أم وهب، يا أختي، الحياة الزوجية تبدأ بزوجين يجمع بينهما عقد شرعي فلسفته زرع المودة والمحبة إن كانا مدركين لألفاظه التي يجريانها على لسانهما. فقاطعتني قائلة: كيف؟ لم أفهم؟ حاولت استجماع الأفكار حتى ﻻ أفقد ما رتبته في ذهني، وقلت لها: - لن أدخلَ في تفاصيل عقد الزواج وأهمية إجرائه شرعًا، ولكن ومن تجربةٍ شخصيةٍ، ومن تجارب الكثيرين ممّن أجروا العقد وهم مدركون لأهميته النفسية بالإضافة إلى وجوبه الشرعي بين المرأة والرجل، فمن قَبلتْ برجلٍ زوجًا وارتضته شريكًا لحياتها ﻻ بد أن تعلم وتُدرك أنّ له عائلة تمامًا مثل عائلتها فله إخوة وأب... وسرحت المرأة بفكرها، وقالت: له أم وأخت أذاقاني المرّ ... فأدركتُ أنها تريد البوح، فقلت: - نعم، يصادفُ أن يكون للزوج أم وأخت يلوذان تحت جناحه، هل تعلمين استحضار هكذا تفاصيل عند الخطبة والقبول يهوّن كثير من المشاكل والحصول على طمأنينة داخلية، فلا أظنّ إن من سعادتي أن زوجي يجافي والدته أو والده أو أن يعنّف أخته لأجلي! ليس ذلك بسعادة، هل تعلمين هناك قول للإمام زين العابدين (عليه السلام) يعالج مشاكل كثيرة خاصة في بيوتنا، حيث يقول: (.... وما عليكَ أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك، وصغيرهم بمنزلة ولدك، وتجعل تربك بمنزلة أخيك فأيّ هؤﻻء تحب أن تظلم؟ وأيّ من هؤﻻء تحب أن تدعو عليه؟ وأيّ من هؤﻻء تحب أن تهتك ستره... فإنك إن فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك، وكثر أصدقاؤك، وقل اعداؤك، وفرحت بما يكون من برهم، ولم تأسف على ما يكون من جفائهم......)( 1 ) فقالت: سلام الله على موﻻنا السجاد لقد أدخل كلامه برودة إلى قلبي، ولو لم أفهمه كله، عذراً منك ما معنى الحديث وخاصة كلمة (تربك)؟ قلت متبسمة: تربك، أي: بنفس عمرك، يعني علينا أن نعامل الناس بأخلاق وإنسانية، وأهل الزوج من الناس، فأبوه بمثابة والدي، وأمه بمنزلة أمي الحبيبة، وإخوته كذلك؛ لأنّها طريقة تجعل الإنسان يشعر بسلام داخلي، فمعيشته تكفل بها الله وبتسهيلها؛ ممّا يجلب الأصدقاء، ويقلل الأعداء، ولو قارنا الأمر بأمور التنمية البشرية، وتطوير الذات لوجدنا أنّ هذه الأمور تساعد على زيادة الطاقة الإيجابية ممّا ينعكس على الصحة البدنية، وهناك مقولة للإمام الصادق (عليه السلام) (من أكرمك فأكرمه، ومن استخفك فأكرم نفسك عنه)(2 ) رأيتها انفرجت سرائرها، فنظرت إلى ساعتي، وفي هذه الأثناء خرج الطبيب المختصّ من غرفته وحاولتُ جاهدةً أن ﻻ يراني، فناداني وهو يقول: - د. أمل، انتظرتُك طويلًا، يبدو أنّكِ وجدتِ قريبةً لكِ، وانشغلتِ بالحديث معها ونسيتِ العمل؟! فاستأذنتُ منها قائلة: لقد حان وقت دخولي، أشكرُ لكِ سعة صدرك، لكثرة كلامي وأردفتُ قائلةً: دائماً ما يقول لي زوجي أنتِ تتكلمين كثيرًا، أرجو ألّا أكون صدعت رأسكِ، هكذا هي الحياة تحتاج منا صبرًا وقوة، دائما تذكري جبل الصبر. فقامت مع قيامي من مقعدي وأمسكت بيدي قائلة: - كلامُكِ أراحني كثيرًا، أظنّ أنني لن أدخل للطبيب. فقلت لها مدّعيةً عدم ملاحظتي تسجيلها اسمها لدى قاطع التذاكر: كنتُ أتصور أنك مرافقة مع مريض، أسعدني الحديث معك. فردت عليّ بسرور: لم أنتبه أنك طبيبة، عذرا منكِ، وشكرا لك على الكلام المريح ______________________ 1) بحار اﻻنوار 2 )الدرة الباهرة

