Profile Image

علوية الحسيني

تجلياتٌ معرفيةٌ في الخطابِ المهدوي (21)

بقلم: علوية الحسيني "وأوردْ عليّ من شيعتي وأنصاري [و]من تقرّ بهم العين، ويُشدُّ بهم الأزر، واجعلهم في حرزِك وأمنِك برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين" ويختم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) دعاءه بأنْ يجمعه الله (تعالى) بشيعتِه وأنصاره بإحضارهم عنده, حيثُ محلّ ظهوره الأكبر-مكة المكرمة-, بل والذين يُمهدون له حين ظهوره الأصغر, فيدعو لهم بالحفظِ والصونِ. *قوله: "وأوردْ عليّ" أي "أحضِر لي, فيقال: أوردَ الشيء أيّ أحضره"(1), كما وجاء في التنزيل العديد من الآيات المشتملة على لفظة (الورود), و"أنَّ الورود لا يدلُّ على أزيدِ من الحضور والإشراف عن قصد"(2). *قوله: "من شيعتي" أي من أتباعي ومن سار على خطاي ونصرني ولم يخالفني. *وقوله: "وأنصاري" جمع ناصر, "فيُسمى رجل نصرة, فأنصار النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، حيث غلبت عليهم صفة النصر فسُموا بالأنصار"(4), كما لله (تعالى) أنصار, جاء في التنزيل: "قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه"(5). ولعل هناك فرقًا بين شيعةِ الإمام وأنصاره, من حيث أنّ الأنصار أخص من الشيعة، فهم شيعة بدرجة الأنصار، وهناك شيعة لكن لم يصلوا إلى درجة الأنصار. وعلى كل حال، فالذين ينصرون الإمام لاشكّ أنّهم من شيعته, وإلاّ كيف ينصرونه إنْ كان مخالفًا لهم بالمنهج. وقد يجمعهما مصطلحٌ واحدٌ وهو الأصحاب, الأحياءُ الذين سيعاصرون زمن الإمام, أو الأموات الذين سيرجعون إلى الحياة الدنيا. وعليه, فلا بأس في تسليطِ الضوء على بعضِ الفئات التي ستُصاحب الإمام (عجل الله فرجه) وتنصره آنذاك, وهي: 1/ الملائكة روي عَنْ أبي حمزة الثمالي أنّه قَالَ: "سمعتُ أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يَقُول: لو قد خَرَجَ قائمُ آلِ محمدٍ (عليهم السلام) لَنَصَرَهُ اللهُ بالملائكة المسومين، والمردفين، والمنزلين، والكروبيين، يكون جبرئيل أمامه، وميكائيل عَنْ يمينه، وإسرافيل عَنْ يساره، ...الملائكة الْمقربون حذاه"(6). 2/ بعض الأنبياء (عليهم السلام) والصالحين. كالنبي عيسى (عليه السلام)، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): "...إذا خَرَجَ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي نَزَلَ عيسى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فَصَلّى خَلْفَه"(7). وكالخضر؛ رويَ عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "إِنَّ الخِضْرَ (عليه السلام) شَرِبَ مِنْ مَاءِ الحَيَاةِ، فَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ،... وَسَيُؤْنِسُ اللهُ بِهِ وَحْشَةَ قائِمِنَا فِي غَيْبَتِهِ وَيَصِلُ بِهِ وَحْدَتَه"(8). 3/ النبيُّ وأهلُ بيته (عليهم السلام أجمعين) جاء في تفسير علي بن إبراهيم...عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في قوله: "إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قال: "يرجع إليكم نبيكم (صلى الله عليه وآله)"(9). 4/ من سائر البشر غير ما سبق, وهم أصناف: أ) سبعون ألف صدّيق؛ كما روي عَنْ الفضل بن شاذان بإسناده عَنْ أبي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: "إذا ظَهَرَ الْقَائِمُ وَدَخَلَ الكُوفَةَ بَعَثَ اللهُ (تَعَالَى) مِنْ ظَهْرِ الكُوفَةِ سَبْعينَ ألْفِ صِدّيقٍ، فَيَكُونُونَ في أصْحَابِهِ وَأنْصَارِهِ"(10). ب) بعض أصحاب الأنبياء السابقين، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إذَا قَامَ قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) استخرجَ مِنْ ظَهْرِ الكَعْبَةِ [الكوفة. خ.ل] سبعةَ وعشرين رَجُلًا؛ خمسة وعشرين من قوم مُوسَى الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أصْحَاب الكهف، ويوشع وصي مُوسَى، ومؤمن آل فرعون، وسلمان الفارسي، وأبا دجانة الأنصاري، ومالك الأشتر"(11). -فإن قيل: إنّهم ليسوا على المذهب الجعفري حتى يُلزموا بطاعةِ ونصرةِ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)! - فممكن أنْ يُقال: أولًا: إنّ أوّل من شهد بالربوبية لله (تعالى) في عالمِ الذر هو النبي محمد وأهل بيته (عليه وعليهم السلام), أمام مرأى ومسمع الأنبياء الآخرين, فلا يُستبعد أنّ الأنبياءَ أخبروا أصحابَهم عن فضل النبي الخاتم وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم), ووجوب طاعة خاتم أهل البيت حين رجوعهم للحياة الدنيا. ثانيًا: هناك رواياتٌ تشيرُ إلى أنّ أحد الحواريين كان قد علّمه النبي عيسى (عليه السلام) فضلَ الإمام الخاتم الذي سيُصلّي النبي عيسى خلفه؛ حيث روي "أنّ رجلًا نصرانياً معه كتاب أتى أمير المؤمنين وقال له: إنّه من نسلِ حواري عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنّ عيسى أوصى إليه ودفع إليه كتبه, وفيها...أنّ الله (تبارك وتعالى) يبعثُ رَجُلًا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله...يُقَالُ لَهُ: أحمد،... وفيها ما تلقى أمته بعده إلى أنْ ينزل عيسى بن مريم من السماء, وأنّهم من أحبِّ خلقِ الله إليه، والله ولي لمن والاهم، وعدو لمن عاداهم، من أطاعهم اهتدى، ومن عصاهم ضل، طاعتهم لله طاعة، ومعصيتهم لله معصية،... وفيه الذي يظهر مِنْهُم وينقادُ له الناس حتى ينزل عيسى بن مريم (عليه السلام) على آخرهم فيصلي عيسى خلفه ويَقُول: إنّكم لأئمة، لا ينبغي لأحدٍ أنْ يتقدمكم، فيتقدم فيصلى بالناس وعيسى خلفه في الصف"(12). ج) اليماني. كذلك هناك من هم قادة جيشٍ سينالون شرف نصرة الإمام؛ كاليماني؛ كما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "...وَلَيْسَ فِي الرَّايَاتِ رَايَةٌ أَهْدَى مِنْ رَايَةِ اليَمانِيِّ، هي رايَةُ هُدىً، لأنّه يَدْعُو إِلى صَاحِبِكُم"(13). د) الخراساني وشعيب بن صالح وهما اللذان سيكونُ لهما دورٌ في النصر؛ رويَ عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "يخرجُ شاب من بني هاشم بكفِّه اليمنى خال، من خراسان براياتٍ سود بين يديه شعيب بن صالح يقاتل أصحاب السفياني فيهزمهم"(14). هـ) قادة جيشِ الإمام من الرجال والنساء. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "فيقومُ القائمُ بين الركنِ والمقام فيصلي.... ويجئ والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا فيهم خمسون امرأة يجتمعون بمكةَ على غيرِ ميعاد قزعًا كقزعِ الخريف يتبع بعضهم بعضًا"(15). 5/ الجن. روي عن المفضل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "فإذا طلعت وابيضت صاح صائح بالخلائق من عين الشمس بلسانٍ عربيٍ مبين يسمعه من في السماوات والأرض يا معاشر الخلائق هذا مهديُ آل محمد ويسميه باسم جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ...فأول من يلبي نداءه الملائكة ثم الجن ثم النقباء ويقولون سمعنا وأطعنا..."(16). *قوله: "[و]من تقرّ بهم العين" فأما معنى قرّت, فيقال: "قَرَّت عينُه مأْخوذٌ من القَرُور، وهو الدمعُ الباردُ يخرجُ مع الفرح، وقيلَ: هو من القَرارِ، وهو الهُدُوء"(17). ولاشك أنّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه) ستقرُّ عينُه بأتباعه وأنصاره؛ إذ ثبتوا على عقيدتهم, وطبقوا أحكام فروع دينهم, وكانت أزكى الأخلاق أخلاقهم, فجاهدوا أنفسهم, حتى باتوا أورع الناس في زمنهم. فلعلّ الإمام يبكي فرحًا, بدمعٍ باردٍ؛ لما يراه من أنصاره من الرجال والنساء, ولعلّه يهدأ روعه لما يرى من تمهيد أنصاره وشيعته له. *قوله: "ويشدّ بهم الأزر"، أي تتضاعف بهم قوّتي, فيقال: "أَزَرَهُ وآزَرَهُ: أَعانه وأَسعده، من الأَزْر: القُوَّةِ والشِّدّة"(18). ودعاء الإمام (عليه السلام) هذا نظير الدعاء الذي دعا به النبي موسى (عليهما السلام) بأنْ يشدّ أزره بهارون (عليه السلام)؛ قال (تعالى) في مقام الحكاية: "هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي"(19). حيثُ إنّ سبب طلب النبي موسى (عليه السلام) كان "احتياجه إلى من ينتصرُ به؛ لكثرةِ مهامه التي لا يستطيع القيام بها لوحده, فاستجابَ له ربّه وشدّ أزره –قوّته- بأخيه هارون"(20). فكذا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لكثرة مهامه المباركة يطلبُ من الله (تعالى) أنْ يشد قوّته بشيعته وأنصاره, فيتقاسموا مهام النصرة معه؛ حيث إنّ الروايات صدحت بدورهم في عملية النصرة, سواء أكانت نصرةً عسكريةً فتشمل شدَّ الأزر بالأنصار من الرجال, أو نصرةً دعويةً عقائدية, أخلاقية, فتشملُ شدَّ الأزر بالأنصار من الرجال والنساء. *قولُه: "واجعلهم في حرزك وأمنك" يدعو الإمام لشيعته وأنصاره بالحفظ؛ لما سيتعرضون له من تصدي للأعداء, فالحرز هو الحصن الذي يصون الشخص, وظاهرًا المراد هو: احفظهم يا ربِّ في مكانٍ يأمنون شرَّ الأعداء فيه. أما أمن الله تعالى: فالأمن ضد الخوف‏ مطلقًا -سواء كان خوفًا عسكريًا أو فكريًا-, ومعه, يدعو الإمام لهم أنْ يكونوا بأمنٍ وأمانٍ برعاية الله (تعالى) لهم, وفعلًا يستجيب (تعالى) له؛ حيث يروي الإمام الصادق (عليه السلام) صفات بعض أنصار الإمام قائلًا: "... ورجالٌ كأنَّ قلوبَهم زبرُ الحديد، لا يشوبها شكٌّ في ذاتِ الله، أشدّ من الحجر، لو حملوا على الجبالِ لأزالوها، ...فيهم رجالٌ لا ينامون الليل، لهم دويٌّ في صلاتهم كدويِّ النحل، يبيتون قيامًا على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأَمَة لسيِّدها، كالمصابيح، كأنَّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنَّون أنْ يُقتَلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسيرُ الرعبُ أمامهم مسيرة شهر، يمشونَ إلى المولى إرسالًا، بهم ينصرُ الله إمام الحقِّ"(21). * قوله: "برحمتك يا أرحمَ الرّاحمين" لعلّه اشارةٌ من الإمام إلى جانب الرحمة من الله (تعالى) والتي يُجسدها هو (عجّل الله فرجه الشريف). *وإلى هُنا ينتهي دعاء الاحتجاب المبارك للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), أسألُ الله (تعالى) ووليّه القبول الحسن لهذه البضاعة المزجاة. ___________________ (1) ظ: تاج العروس: للزبيدي, ج6, ص285. (2) تفسير الميزان: للسيد الطباطبائي, ج14, ص91. (4) ظ:القاموس المحيط: للفيروز آبادي, ج2, ص143. (5) سورة آل عمران: 52. (6) الغيبة: للشيخ النعماني, ج1, ب13, ح22. (7) عيون أخبار الرضا: للشيخ الصدوق, ج2, ص218, ح1. (8) كمال الدين وتمام النعمة: للشيخ الصدوق, ج2, ب38, ح4. (9) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج53, باب29, ح33. (10) المصدر السابق, ج52, ب27, ح212. (11) الإرشاد: للشيخ المفيد, ج2, ص386. (12) ظ: الغيبة: للشيخ النعماني, ج1, ص77. (13) المصدر نفسه, ج1, ب14, ح13. (14) الملاحم والفتن: للسيد ابن طاووس, ج1, ب97, ح115. (15) معجم أحاديث الامام المهدي: للشيخ الكوراني, ج5, ص 11, ح1452. (16) الهداية الكبرى: للخصيبي, ص397. (17) لسان العرب: لابن منظور, ج5, ص86. (18) المصدر نفسه, ج4, ص17. (19) سورة طه: 30-31. (20) تفسير الميزان: للسيد الطباطبائي, ج14, ص146-147. (21) بحار الأنوار: للعلاّمة المجلسي, ج52, ب26, ح82. اللّهم اجعلني من أنصاره وأعوانه, والذابين عنه, بحقِّ محمدٍ وآله.

العقائد
منذ 3 سنوات
401

إحياءُ شعيرةِ ذكرى ولادة الإمام الرضا (عليه السلام)

بقلم: علوية الحسيني قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: "وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب"(1), الآيةُ في سياقها تتكلم عن شعيرة الحج؛ حيث إنّ الآيات التي بعدها تكلّمت عن ذبحِ الأنعام وشروط فديتها, وجعلته باعثًا للتقوى. فالحاجُّ الذي يذبحُ الأنعام فإنّه قد أحيا شعيرةً أمره الله (تعالى) بها إذًا هو متقي؛ لأنّه أحيا شعائر الله (تعالى). "أما الآيات التي تليها تتكلم عن المؤمنين الذين ظُلِموا حيث مهّد الله (تعالى) لهم تمهيدًا, فكان سبب نزول هذه الآية هو أنّ المؤمنين كانوا يعانون من أذى المشركين فيما سبق ولا يستطيعون الدفاع؛ لأنّ الجهاد لم يكن مشرعًا لهم. ولهذا تولى الله (تعالى) الدفاع عنهم, فنزلت شعيرة الجهاد"(2). الإمام الرضا (عليه السلام) أدّى شعيرة الجهاد, حيث جاهد بكلِّ جوانب الجهاد, الفكري, التربوي, النفسي, والمالي. والشعيرةُ هي كلُّ عملٍ يكون مظهره الجزع على مصابِ الأئمة (عليهم السلام), أو يكون مظهرًا لمواساتهم في مظلومياتهم, أو مظهرًا لإعلاء ذكر الله (تعالى), أو مظهرًا من مظاهر الفرح لفرح آل محمدٍ (عليهم السلام), وذكرنا لذلك هو نوعٌ من إحياء الشعائر من وجه. إنّ الأدوار التي قام بها الإمام الرضا (عليه السلام) شمولية, لم تُحد بعمرٍ معيّن, وبمواقف معيّنة, بل ولا بعلمٍ معيّن. "فلا نستطيع أنْ نقول إنَّ الإمام فقط في مرحلة الشباب قد جدَّ واجتهد, ونشر علوم الدين, وحافظ على معالم الدين القويم, وربّى من الفئات ما ربّى, بل كان دوره شموليًا, فكان هو المسئول عن ثبات هذا المنهج الإسلامي, وحفظه من التشويه والتحريف, فقد قام الإمام بعدة أدوارٍ منها: أولًا: الدور الرسالي حيث إنّ الإمام الرضا (عليه السلام) صحّح الأفكار, ونشر الصحيح منها, وبيّن الأحكام الشرعية, وأبطل البدع والأفكار الجديدة التي لا تنسجم مع مبادئ الدين. روي أنَّ قومًا جاؤوا من وراء النهر إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقالوا: جئناك نسألك عن ثلاث مسائل فإن أجبتنا فيها علمنا انك عالم فقال: سلوا فقالوا: أخبرنا عن الله تعالى أين كان؟ كيف كان؟ وعلى أي شيءٍ كان اعتماده؟ فقال (عليه السلام): إنّ الله (تعالى) كيّف الكيف فهو بلا كيف، وأيّن الأين فهو بلا أين، وكان اعتماده على قدرته فقالوا: نشهد أنّك عالم.(3) ثانيًا: دوره التربوي حيث كان الإمام هو المربي في وسط أجواء كانت تسودها الرذائل الأخلاقية, كيف لا وقائد الدولة آنذاك المأمون, الذي أدمن الغناء والخمر, حتى وصل به المقام إلى تخصيص مرتب للمغنين على حساب الفقراء في شعبه!. ثالثًا: الدور السياسي حيث كانت الطبقة السياسية لم تستغنِ عن مشورة الإمام؛ لحكمته, وبصيرته"(4). *وهنا سؤالٌ: كيف نُحيي شعيرة ذكرى ميلاد الإمام الرضا (عليه السلام)؟ هل يكفي اطلاعنا على الأدوار التي قام بها الإمام, أو عبادته, تعامله, أو تعامله؟ هل يكفي الحبّ القلبي له (عليه السلام)؟ الجواب: كلّ ذلك لا يكفي استقلالًا؛ لأنّ الإيمان هو إقرارٌ باللسان, ومعرفة بالقلب, وعملٌ بالجوارح. ثلاثةُ أركانٍ لابُدّ من تحقيقها حتى نقول: إنّا أحيينا شعائر الإمام. *فمن موجبات إحياء شعيرة ذكرى ولادة الإمام الرضا (عليه السلام), وإدخال السرور على قلبه: 1/ الالتزام بالواجبات والاجتناب عن المحرمات. 2/ الدعاء بتعجيل فرج آل محمد (عليهم السلام). 3/ كتابة بحث, أو مقال, أو قصة, أو شعر, بعد الاطلاع على سيرته, بهدف بيان فضائل الامام, ومقاماته, مواقفه, ومظلومياته. 4/ إتقان العمل البيتي, أو حتى الوظيفي المقرون بمراعاة العفة والحشمة والأدب للنساء, والورع وغضِّ البصر للرجال. 5/ إعطاء الجوارح حقّها, ومنعها عمّا يغضب الله (تعالى), كعدم الذهاب للأعراس ذات الغناء الماجن, وعدم المشاركة بالغيبة والنميمة. واستبدال ذلك بما يرضي الله (تعالى). 6/ صلة الأرحام, لما لها من أهميةٍ بالغة, ولأنّ قطعها من الكبائر. 7/ الإحسان إلى الوالدين, فرضا الله (تعالى) من رضاهما. 8/ تربية الأبناء على نهج أهل البيت (عليهم السلام). 9/ تنظيم الوقت وتقسيمه, وإعطاء كلّ قسم حقه. 10/ التفقه في دين الله (تعالى) بتعلّم كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ولو الأحكام المبتلى بها. 11/ الثبات على العقيدة, والعمل على الدفاع عنها إن أمكن. 12/ المساهمة في كفالة يتيم, ومساعدة الفقراء, والتقرب بذلك لله (تعالى). 13/ العمل على التمهيد لظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف). 14/ توثيق العلاقة الروحية بالنبي وآله (عليهم السلام), وإهداؤهم ثوابَ كلِّ عملٍ مستحب. ولاشك أنّ تحقيق تلك الموجبات هو إحياءٌ لشعائر الأئمة عمومًا (عليهم السلام)؛ لأنّها تحقق الزين, وتدفع الشين, الذي صدحت به روايات أهل البيت (عليهم السلام). ولاشك أنّ كلامهم هو كلام الإمام الرضا (عليه السلام)؛ ولهذا كان هدفهم واحداً مع تعدد شخوصهم وأدوارهم، فالدينُ واحدٌ, والنهجُ واحدٌ, ومن يُحيي أوامر الله (تعالى) فقد أحيا شعيرتهم (عليهم السلام)؛ لأنّ في ذلك ديدنهم, ولأنّ ذلك محققٌ للتقوى المترتبة على إحياء الشعائر كما نصت الآية في أعلاه "وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب". وتقوى القلوب هي خشيةُ الله (تعالى) بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه. فالتقوى هي: تطبيق شريعة الله (تعالى) بالعمل بالواجبات, واجتناب المحرمات, ووضع النفس في موضعٍ يراها الله (تعالى) على خيرٍ, وإبعادها عمّا لا يرضه (تعالى). وهذا الكلام مستند إلى رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أنْ لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك"(5), وما تلك الموجبات الأربعة عشر المتقدمة -وغيرها- إلاّ وسائل لتحقيق التقوى. وبالتالي يكون الغرض الأسمى من احياء الشعائر هو تقوى الله (سبحانه وتعالى). ___________________ (1) سورة الحج: 32. (2) ظ: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي, ج14. (3) عيون أخبار الرضا (ع) للشيخ الصدوق ج ٢ ص١٠٨ (4) أعلام الهداية: للشيخ باقر شريف القرشي, ب4, ف2. (5) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج67, ص285. والحمد لله رب العالمين, وصلى الله (تعالى) على خير خلق الله أجمعين, محمدٍ المصطفى, وأهل بيته الطيبين الطاهرين. اللهم ارزقنا شفاعة وزيارة الإمام الرضا (عليه السلام), والسير على خطاه, وإحياء أمره.