اخرى
منذ 5 سنوات
1201

التربية بالقدوة والتربية بالقصة

بقلم: قاسم المشرفاوي ماذا لو استخدم الأهل اسلوب القصة التربوي في توجيه أبنائهم! أليس ذلك أيسر وأفضل! ماذا لو كنا آباء وأمهات جيدين أمام أبنائنا! أليس ذلك أبلغ في التأثير عليهم؟ وماذا لو كان كلامنا مغايرًا لأفعالنا، هل يتأثر أبناؤنا بتوجيهاتنا وارشاداتنا بعد؟ الأبناء يتأثرون بالأفعال ويقلدون الأعمال التي نقوم بها أمامهم ويرددون كلماتنا وعباراتنا فهم يقتبسون كلامنا وأفعالنا، أما توجيهاتنا المملة الموجهة إليهم فهم يغضون الطرف عنها ولا يقيمون لها وزنًا إذا كانت لا تتطابق مع أفعالنا، لذلك يجب علينا أن نكون حذرين في تصرفاتنا أمامهم، فكل فعل محسوب علينا بشكل دقيق... الحياة في تطور مستمر وتختلف عن الماضي، فكل شيء فيها مختلف، والاغراءات والمثيرات كثيرة جدًا لذلك وجب علينا أن نطور من مهاراتنا وأساليبنا التربوية لنكون على استعداد لمواجهة هذه المخاطر التي تعصف بنا من كل جانب. إن النفوس تمل وتكل من التوجيهات الكثيرة والطويلة التي تبعث النفور والملل في نفوس الأطفال ولا تراعي مستواهم وطفولتهم، فالتربية ليست بالتوجيهات الكثيرة ولا بالنصائح الرنانة وإنما تكمن بالأفعال الصادقة التي يشاهدها الأطفال متجسدة في سلوكيات آبائهم وأمهاتهم. فلو شاهدك طفلك وأنت تقدم مساعدة ومعونة لشخص محتاج، فإن ذلك الفعل أبلغ من مئات النصائح والتوجيهات، فالسلوك أبلغ الكلام في التأثير على المقابل، ولو شاهدك ولدك وأنت مواظب على صلاتك فإن ذلك سيدفع بطفلك إلى تعلم الصلاة والمواظبة عليها، فالأساليب الصامتة والتي تحكي في داخلها عن الصدق كفيلة بغرس القيم في نفوس الأبناء، فأسلوب القدوة الصالحة والأسلوب القصصي أكثر تأثيرًا في مخاطبة عقول الأطفال، لأن هذين الأسلوبين يعطيان حرية أكثر للطفل في الفهم والاختيار والاقناع، فلا يشعر الطفل بالضيق والتقيد كما في الأوامر المباشرة التي تعبر عن مدى رغبة الأهل في السيطرة والتحكم وإلغاء الآخر. إن الأطفال يرفضون أسلوب الوعظ المباشر لأنه يشعرهم برغبة الأهل في السيطرة والتحكم وإلغاء دورهم في الاختيار الذي يعبر عن رغبتهم، وخصوصًا إذا كانت التوجيهات بأسلوب الانتقاص والنقد والتوبيخ وتفتقد إلى شروط النصح الصحيح. لذلك فمن الأساليب التربوية الناجحة هو أسلوب القصة التربوي والذي يتميز بمميزات عديدة تجعله مؤثرًا وناجحًا في ترسيخ القيم التربوية في نفوس الأبناء وتغيير السلوك المزعج والسيء، ويجب أن نعرف بعض الضوابط المهمة عند استخدامنا للقصة ومنها: ١- أن تكون القصة ذات هدف تربوي يمكن أن يتعلمه الطفل كالصدق والتعاون وحب الآخرين. ٢- أن تكون القصة قريبة من الواقع وبعيدة عن الخيال المتطرف كقصص الأميرات والتي تحمل أحداثًا وأحلامًا لا يمكن تطبيقها وليس لها وجود مما تؤثر سلبًا على الفتيات خصوصًا، لأنها تدفعهن إلى تكوين حياة مستقبلية شبيهة بهذه القصص وبالتالي تصطدم الفتيات مستقبلاً بالواقع والذي يختلف عن أحداث القصص. ٣- أن تكون القصة مناسبة لعمر الطفل وإمكانية فهمه للأحداث الواردة فيها. ومن إيجابيات التربية بالقصة ما يلي: 1/يعتبر الأسلوب القصصي من الأساليب المشوقة والجذابة التي تسترعي انتباه الأطفال وبذلك فإننا نستطيع أن نمرر عدة رسائل تربوية من خلال أحداث القصة، فمثلاً يمكن اختيار قصة تحمل هدفًا لترسيخ صفة الصدق والتعاون وحب الآخرين. 2/يعشق الأطفال الأسلوب القصصي لأنه يحاكي مستواهم العقلي وفيه تشويق ومادة جذب من خلال المغامرات والأحداث الكثيرة التي تشرحها القصة والتي تكون نتيجتها في نهاية المطاف هو ترسيخ قيمة تربوية أو تعديل سلوك. 3/الأسلوب القصصي أسلوب غير مباشر فلا يعتبره الأطفال انتهاكا لذواتهم كما في التوجيهات المباشرة التي تجعلهم يشعرون بالأسى والحزن، لذلك فتأثير القصة يكون أبلغ وأسرع. 4/من خلال استخدام قصص متنوعة ذات طابع تربوي يمكننا أن نبني شخصية الأطفال بناءً نفسيًا وعاطفيًا منسجمًا مع القيم التربوية والأخلاقية التي جاء بها القران الكريم فالله تعالى بعث رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) ليتمم مكارم الاخلاق.. والله المستعان