المناسبات الدينية
منذ 3 سنوات
367

رسالاتٌ في زمنِ الوباء (٦)

بقلم: علوية الحسيني مسؤوليةٌ مبكرة لا يكاد بيتٌ يخلو من رجلٍ وامرأة, وهذا هو خلقُ الله (تعالى) لبني البشر, وميّز بين مسؤولياتهما؛ بحسب الطبيعة الفسيولوجية لكلٍّ منهما, فالأعمالُ الشاقة من مسؤوليات الرجل, وغيرها من مسؤوليات المرأة. كما لا يكادُ بيتٌ يخلو من أعمالٍ شاقةٍ وغيرِ شاقة, فيقومُ بها كلٌ منهما بحسبِ مسؤولياته. فما أحوجَ الأبناءِ اليومَ إلى خبراتِ الأبوين في أداء تلك المسؤوليات, وما أحوجهم إلى معرفة كيفية اكتسابها! رسالتُنا اليوم تتناول موضوع تحميل الأولادِ المسؤوليات مبكرًا؛ اغتنامًا للوقتِ الذي يقضونه أثناء الحجر المنزلي. إنّ الظرف الذي نعيشه اليوم قد يفرضُ على من لم يتحمل المسؤولية أنْ يتحملها, بل وتُفجِّر فيه الطاقات الكامنة والمواهب تفجّرَ العينِ من سفحِ الجبل, حيثُ لا تتولد تلك الطاقات والمواهب إلاّ في غضون ظروفٍ معينة. وزمنُ الحجر المنزلي, من الممكن أنْ يُعدّ عاملاً مساعدًا على تعليمِ الأبناء مسؤولياتهم, وتنميةِ مواهبهم, ودعم طاقاتهم؛ حيث الآباء والأبناء مجتمعون. وحتمًا إنّها لفرصةٌ عظيمة لإعادةِ النظر في تقصيرِ الآباء أو الأمهات بتربيةِ الأبناء, وتعريفهم بمسؤولياتهم. فبعضُ البيوتات اليوم باتت لا تولي أهميةً لتكليف أبنائهم وبناتهم بالمسؤوليات, في حين نجدُ البعضَ الآخر منها أولتْه, حتى وَلّوهم مسؤولياتٍ مبكرة؛ فالتعلّم في الطفولة يُضفي على الشخصيةِ الجدّية, وتسهيلِ الصعاب, فحمّلت أولادها المسؤولية فعلًا بعد اكتمال أهليتهم لذلك. فماذا لو علّم الآباءُ أبناءهم الأمور التالية: 1/ استعمالات المطرقة, وكيفية طرق المسامير. 2/ كيفية إصلاح بعض الحاجات المكسورة, باللحيم, أو اللصق. 3/ كيفية استعمال مفك البراغي؛ لإصلاحِ حاجيات البيت. 4/ التدريب على حملِ بعض الأثقال. 5/ تقليب التربة, وغرس الأشجار. 6/ قيادة السيارة وفق القواعد الصحيحة. 7/ الأحكام الشرعية المبتلى فيها. 8/ العناية الشخصية؛ كتصفيف الشعر, وتنسيق ألوان الملابس. وماذا لو علّمت الأمهات بناتهنّ الأمور التالية: 1/ كيفية إعداد الطعام, وفنِّ تقديمه, وعمل المعجنات وتزيينها. 2/ كيفية غسيل الأواني -ولو بتوسط كرسي-. 3/ غسيل الملابس وفق القواعد الصحيحة. 4/ تنظيف البيت بالقدر المستطاع. 5/ إتكيت ترتيب خزانة الملابس. 6/ الخياطة أو الحياكة أو أي مهنة تمتهنها الأم أو هوايةٌ تتقنها. 7/ الأمور الشرعية المبتلى بها. 8/ العناية الشخصية؛ كتصفيف الشعر, وتنسيق ألوان الملابس. نعم, قد تكون المسؤولية مبكرة على بعض الأبناء والفتيات, إلاّ أنّ ثمرةَ هذا تعودُ بالنفع على الطرفين, بل وقد تقضي على وقتِ الفراغ, وإنْ كان ما تمَّ ذكره من نقاط ليست بدائل لملء وقت الفراغ, بل سيأتي عنه الكلام في الرسالة القادمة إن شاء الله (تعالى). وأمّا من كان منهم مستحقًا للمسؤولية, فقد آن الأوان لتذكيره بها, وتعليمه إيّاها, باغتنام فرصة الحجر المنزلي. ولابد أنْ نلتفت إلى أنّ الشروع في تحميل الأبناء والفتيات بالمسؤوليات المبكرة –بل وحتى من غفل الأبوان عن تحميلهم رغم استحقاقهم- هو نوعٌ من تقليلِ التوترِ والقلقِ الذي قد يشوبُ بعض البيوتات؛ نتيجةَ التفكير بالوباء (كوفيد19), والقضاء على تهويل الإعلام. كما قد يكون (الشروع في المسؤوليات المبكرة) أحد الحلول المخففة للضغوطات النفسية عنهم, بل وحتى عن الآباء.

القضايا الاجتماعية
منذ 3 سنوات
302

رسالاتٌ في زمن الوباء (٧) استثمارُ الوقت

بقلم: علوية الحسيني الوقتُ هو العمر، فكلُّ يومٍ يمرُّ علينا يُنقِصُ من أعمارِنا بالعدِّ التنازلي، وعليه إنْ لم نُحسِنْ إدارةَ أوقاتِنا فإنّنا نخرج من الحياة الدنيا دون تحقيقِ أيِّ هدف. وكثيرًا ما حثّ أهلُ البيت (عليهم السلام) على ضرورةِ إدراك مرورِ الوقت بالعمل فيه, مع عملِه بنا بأخذه من أعمارنا ثانيةً، فدقيقةً، فساعةً، فيومًا، فشهرًا، فسنةً، وهكذا. روي عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الّليل والنّهار يعملان فيك فاعملْ فيهما، ويأخذان منك فخُذْ منهما"(1). والحالُ إنّ بعضنا في الزمن الذي نعيشه اليوم، زمنُ الوباء العالمي (كوفيد19) باتَ خاليَ الأهداف فيه؛ يُهدرُ أوقاته على فضولِ العيش، من النظرِ والمأكلِ والمشربِ والملبسِ والكلام، ولم يُعِر أهميةً لوقتِه فضلًا عن دورِه كفردٍ، منشغلًا بالمُلهيات، و "من كَثُرَ لهوه قلَّ عقلُه"(2). لذا رسالتنا اليوم ستتكلم عن أهمية الوقت، وكيفية إدارتِه واستثماره من خلالِ بعض النقاطِ التي قد تنفع في المقام. لاشكّ في أنّ تعطُّلَ بعضِ المهام الخارجية -مهما كانت- في زمنِ الحجر الصحي يؤدي إلى حدوثِ وقتِ فراغٍ أو فوضوية في إدارةِ الوقت ضمن آليةٍ جدولية مرتبة؛ لذا نجدُ البعضَ قد ترك تنظيم وقته، ودخل في مرحلةِ السُبات، وآخر قد أضافَ مهامًا فوق مهامِه، وزاحمَ وقته، ووقعَ في التقصير في كثيرٍ من الأمور؛ لأنّه لم يُحسِنْ تنظيمَ وقتِه. فلا الأولَ رافق النجاح، ولا الثاني. لذا لابُدَ من جدولةِ الأعمال، واستثمارِ الوقت، لتحقيق الإنجازات، بأدقِّ الطرقِ في كلِّ الالتزامات. وقد بيّنَ أهلُ البيتِ (عليهم السلام) في صريح أحاديثهم المروية عنهم الخطوةَ الأولى لاستثمار الوقت؛ وهي التقسيم الكلّي الإجمالي للوقت؛ حيثُ رويَ عن الإمام الرضا (عليه السلام): "اجتهدوا أنْ يكونَ زمانُكم أربعَ ساعاتٍ: ساعة منه لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرةِ الإخوان الثقات، والذين يُعرِّفونكم عيوبكم، ويُخلِصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذَّاتكم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث الساعات"(3). ولو تأملنا في أغلبِ كتبِ علماءِ التنميةِ البشرية المختصة بفنِّ إدارةِ الوقت لوجدناها (تُحدِّد أولويات الأفعال وفقَ تقسيمِ الأوقات -فضلًا عن التنبيه على أهميةِ الوقت-). والساعاتُ التي أشار إليها الإمام (عليه السلام) في الحديث أعلاه هي: 1/ ساعةٌ يُناجي الإنسانُ فيها ربّه, أيّ أنْ يؤدي عباداتِه في وقتِها المحدد، ليطرحَ هذا الوقت من الوقتِ الكلّي، وينشغل بغيرِ العبادة. وهذا ما أشارت إليه بعض كتبِ التنمية "بساعة فقه توقيت العبادات؛ فالصلاة موقوتة "إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا", والصوم "فمن شهِد منكم الشهر فليصمه", وكذا الحج "الحجُّ أشهرٌ معلومات""(4). 2/ ساعةٌ لأمرِ معاش الإنسان؛ وهي ساعاتُ عملِه، مع ضرورةِ إتقانِ ساعاتِه والإخلاص فيها؛ وهو عينُ ما أشارت إليه كتب التنمية "من خلال الابتعاد عن مُعوّقات العمل، والتعوّد على كلمة (لا) أثناء ساعات العمل؛ كي يُنجزه بإخلاصٍ وسرعة، وترك الثرثرة في الهاتف، وتنظيم أوقات الاجتماعات"(5). 3/ ساعةٌ لمعاشرةِ الإخوان في الدّين, الثقات، المخلصين، الذين ينهضون بالإنسانِ نحو الكمال، "الذين تذكرنا بالله (تعالى) رؤيتهم، وبالآخرة عملهم، ويزيد في علمنا منطقهم"(6). فقضاءُ الوقتِ مع هؤلاء لا حسرةَ عليه؛ لأنّ النفعَ متحققٌ، أما مع غيرهم فالضررُ متحققٌ، سواء كانوا أصدقاء أم أقرباء؛ يقول (تعالى): "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة"(7)، والافتتانُ بهم قد يكونُ بقضاءِ كلِّ الوقتِ معهم. ويعدُّ خبراء التنمية البشرية المحيطَ العائلي والأصدقاء "من معوّقات النجاح إنْ لم يحترموا أهميةَ الوقت، ودعوا [الخبراء] إلى القضاء على كلِّ الأعراف التي لم تُعِرْ الوقت أهمية؛ باستثمارِ الوقتِ مع الناجحين"(8). ومن هُنا ينبغي عدم الانجرار وراء من يستخف بقيمة الوقت، والاعتدال في منحه من الوقت المناسب وفقًا للشرع الإلهي وإخلاءً لمسؤوليتنا تجاهه، دونما أن نؤثرَ في ذلك على عباداتنا وعملنا وسائر التزاماتنا. 4/ ساعةٌ للخلوةِ مع الذات لممارسةِ الأنشطةِ غيرِ المُحرّمة، وهذا ما يُنادي به المزاج، فيَحسُن قضاءُ الوقتِ في نشاطاتٍ إلكترونية نافعة، أو تنميةِ وتطويرِ الذات، أو المواهب والمهارات. وقد أولت بعض الرواياتِ النشاطاتِ أهمية، نذكرُ منها على سبيلِ المثال ما روي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "علِّموا أولادَكم السباحةَ والرمايةَ"(9). فاستثمارُ بعض الوقت في هاتين الرياضتين نافعٌ بالنسبةِ للذكور- إن لم يتعارض مع ما يقتضيه الظرف الراهن طبعاً-. وكذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ونعمَ اللهو المغزل للمرأةِ الصالحة"(10)، فغَزْلُ الصوف بالنسبةِ للإناث أمرٌ لطيف، وظاهرُ الروايةِ استحسان قضاء بعض الوقت فيه لهنّ. نعم، لو خُلّينا مع الأولويات التي يحسن استثمار الوقت الأخير فيها لــكان كتاب الله (سبحانه وتعالى) أولى الأعمال؛ بتدبُّرِ آياته، وحفظِ سوره، والتوغُّلِ في علومه؛ وقد أرشدنا أهل البيت (عليهم السلام) إلى ذلك، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ لا يَمُوتَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَوْ يَكُونَ فِي تَعْلِيمِه"(11). وما يلي القرآنَ الكريم في الأهميةِ المشاركةُ في دوراتٍ عقائدية، ثم تعلّم الأحكام الفقهية الابتلائية، ثم مطالعة الروايات الأخلاقية، فذلك كفيلٌ بأنْ يُحقّق مصداقَ حسنِ قضاءِ الوقت فيه. أما ما يلي ذلك، فهذا راجع للقرّاء كلٌ حسبَ توجهِه وتخصصِه، فما هي إلاّ صُغريات من الممكن تطبيقها على الكبريات التي أشار إليها الإمام الرضا (عليه السلام) في حديثه المتقدم؛ بتحديدِ إجمالي الأوقاتِ لأعمال الإنسان. فليخترْ كلٌ منّا كيفَ يستثمرُ وقتَه في فترةِ الحجر المنزلي؛ ليرى ثمارَ ذلك بعد انتهاء الوباء بعونِ الله (سبحانه وتعالى)، بدلًا من هدرِ الأوقاتِ واستنزافِ الطاقات. أما كيفيةُ استثمارِ الوقت، فمن الممكن أنْ تتمَّ عمليةُ استثمارِه بطريقةٍ ناجحة "من خلالِ تطبيقِ عدّةِ طرق"(12)، منها: 1/ كتابةُ الأعمالِ التي نُريدُ انجازها، وتقديمُ الأهمِّ على المهم؛ روي عن الإمامِ علي (عليه السلام): "مَن اشتغلَ بغيرِ المُهم ضيّع الأهم"(13). 2/ استعمالُ الإيحاءِ الذاتي؛ كأن تقول: (أنا مُنتجٌ) (انا ناجحٌ) (أنا استثمرُ الوقتَ غالبًا)، وغيرها من العبارات التي تُجدي نفعًا في تحفيزِ الذاتِ لإدراكِ أهمية الوقت، واستثماره بالأعمال النافعة. 3/ عدمُ المجاملةِ على حسابِ أوقاتِنا؛ والاعتيادُ على رفضِ أيّ عملٍ يهدرُ الوقت، أو يعارضُ أعمالنا. *وخلاصة الرسالة: العاقلُ من أعطى الوقتَ أهميةً بالغةً، وحرص عليه أكثر من حرصِه على مالِه، فالمالُ يُعوّضُ والوقتُ لا يُعوّض. فينبغي لنا أنْ نُنظّم أعمالنا وفقَ جدولٍ مُعيّنٍ مُرتّب حسبَ الأهمية، ولا نُقصّرُ في ساعاتِ أعمارِنا، وإنْ استصعبَ علينا ذلك، فمن الممكن استشارةِ المُختصين، أو قراءةِ الكتبِ في هذا الفنِّ؛ وتنفيذ ما يمكن تنفيذه. _____________________ (1) غرر الحكم ودرر الكلم: لعبد الواحد الآمدي التميمي, ص254, ح328. (2) مما روي عن الإمام علي (عليه السلام), غرر الحكم: ٨٥١٣، ٨٤٢٦، ٥٩٠١، ٧٥٦٨، ١٠٥٤٤، ٣٠٠١، ٨٢٩٨، ٨٩١٨. (3) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج75, ص346. (4) ظ: أسس ومهارات إدارة الذات وصناعة التغيير والنهضة/ إدارة الوقت: لإبراهيم الديب, ص104. (5) ظ: فن إدارة الوقت: لدايل كارنيغي, ص92, 95. (6) مما روي عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الامالي: للشيخ الطوسي, ج2, ص157. (7) سورة الأنفال: 28. (8) ظ: إدارة الوقت: للدكتور ابراهيم الفقي, ص40-41. (9) وسائل الشيعة: للحر العاملي, ج17, باب ما ينبغي تعلمه وتعليمه, ح13. (10) المصدر نفسه, باب استحباب الغَزْل للمرأة, ح2. (11) الكافي: للشيخ الكليني, ج٢, باب من يتعلم القرآن بمشقة, ح٣. (12) ظ: تعلّم كيف تنجح: للسيّد هادي المدرسي, ج3, ص11, 59. (13) غرر الحكم ودرر الكلم: للآمدي, 5/330. اللهم أكفِني ما يشغلني الاهتمام به, واستعملني بما تسألني غدًا عنه, واستفرغ أيامي فيما خلقتني له.