اخرى
منذ 5 سنوات
2503

بتلاتٌ ينهَشُها السَّرَطَان

بقلم: نرجس ابراهيم الصافي الاسمُ الذي أرعبَ الكثير، وأرعبها هي الأخرى، ولم تدرِ أنهُ سينهشُ جَسدها ذاتَ يومٍ أيضًا. "هي" لم تكمل عشرينها الزّاهي، حتّى تسلّلَ رويدًا رويدًا يقضمُ أشلاءً منها بَنهمٍ مُفزع، ثمّ لم يلبث حتى تعدّى إلى جدائلها السّوداء الفاتنة يقرُضُها بِمخلَبيه، فصيّرها ذكرى مقيتة؛ كُلما تذكرتها كادت تميدُ بها الأرضُ نوحًا وعزاء .. تذبلُ وتذبل ويعصفُ بها الدهرُ حتى تقضي كمدًا تحتَ رحمة ذاكَ الوحش الجائع؛ حقّ لهم أن يُسموهُ الخبيث؛ لأنه يسرقُ أجملَ ما كانَ فيها. تجلسُ عندَ دفّة السؤال وهي تتحسسُ بشرتها الصفراء المهترئة: هل تُستردُّ تلكَ الأيام؟، هل سيعودُ الغصنُ أخضرًا بعدَ أن تآكلت جذوره؟، وهل سَتدبُ فيه الحياةُ من جديد؟. ولا من مُجيب سوى تلك المرآةُ المَقيتة التي كلما ترى وجهها فيه تضمحلُ وتتلاشى كلُ أحلامها الوردية. رغمَ محاولات والدتها الجاهدة في العثور على تلك المرآة وتحطيمها كي لا ترى صغيرتها تموتُ كلّ يومٍ أمامَ ناظريها ولا تملكُ إزاء ذلك حيلة. إلا أن محاولاتها تبوء بالفشل في كلّ مرّة ! "هي" يقسو بها الدهرُ يومًا بعدَ يوم، وقد منعها حتّى أن تزهو كما الأُخريات، طُمرت في البيت خوفَ الحياء وتوصلت أخيرًا إلى عقدِ صفقةٍ سريّة معَ الخبيث (السرطان). تمخّض عن ذلك الاتفاق أن تعطيهِ كلّ شهرٍ جديلتيها، ويعطيها ترياقًا حدّهُ ثلاثون يومًا فقط. وإذا ما انقضت الثلاثون رجعَ الخبيثُ مطالبًا بحصته التي لا ينساها ولا يتناسها حتّى .. كانت الأيام تسيرُ بهدوءٍ مُرتقب، لكنّ هاجسَ الموتِ يلاحقها، حتى قالت ذاتَ يومٍ لوالدتها المكلومة : ماما أنا أخافُ الموتَ والقبر كيفَ سأعيشُ هناك، خصوصًا إذا أسدلَ الليلُ ستائرهُ وشقَّ السُكونَ عواءُ الذئاب، ثمّ شهقت أسىً وأردفت قائلة : لا تدفنوني ليلًا فأنا أخافُ الوحشة. صكّت الوالدة جبينها كمدًا وهي ترى نورَ عينيها ينطفيء ثمّ قالت : السرطانُ يا بهجتي ضيفٌ نَهمٌ يأكُل ولا يشبع، ووالدتكِ ماهرةٌ في الطّبخ سوفَ لن أدعهُ يجوعُ أبدًا، حتّى لا نضطرُ لإعطائهِ جديلتيكِ. مرّت السنونُ وهَرمت الوالدة ولم تستطع أن تُشبعَ ضَيفها النَّهِم فقد نفذَ كل ما ادّخرته من أموال، حتّى جاء ذلك اليوم المشؤوم، الذي لم تستطع فيهِ أن تؤدي حقّ الترياق للسمّ الزعاف .. فجاءَ الخبيثُ غاضبًا يتطايرُ الشررُ من عينيه، سألها عن الاتفاق الغابر، أجابته ولم تُكمل بعدُ حتى أحكم قبضتهُ على رقبتها يعصرُ تلكَ الروحُ البريئة، فاصفر وجهها وتعرّق جبينها وانخمدَت أنفاسها الهادئة. ثمّ أفلت يديهِ منسلًا إلى الخارج بضحكاتٍ ماجنة، متجهًا صوبَ بتلةٍ أخرى ينهشها.