القضايا الاجتماعية
منذ 3 سنوات
468

رسالاتٌ في زمن الوباء (٨) إفراغُ الذمّة

بقلم: علوية الحسيني إنّ اللهَ (سبحانه وتعالى) كلّف عبادَه بالتكاليفِ العبادية، كلٌ حسب استطاعته؛ للوصول بهم نحو الكمال، فعلى التكليف يُثيب، وعليه يعاقب، لذا على العاقل أنْ يُتقِنَ ذلك التكليف، كالصوم والصلاة والحج والزكاة والخمس. لا شك أن البعض منّا ذمتُه مشغولةٌ بتكاليفَ لم يؤدِها في وقتها -لعذرٍ أو من دون عذر-. والبعضُ منّا ينشغل بالتكليف المستحب، ويترك الواجب الذي في ذمته، ظنًا منه أنّ ثواب العمل المستحب أفضلُ من ثوابِ الواجب، والبعضُ الآخرُ يتعذّرُ بأعذارٍ واهية إنْ قيل له: (أفرغ ما في ذمتك)؛ كعذر عدم توفر الوقت لديه، أو إنّه سيقضي ما في ذمته حين وصوله مرحلة الشيخوخة فيتفرّغ للعبادة. ها هي فرصةٌ ذهبيةٌ قُدّمتْ إلينا، زادتنا وقتًا فوق وقتنا، وذكّرتنا أكثر بآخرتنا، وأيقظتنا أسرع من غفلتنا، وهي فرصةُ الحجرِ المنزلي جرّاء الوباء العالمي (كوفيد19). رسالتُنا اليوم ليست مشحونةً بالطاقةِ السلبية، بل هدفُها التنبيهُ على ضرورةِ إدراكِ وجوبِ إفراغِ الذمة من التكاليف التي عليها. وإدراكِ إنّ الدنيا دارُ ممرٍ، وليست مقرًا، فينبغي الاستزادةُ منها لدارِ الخلد، فلابُدَّ من توقُّعِ الموت، وهذا أمرٌ لا مفرَّ منه، فإنْ فررنا من تذكره اليوم، سيواجهُنا حتمًا يومًا ما، وهذه سُنّة الحياة الدنيا. يقولُ الإمامُ علي (عليه السلام) في خُطبةٍ له: "فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَـلٍ مِنْهَا فَاعْلَمُوا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَانًا وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَانًا ...اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْنًا وَبِالسَّعَةِ ضِيقًا وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاؤوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَة"(1) . لذا ينبغي علينا التمهيد لقبورنا؛ بإفراغ الذمم، وعدم الانهماك في الاشتغال بالدنيا وملهياتها. فيا من بدنياهُ اشتغَل قد غرَّهُ طولُ الأمل الموتُ يأتي بغتةً والقبرُ صندوقُ العمل وعليه، لابُدّ من معرفةِ أنّ قضاءَ التكاليفِ واجبٌ شرعيٌّ كما التكليف؛ لذا سنُسلِّطُ الضوءَ على إجمالي الأحكام المُتعلقة ببعضِ التكاليف،ضمن النقاط التالية: ■النقطة الأولى: قضاءُ الصلاة فالصلاةُ الفريضةُ يجبُ قضاؤها إنْ تركَها المكلفُ بعد بلوغه، أو تركَها عن عمدٍ أو نسيان، أو لعدمِ التطهر لها؛ روي عن زرارة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): "أنه سُئلَ عن رجلٍ دخل وقتُ الصلاة - إلى أنْ قال - فنسيَ أنْ يُصليها حتى ذهبَ وقتُها؟ قال[الإمام]: يُصليها"(2). ويذكرُ أنّ لقضاء الفوائت من تكليفِ الصلاة أحكامٌ ميسرةٌ مذكورةٌ في رسائلِ المراجع لمن شاء المراجعة. وتكفي الإشارة إلى نقاط تحكي اليسر في قضاء الصلاة، هما: ▪️أولًا: بإمكانِ المكلفِ أنْ يصلي القضاء من صلواته في أيِّ وقتٍ شاء، دون التقيّد بزمنٍ دون آخر. ▪️ثانيًا: ما فات المكلفُ قصرًا يجبُ قضاؤه قصرًا،ولو كان في الحضر، وما فاته تمامًا وهو في مدينتِه يجبُ قضاؤه تمامًا ولو كان في سفر(3). ▪️ثالثًا: يُستثنى من القضاء أيامُ العذر الشرعي بالنسبة للنساء. ▪️رابعًا: لا يُشترطُ الترتيبُ في قضاء الصلوات الفائتة إذا كانت من أيام مختلفة، أما اذا كان القضاء من يومٍ واحدٍ فيجبُ الترتيبُ بين الصلوات المرتبة بالأصل كالظهرين والعشاءين(4). ▪️خامسًا: يمكنُ للمكلف أنْ يستفيدَ من (تطبيق فرائضي) في تنظيم القضاء، فهو نافعٌ للغاية(5). ▪️سادسًا: بإمكانِ المكلف أنْ يقتصرَ على الواجبات، ويترك المستحبات؛ كأن: 1/ يترك الأذان والاقامة, "فتركهما لا يضر(6). 2/ بعد النيّة القلبية يكبّر تكبيرة الاحرام مرّة واحدة(7). 3/ يقرأ سورة الفاتحة وسورة قصيرة(8). 4/ القنوت يقول فيه سبحان الله (مرة واحدة) ويمكنه الترك"(9). 5/ الركوع يقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده (مرة واحدة)، أو سبحان الله (ثلاث مرات)، أو الحمد لله (ثلاث مرات)، أو الله أكبر (ثلاث مرات)(10). 6/ السجود يقول فيه: سبحان ربي الأعلى وبحمده (مرة واحدة)، أو سبحان الله (ثلاث مرات)، أو الحمد لله (ثلاث مرات)، أو الله أكبر (ثلاث مرات)(11). 7/ التسبيح في الصلاة الثلاثية والرباعية: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر (مرة واحدة)(12). 8/ التشهد يقول فيه: أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، واشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد(13). 9/ التسليم يقول فيه: السلام عليكم(14). ▪️سابعًا: بالنسبةِ لقضاء صلاةِ الآيات، إذا لم يعلمْ عدد الصلوات التي لم يُصلِّها عند حصول الآية، يكفي الإتيان بالعدد الأقل. ▪️ثامنًا: الأولى أنْ يقضيَ الجميع عن الميت، لتفريغِ ذمته –إن أوصى-، وإن كان الأحوط وجوبًا أنْ يقضيَ عنه الولد الذكر الأكبر بشروط خاصة مذكورة في الرسائل العملية"(15). ■النقطة الثانية: قضاءُ الصوم وكذا قضاءُ الصومِ لا يخلو من ثوابٍ عظيم، وفرصةُ قضاء الصوم في هذا الزمن ممكنةٌ، وهذه بعضُ أحكامه الإجمالية: 1/ اذا كان المكلف واثقًا من غير ترددٍ بعدمِ وجوبِ الصوم ولم يَصُم، فعليه القضاء فقط دون الكفارة، مع دفعِ فديةِ تأخير القضاء- إن أخره لأكثر من سنة- وهي ثلاثة أرباع الكيلو من الطحين، أو نحوه عن كلِّ يومٍ تُعطى