اخرى
منذ 5 سنوات
1524

الأمل روح الحياة

بقلم: ريحانة المهدي الأمل روحٌ ثانية إن فقدتها لا تحرم غيرك منها... زهراءُ طفلةٌ يجتمعُ الجمال والبراءة في شخصيتها، في أحد الأيام مرضت وبقيت ممدّدة على فراشها تعاني من مرض خطير ، سألت أختها الكبرى وهي تراقب شجرة بالقرب من نافذتها: -كم ورقة باقية على الشجرة؟ فأجابت الأخت بعين ملؤها الدمع: لماذا تسألين يا حبيبتي؟! أجابت الطفلة المريضة: لأنّي أعلم أنّ أيامي ستنتهي مع وقوع آخر ورقة فقط! كانت تظن بأنّ حياتها ستنتهي بانتهاء أوراق هذه الشجرة فردت الأخت وهي تبتسم: إذن حتى ذلك الحين سنستمتع بحياتنا ونعيش أيامًا جميلة. كانت أختها تحاول زرع روح الأمل في قلب زهراء؛ لتحيا أيامها الباقية بسعادة مرت الايام... وتساقطت الأوراق تباعًا... وبقيت ورقة واحدة معلقةً على الشجرة الموجودة قرب نافذة غرفتها، ظلت الطفلة المريضة تراقبها ظنًّا منها أنّه في اليوم الذي ستسقط فيه هذه الورقة سينهي المرض حياتها. انقضى الخريف، وبعده الشتاء، ومرت السنة... ولم تسقط الورقة والفتاة سعيدة مع أختها، وقد بدأت تستعيد عافيتها من جديد، وأصبحت تشعر بجمال الحياة مع أختها، فقد كانت تقضي أوقاتها باللعب والمرح مع أختها حتى شفيت تمامًا... فكان أول ما فعلته أنّها ذهبت؛ لترى معجزة الورقة التي لم تسقط، فوجدتها ورقة بلاستيكية ثبتتها أختها على الشجرة؛ لتبقى زهراء تشعر بالأمل بعدم انقضاء أيامها! بالأمل نحيا في الحياة، فلولا الأمل لما تقدّم الإنسان خطوةً مع ما يحمل من طموح وبعض الأمنيات...

اخرى
منذ 5 سنوات
1648

يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

بقلم: عمار محمد البعاج "يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ" (١). آية صغيرة من ثلاث كلمات نمر عليها مرور الكرام حين نحفّظ أولادنا سورة الطارق.. لكننا لا نسأل أنفسنا أبداً: لماذا تبلى السرائر؟ ولماذا يحصّل ما في الصدور؟ وإذا كانت أعمالنا أمامك كلها يا رب.. فلماذا تضع نوايانا أيضاً على طاولة الاختبار؟ ما الداعي لذلك؟ لكن حينما ندرك معنى أن تكون الأعمال بالنيات.. ندرك معنى أن يتشابه عملان ظاهريا.. لكن دوافعهما مختلفة تمام الاختلاف.. حينها سيختلف الموقف من هذه الآية. ألا يحتمل أنك حين أرسلت بطاقة دعوة زفافك إلى صديقك.. لم يكن أبدًا هدفك أن يشاركك الفرحة بل أن تغيظه؟ التبرع السخي الذي قدمته.. كان فعلاً من أجل مستحقيه أم لتكسر شعورك الداخلي بأن نقودك جاءت من حرام؟ وهذا التقرير الذي قدمته للمدير.. أكان لمصلحة الشركة فعلاً أم طعناً في زميلك؟ جدتي لأبي كانت امرأة قوية ومؤمنة.. وابتلاها الله (عز وجلّ) بأن مات سبعة من أبنائها صبيانا لم يبلغوا الحلم.. لم يأخذ ذلك من عزيمتها شيئا.. لكن جارة لها وكان بينهما عداوة.. كانت تتعمد كلما مات لجدتي طفل أن تسمي ابنها على اسم الطفل الذي مات.. فَلَمَّا مات لجدتي يوسف.. سمت يوسف.. ولمّا مات أحمد.. سمّت أحمد.. وهكذا.. حتى سمت أربعة من أبنائها بأسماء من قضوا من أعمامي.. وصارت كلّما رأت جدتي مقبلة على بيتها نادت بعلو صوتها على ابنها الرضيع باسمه.. لتسمع جدتي هذا الاسم وتحرق قلبها على ما مات من أطفالها.. وطبعاً جدتي لم تستطع فعل شيء.. لأن من الطبيعي أن تنادي أم على طفلها.. فظاهر العمل كان عاديًا.. لكنها السرائر.. في المرة القادمة التي تحفّظ فيها ابنك سورة الطارق.. تأكد من سرائرك.. __________________ ١- سورة الطارق (الاية ٩)

اخرى
منذ 5 سنوات
2414

أجنحة الملائكة في النص القرآني والروائي

تتعدد الآراء والنظريات حول بعض المفاهيم والألفاظ التي وردت في القرآن الكريم من باب التدقيق والتدبر في كتاب الله الكريم للخروج بحكم أو مفهوم أو حقيقة أو ظاهرة تهم المجتمع. وفي بعض الأحيان تتعدد الآراء وتنحصر ضمن دائرة ضيقة لا تخرج عن الاستدلالات العقلية والفلسفية ومحاولة التوفيق بينها وبين الاستدلالات النقلية من الآيات والروايات للخروج بنتيجة توافقية تلم بجوانب الموضوع. وترد هذه الحالة كثيراً عند التعرض للمسائل الغيبية التي وردت في القرآن حيث لا يمكن التوسع في البحوث التي تخص العوالم الغيبية أو أن نحصرها ونقيّدها ضمن أُطر ومفاهيم محدودة في عالمنا الشهودي، إلاّ ما تم ذكره لنا بشكل صريح في القرآن والسنة النبوية المطهرة وتراث أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، ويبقى دورنا محصوراً في البحث عن تفسير وتأويل هذه المسائل ومحاولة التوفيق بين الآراء والاتجاهات المفسّرة لها والخروج بمحصّلة منطقية مناسبة، تلملم ما ورد في جميع الاتجاهات. ومن هذه المسائل موضوع (أجنحة الملائكة) الذي ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١) وفي تفسير هذه الآية استغرق أغلب المفسرين في كيفية جعل الله تعالى الملائكة رسلاً وربطها بالآيات الأخرى التي تتحدث عن الملائكة لإعطاء صورة واضحة عن الملائكة وحقيقة خلقها وتعدد أدوارها. أما مسألة (أجنحة الملائكة) فبعضٌ قد توسـّع فيها قليلاً والبعض الآخر مرَّ عليها مرور الكرام دون الولوج إلى المسائل المعقدة المتفرّعة من الاختلاف الحاصل في تفسير أصل حقيقة الملائكة التي تمثل مورد اختلاف بين المسلمين، وبالتالي يلقي هذا الخلاف بظلاله على مسألة أجنحة الملائكة بشكل عام فانقسمت الآراء إلى اتجاهين: الاتجاه الأول: يرى بأن الملائكة أجسام لطيفة نورانية قابلة على التمثّل والتشكّل في صور وأشكال مختلفة، ولا يمنع ذلك من وجود الأجنحة للطيران والتحليق في آفاق السموات والأرض، وما اشتراك الملائكة مع الطيور في الأجنحة إلاّ في وظيفتها فقط وهي الحركة والانتقال من مكان إلى آخر. الاتجاه الثاني: يرى بأن الملائكة موجودات عاقلة مجرّدة لا مادة لها وهي بذلك لا تحتاج إلى أجنحة كما للموجودات الجسمانية وأما الأجنحة فهي تعبر عن الاختلاف في الرتب والمقامات والقوى. الجَناح في اللغة : اليد والجمع أجنحة وأجنُح.(٢) وجناح الطائر : ما يخفق به في الطيران والجمع أجنحة وأجنح.(٣) وسُميّ جانبا الشيء جناحاه فقيل : جناحا السفينة، وجناحا العسكر جانباه ، وجناحا الإنسان لجانبيه قال عزوجل : ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ....).(٤)(٥) كما أجمع أغلب المفسرين من جميع المذاهب الإسلامية على أن المقصود بقوله تعالى (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) أي أصحاب أجنحة، ومعنى مثنى وثلاث ورباع أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.(٦) أي إنها ألفاظ دالة على تكرار عدد الأجنحة، والأجنحة هنا تُفَسَّر حسب رؤية كل اتجاه كما أسلفنا. ثم إنّ الاتجاه الأول القائل بأن الملائكة لها أجنحة تستعملها في الطيران والحركة والتنقل قد انقسموا بدورهم إلى فئتين: فئة تذهب إلى أنَّ لأجنحة الملائكة ريشاً وزغباً اعتمادا على بعض الروايات. وفئة ترى أن أجنحة الملائكة ليست من سنخ أجنحة الطيور من الريش والزغب وإنما تشترك معها في الوظيفة فقط وهي الانتقال والحركة. وقد استظهروا على ريش وزغب أجنحة الملائكة من بعض الروايات التي تصرح بذلك، ومنها ما جاء عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: يا حسين - وضرب بيده إلى مساور(٧) في البيت - مساور طال ما اتكت عليها الملائكة وربما التقطنا من زغبها.