للفقير المُتدين. "وأما إذا كان إفطاره مسامحةً منه، فتجبُ الكفارة، وهي صوم شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا لكلِّ مسكينٍ ثلاثةُ أرباع الكيلو من الطحين أو نحوه، مع فديةِ التأخير(16). وفديةُ تأخير القضاء هي "ثلاثة أرباع الكيلو من الطحين أو نحوه عن كلِّ يومٍ تُعطى للفقير المتديّن. ولا يجزئ دفع المال بدلًا عن الطعام. [نعم, يُمكنُ إعطاءُ المال لمكتب سماحة السيّد السيستاني (دام ظله) بعنوان الكفارة أو الفدية وهم يشترون الطعام ويسلِّموه الى الفقير، أو يُعطى للمؤسسات الخيرية المُخوّلة، كمؤسسة العين]. وإذا عجز المكلف عن كفارةِ الصومِ المُخيّرة، فعليه التصدّق بما يُطيق، ومع تعذر التصدّق عليه الاستغفار، ولكن إذا تمكَّن بعد ذلك لزمه التكفير على الأحوط(17). ■النقطة الثالثة: دفعُ الخمس الخمسُ فريضةٌ عباديةٌ على الأرباحِ المالية والعينية، ولها شروطُ وضوابطُ كباقي الفرائض. وممكنٌ أنْ نسلطَ الضوءَ على إجمالي أحكامه: 1/ يجبُ على وليّ الأمر خمسُ أموالِ الصبي أو الصبية، ويجبُ على كلِّ مكلّفٍ ومكلّفةٍ الخمس إنْ كانا بالغان. 2/ يجبُ الخمسُ في كلِّ ما يزيدُ على المؤونة لسنةٍ كاملةٍ، سواء كان مالًا أو أشياءً غير مستعملة، والأحوط وجوبًا تخميس الأشياء التي استُعمِلت واستغنيَ عنها المكلف قبل السنة"(18). 3/ مَن كانت له مهنةٌ يجبُ عليه أنْ يضع لنفسه رأسَ سنةٍ خمسية، وفيها يحسبُ ما يزيدُ على مؤونته. وإذا لم تكنْ له مهنةٌ فكلُّ فائدةٍ سواء كانت مالاً أو عينًا (أشياء غير مستعملة) إذا مرت عليها سنة كاملة يجبُ عليه تخميسها"(19). 4/ خمسُ الأغراضِ يكونُ بالقيمة الحالية لها. 5/ للمصالحةُ مع الحاكم الشرعي، والحصولُ على تفاصيل أكثر بإمكانِ المكلف الاتصال على مكتب سماحة المرجعية العليا(20). ■النقطة الرابعة: حقوقُ الناس حقوقُ الناسِ إمّا ماليةٌ؛ كأخذِ أموالٍ منهم عمدًا أو سهوًا، ولا يمكنُ إرجاعها لهم. أو معنويةٌ كأخذ غيبتهم، وبالتالي تشتغلُ ذمةُ المكلفِ بهذه الحقوق، وتكليفُه هو إفراغ ذمته؛ للحصول على رضا ربّه، قبل أنْ يعاجلَه موته. وممكنٌ إفراغُ الذمة في هذه الحالة من خلالِ مجمل هذه الأحكام: 1/ إذا أخذ المكلفُ مالًا من غيره، بدَينٍ أو عمدًا، ولم يستطعْ إيفاءَه، فيكفي بأن يُلقيَ المال في حديقةِ دارِ صاحب المال. أو يُعطيه المال ولا يجبُ عليه إخباره عن سبب دفع المال(21). بشرط أن يطمئن أن المال وصل ليده. وممكنٌ استثمار فترة الحجر المنزلي في زمنِنا هذا وإلقاء المال في حديقةِ دارِ كلّ من له حقٌ ماليٌّ علينا، فسُبحانَ الذي يسخّر الأسباب لبلوغ رضاه. 2/ إذا أذنب المكلف بالغيبة، أو سمعها دون أنْ ينصرفَ عنها أو يدافعَ عن المغتاب، فيجبُ عليه التوبة والندم، والأحوط استحبابًا الاستحلال من الشخص المغتاب ــ إذا لم تترتبْ على ذلك مفسدةٌ كأن يتخاصمان ــ أو الاستغفار له. بل لو عدّ الاستحلال تداركًا لما صدر منه من هتكِ حرمةِ المغتاب فالأحوط لزومًا القيامُ به مع عدم المفسدة. ولا يجبُ أنْ يعرفَ المغتاب متعلقَ إبراءِ الذمة وأنَه عن أيِّ شيءٍ يحلله، إلاّ اذا كان هناك قرينةٌ على عدم شمول الإبراء لمثل الغيبة المذكورة. ●والظاهر أنّه يكفي في الاستغفار مرةً واحدة؛ فقد ورد في الروايات إنّ الله (سبحانه وتعالى) ﻻ يغفر لصاحب الغيبة إلاّ أنْ يغفر له المغتاب، فممكنٌ أنْ يستغفرَ له في صلاة الليل بركعة الوتر ضمن الأربعين مؤمنًا المستغفَر لهم"(22). ولعلَّ ما يسودُ زمننا اليوم من تذكّر الموت بصورةٍ شبه مستمرة يؤدي بالكثير منّا أنْ يُبرءَ ذمم الآخرين، في قبالِ أنْ يبرؤوا ذمته دون السؤال عن السبب؛ لاعتقاد أنّ بني آدم غير معصومين، وإنّ التراحمَ فيما بيننا قد يكون بابًا للفرج بالنجاة ولو من هذا الوباء المتفشي. ولا ننسى أنّ الغفلة عن تلك الحقوق تُقلِّلُ من درجةِ تعظيم الله (سبحانه وتعالى)، واليقظة نورٌ يخترق تلك الغفلة، فهلاّ تيقظنا؟!. *خلاصة الرسالة: ينبغي الالتفات إلى قضاء حقوق الله (سبحانه وتعالى) والعباد، وليس أحدُنا يضمنُ حياته غدًا. _____________________ (1) نهج البلاغة: خ111. (2) وسائل الشيعة: للحر العاملي, ج8,أبواب قضاء الصلاة, ب1, ح1, ص253. (3) منهاج الصالحين: للسيد السيستاني, ج1, المقصد السابع م721. (4) المصدر نفسه, م724. (5) تطبيق فرائضي: https://play.google.com/store/apps/details?id=alkafeel.net.sallati (6) موقع مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله. (7) المنهاج, كتاب الصلاة, ف2, م585. (8) المصدر السابق: ف4, القراءة. (9) المصدر السابق: ف11, م 664. (10) المصدر السابق: ف5, الأمر الثالث. (11) المصدر السابق: ف6, الأمر الثاني. (12) المصدر السابق: ف4, م625. (13) المصدر السابق: ف7, في التشهد. (14) المصدر السابق: ف8, في التسليم. (15) المصدر السابق: المقصد السابع, م737. (16) المصدر السابق: كتاب الصوم, ف3, كفارة الصوم. (17) المصدر السابق: ف7, م1050-1051. (18) المصدر السابق: كتاب الخمس, ما يفضل عن مؤونة سنته. (19) موقع مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله. (20) يمكن للمكلف الاتصال بمكتب سماحة السيد - دام ظلّه - في النجف الأشرف للإستفسار من خلال أحد موكليه. (21) ظ: موقع مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله. (22) ظ: موقع مكتب سماحة السيد السيستاني دام ظله. اللهم لا تخرجنا من الدنيا إلاّ وأنتَ راضٍ عنّا.