(٨) وعن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على علي بن الحسين (عليهما السلام) فاحتبست في الدار ساعة، ثم دخلت البيت وهو يلتقط شيئاً وأدخل يده من وراء الستر، فناوله من كان في البيت، فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟ فقال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا، نجعله سيحاً لأولادنا، فقلت: جعلت فداك وإنهم ليأتونكم؟ فقال: يا أبا حمزة إنهم ليزاحمونا على تكأتنا.(٩) وعن عمار الساباطى قال : أصبت شيئاً على وسايد كانت في منزل أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له بعض أصحابنا: ما هذا جعلت فداك، وكان يشبه شيئاً يكون في الحشيش كثيراً كأنه خرزة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا مما يسقط من أجنحة الملائكة. ثم قال: يا عمار، إنَّ الملائكة لتأتينا وإنها لتمر بأجنحتها على رؤوس صبياننا، يا عمار، إنَّ الملائكة لتزاحمنا على نمارقنا.(١٠) وعن الحرث النضري قال رأيت على بعض صبيانهم تعويذًا، فقلت: جعلني الله فداك، أما يكره تعويذ القرآن يعلّق على الصبى؟ فقال: إن ذا ليس بذا، إنّما ذا من ريش الملائكة تطأ فرشنا وتمسح رؤوس صبياننا.(١١) وإن كان مضمون هذه الروايات في ريش وزغب أجنحة الملائكة تشكل نسبة قليلة جدا قياساً بالقول الذي يتبناه أغلب المفسرين والمتكلمين والفلاسفة، حيث قالوا: إنها ليست من سنخ أجنحة الطيور من ريش وزغب، ولكنها تعتبر كأدوات تُمكّن الملائكة من الانتقال والحركة (فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والاستطاعة، فمثلًا يقال: إنّ فلاناً احترقت أجنحته، كناية عن فقدانه قدرة الحركة أو الإمكانية) (١٢) كما ذكر السيد الطباطبائي بأن (وجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الأرض بأمر الله و يعرج به منها إليها، ومن أي موضع إلى أي موضع، و قد سماه القرآن جناحا و لا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه و أما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش و زغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش والكرسي واللوح والقلم وغيرها).(١٣) أما الاتجاه الثاني القائل بتجرد الملائكة عن المادة، فله ما يؤيد نظريته، ومنها: أن الملائكة تتميز بخلوها من القوى الشهوية والغضبية الموجودة في الموجودة الجسمانية، وكذلك فإن الملائكة موجودات لا تقبل الإشارة الحسية، بمعنى أنه من غير الممكن أن نشير إلى الملائكة لا بالذات ولا بالعرض، وبما إن الإشارة الحسية بالذات في مورد الجسد والإشارة بالعرض في مورد الجسمانيات كالقوة الهاضمة والباصرة ممكنة لأنها من خواص الجسم، وكل موجود غير قابل للإشارة الحسية فهو موجود غير مادي، وبالتالي فلا داعي لوجود الاجنحة التي تستعمل للحركة في هذه المخلوقات، وقالوا: بأن عدد الاجنحة كاشف عن مقدار نفوذ الملائكة وسرعتها في أداء الأوامر الالهية، كما أن الاختلاف الحاصل في أعداد تلك الأجنحة دال على الفرق في مراتبها أو اختلاف عوالمها، ونحن هنا لسنا بصدد البحث في حقيقة الموجودات الجسمانية والمجردة، لأنه مورد خلاف بين المسلمين وإنما أشرنا إليه بحسب ما نحتاجه من فهم في مسألة أجنحة الملائكة. وبلحاظ ما تقدم من الاختلاف في حقيقة الملائكة وتبعاتها على مسألة الأجنحة، وتمسك كل فريق بآرائه ونظرياته، فإننا نستطيع الجمع بين القولين من خلال الجمع بين صفات الملائكة جميعاً. ومن خلال استقراء آيات القرآن الكريم نرى بأن للملائكة أصنافاً كثيرة ومراتب عديدة ووظائف مختلفة، مما يستوجب كلا الحقيقتين: الجسمانية والمجرد،ة وهو رأي العلماء والفلاسفة المحدثين كالسيد الخميني... وهذا الجمع بين الاتجاهين لا يمنعنا من القول: إن هناك أنواعاً من الملائكة جسمانية وأخرى مجردة، حسب الوظيفة المناطة بها في عالمها ،وبالتالي فإن أجنحتها حسب نظرية الموجودات الجسمانية تستخدم للانتقال والحركة، ولا يمنع ذلك أيضاً من أن يكون للأجنحة ريش وزغب او لا يكون لها ذلك، وأما حسب نظرية الموجودات المجردة فإنها بالنظر لفقدان الملائكة للقوى الغضبية والشهوية وإنها مخلوقات لا تقبل الإشارة الحسية، فبالتالي تكون الأجنحة فيها كناية عن تعدد المقامات والقوى. استطراد: وانطلاقًا من فكرة أجنحة الملائكة يمكننا تثبيت عدة مفاهيم وفوائد تربوية يمكننا ان نستخلصها من القران الكريم والسُنّة النبوية المطهّرة وتراث مدرسة أهل البيت (عليهم جميعاً سلام الله) نمر عليها سريعاً منها: ١_فضيلة طلب العلم فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (.... إنَّ الملائكة يضع أجنحتها لطالب العلم رضا به....)(١٤) وأجنحة الملائكة التي تحمل طالب العلم هنا كناية عن عظم مقامه ورفعه إلى مستويات عالية تعظيماً له. ٢_ التواضع وهو فائدة تربوية نستخلصها من مفهوم الجناح في النص القرآني، فقد نسب الله سبحانه الجناح إلى الإنسان، وأمره بخفضه، ويريد به التواضع، بقوله تعالى:﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾(١٥) وكما يقال: إنّ للإنسان جناحين، جناح العلم، وجناح العمل، فيكون التواضع متعلقاً بجانبي العلم والعمل. وقد أولى القرآن الكريم لهذا الموضوع حظوة عظيمة حتى تنوع في مصاديقه، مما يدل على عموميته. -فما هو التواضع؟ -وماهي مصاديقه؟ -وما نتائجه؟ هذا ما سنعرفه ضمن عدة نقاط: النقطة الاولى: تعريف التواضع -التواضع لغةً: "هو التذلّل"(١٦). -واصطلاحًا: "انكسار للنفس يمنعها من أن يرى [صاحبها] لِذَاتها جميلاً على الغير، وتلزمه أفعال وأقوال موجبة لاستعظام الغير وإكرامه"(١٧). أو "هو احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم"(١٨). النقطة الثانية: مصاديق التواضع للتواضع مصاديق كثيرة، منها ما أشار الله سبحانه إليها صراحةً، واخرى ضمناً، وكذلك الروايات، ومن تلك المصاديق: ١-التواضع في المشي، بدليل قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾(١٩). ٢-التواضع في الكلام، بدليل ظاهر قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِك}(٢٠). ٣-التواضع في تعليم العلم وتعلمه، بدليل ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "تواضعوا لمن طل بتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم"(٢١). النقطة الثالثة: نتائج التواضع. لو أن كلاً منّا خفض جناحه في الموارد التي أمره الله تعالى ونبيه وأهل بيته (عليهم السلام) لساد العيش الرغيد، وضُمنت الحقوق، وأُديت الالتزامات، فبين يدي القراء نضع آثار هذا الخلق العظيم: ١-انتشار المحبة بين الناس. ٢-انتشار المهابة والاحترام. ٣-التسابق إلى فضائل الأخلاق. ٤-تطبيق معالم الشريعة قولاً وفعلا. ٥-القضاء على الغرور واندكاك الأنا. ___ الهوامش (١)سورة فاطر:١. (٢) القاموس المحيط ،ص ٢٠٦. (٣)المحكم والمحيط الأعظم ،ص٤٤١. (٤)سورة طه:٢٢. (٥)مفردات غريب القرآن ص ٢٠٦. (٦) التبيان في تفسير القرآن، ج٨، ص ٣٩٧. (٧)المساور جمع المسور متكأ من جلد. (٨)الكافي ج١ ص٣٩٣ ح٢باب أن الائمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم وتأتيهم بالاخبار عليهم السلام. (٩)المصدر السابق ح٣. (١٠)بصائر الدرجات ص١١٥ ح٥. (١١)المصدر السابق ، ص١١٦، ح١٠. (١٢)تفسير الأمثل، ١٤،ص١١. (١٣)تفسير الميزان ، ج١٧، ص٢. (١٤)الكافي ، ج١ ، ص٣٤ ، ح١ ، باب ثواب العالم والمتعلم. (١٥)سورة الشعراء/٢١٥. (١٦)العين، ج ٣، ص ١٩٦١. (١٧) جامع السعادات، ج١، ص٣٤١. (١٨)أخلاق أهل البيت، ص٣٦. (١٩)سورة الفرقان: ٦٣. (٢٠)سورة لقمان: ١٩. (٢١)الكافي، ج١، ص٣٦. بقلم عبير المنظور علوية الحسيني

اخرى
منذ 5 سنوات
11761

التوحيــد الصفـــاتي

بقلم: رضا الله غايتي للتوحيد مكانةٌ عليا في الشريعة الخاتمة بل في الشرائع السماوية كافة، إذ ما من رسول إلا وتصدرت رسالته الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك، قال(تعالى): "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل36). وللتوحيد مراحل لابد للمكلف من قطعها جميعاً ليكون موّحِداً وهي: التوحيد في الذات، وفي الصفات، وفي الخالقية، وفي الربوبية، وفي العبادة. ولعدم إمكان التعرض إليها جميعاً ارتأينا الاقتصار على التوحيد في الصفات. صفاته (تعالى) تنقسم إلى قسمين: فمنها ما ينسب الى ذاته ابتداءً بلا توسط أي شيء كالعلم، والقدرة، والغنى، والارادة، والحياة وتسمى بالصفات الثبوتية الحقيقية، ومنها ما تُنسب إليه بلحاظ ما يصدر عنه من الأفعال: كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية، وتسمى بالصفات الثبوتية الاضافية. وقد وقع الخلاف في الصفات الثبوتية الحقيقية بين الأشاعرة وغيرهم في أنه: هل أنها عين ذاته المقدسة أو غير ذلك؟ بخلاف الصفات الثبوتية الاضافية التي لم يقع فيها هكذا خلاف؛ لأنها صفاتٌ تجري عليه (سبحانه) تبعاً لمنشأ انتزاعها، فبلحاظ خلقه للخلق اتسم بالخالقية، وبلحاظ رزقه إياهم اتسم بالرازقية وهكذا. ولبيان عقيدتنا في الصفات الثبوتية الحقيقية لابد من تقديم مقدمة مفادها: إن الصفات بشكل عام تكون على قسمين: قسم يلازم تصور الموصوف تصور الصفة ولا ينفك عنها ولا يمكن سلبها عن موضوعها ويستحيل وجوده بدونها، وتسمى ذاتية وعينية مثل إضاءة النور، وحرارة النار، وظلمة الليل، وضوء النهار، وقسم يمكن سلب الصفة عن الموصوف، وتصوره بوجوده معها أو من دونها، وتسمى عرضية وزائدة، كحرارة الحديد وضوء القمر، والصفرة من الوجل والحمرة من الخجل. وبقليلٍ من التأمل في الصفات محل النزاع (العلم، والقدرة، والغنى، والارادة، والحياة) نقطع بأنها لابد أن تكون ذاتية وعينية ويستحيل أن تكون عارضة وزائدة؛ وذلك لأنها لو كانت عارضة على ذاته المقدسة وزائدة عليها لكان (سبحانه) محتاجاً ومفتقراً إليها، والاحتياج والافتقار سمة الإمكان وهو (جل وعلا) واجب الوجود، وعليه من المحال أن تكون صفاته زائدة، ولابد أن تكون ذاتية وعينية. كما أن القول بأن صفاته زائدة على ذاته يقتضي أن يكون (سبحانه) فاقداً لها ثم اتصف بها، بمعنى أنه كان جاهلاً (وحاشاه) ثم أصبح عالماً، وكان عاجزاً ثم أصبح قادراً، وكان مفتقراً ثم أصبح غنياً، وهكذا! ولدفع هذا الإشكال الذي أوقع الأشاعرة فيه أنفسهم قالوا بقدم هذه الصفات بقدمه (سبحانه)! فوقعوا بما هو أسوأ وهو القول بتعدد القدماء. وبما أن كل ذلك محالٌ عليه (سبحانه)، إذاً يتأكد أن تكون صفاته ذاتية وعينية لا عارضة وخارجية كما قالت الأشاعرة. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الأدلة الشرعية هي الأخرى قد أثبتت عينية الصفات، ففي القرآن الكريم ورد قوله (تعالى): "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"(يوسف76)، ومن المعلوم في اللغة أنّ (ذي) تدل على المصاحبة والمقارنة، وعليه فإن (ذي علمٍ) هو (من كان علمه عارضاً على ذاته وخارجاً عنها) وهذا لابد أن يكون فوقه (عليمٌ) وهو (من كان علمه صفة ذاته وعين ذاته) وهو الله (عز وجلّ).(1) وأما في السنة النبوية فقد روى الحسين بن خالد عن الامام الرضا (عليه السلام): "سمعت [الإمام]الرضا يقول: لم يزل الله سبحانه عليماً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيراً، قلت: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن قوماً يقولون أنه عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة، وقديم بقدم، وسميع بسمع، فقال (عليه السلام): من قال بذلك ودان به، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وليس من ولايتنا على شيء، ثم قال (عليه السلام): لم يزل الله عز وجل عليماً، قادراً، حياً، قديماً، سميعاً، بصيراً لذاته"(2). كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "وكمال الإخلاص له: نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه...."(3) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)انظر: الميزان في تفسير القرآن ج11 ص121 (2)مسند الإمام الرضا (ع)ج1ص205 (3)في ظلال نهج البلاغةج1ص20

اخرى
منذ 5 سنوات
1162

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70165

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51212

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41389

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
35826

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
32610

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32189