القضايا الاجتماعية
منذ 3 سنوات
476

بوارقُ التوحيدِ الجلي عند الإمام الحسين بن علي (6)

"يا مَنْ لا يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ إلاّ هُوَ" بقلم: علوية الحسيني بارقةٌ توحيديةٌ أخرى تلوحُ في سماءِ التقديس، مُسلِّطةً الضوء على جوهرِ التوحيد النفيس، وتقولُ: إنّ هناك علمًا لا يعلمُه إلا الله (تعالى)، استأثر به لنفسِه في سُرادقاتِ الغيب. نعم، إنّ هناكَ علماً يعلمُه غير الله (تعالى)، لكن ذلك لا يُنافي سعة علمه (تعالى)؛ إذ الآيات الكريمة والروايات الشريفة لا تُنكرُ السِعة، وتحميلُ الله (تعالى) للبعضِ علمَهُ لا ينفي إحاطتَه علمًا بما حمّله. ومن الدلائلِ على سِعةِ علمه (تعالى) قوله (جلَّ جلاله): {إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْما}(١) كما وجاءَ في الرواياتِ الشريفة أنْ لا مُنتهى لعلمِه (تعالى)؛ رويَ "عن الكاهلي، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه) فكتب إليَّ: لا تقولَنَّ مُنتهى علمه، ولكنْ قُلْ: منتهى رضاه"(٢) وبعدَ أنْ نبّهْنا إلى سعةِ علمِ الله (تعالى)، نتطرقُ لأقسامه. *فمن سياقِ بعضِ الآياتِ الكريمة يتضحُ لنا أنّ العلمَ علمان بلحاظِ الاختصاص والاشتراك؛ حيثُ أنّ هناكَ أمورًا لا يعلمُ بها ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌ مرسل، بدلالةِ ظاهر الآية: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُو}(٣)، فمن الغيب تحديدُ زمنِ يومِ القيامة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبا}(٤) ومن سياقِ بعضِ الآياتِ الأخرى يتضحُ أنّ مشاركةَ أولياءِ الله (تعالى) لربّهم في علمِه، من قبيلِ ما أخبرَ الوحيُّ به الأنبياء (عليهم السلام)، هو متمثل بالكتبِ السماوية، والأحاديثِ النبوية، وما ألهمَ اللهُ (تعالى) به الأئمةَ (عليهم السلام) متمثلًا بالجفر، ومصحف فاطمة، أو ما تناقَلَه الأئمةُ عن سيّدِهم النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذنٍ من الله (تعالى) متمثلًا بالحديثِ عن عللِ بعضِ الأحكام مثلًا. إلاّ أنّ كلّ ذلكَ العلم هو جزءٌ مما عندَ اللهِ (تعالى)، ومالكُ الجزءِ ليس بالضرورةِ أنْ يملكَ الكل، أمّا مالكُ الكلِّ فيملك الجزء بداهةً؛ أيّ أنَّ الله (تعالى) مالكٌ لعلمِه الغيبي، ومالكٌ للعلمِ الذي أفاضَ به على أوليائه. وهذا لا يُنافي ما جاء به الإمامُ الحسين (عليه السلام) في فقرةِ دعائه المتقدمة، بل إشارةٌ منه إلى العلم الغيبي الذي استأثر اللهُ (تعالى) به لنفسه، وعليه فينعقدُ الكلام حصرًا حوله. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظِ المعلومِ به، فالمعلومُ به تارةً يكون ذاتيًا، وأخرى فعليًا، فالذاتيُّ لا يعلمُ به سوى الله الواحد الأحد، من قبيلِ علمِه بذاتِه (سبحانه)، وعلمه بالأشياء قبل إيجادها، ولا يتغيرُ أبدًا. أما الفعلي فممكنٌ أنْ يشاركَه (تعالى) أولياءه، من قبيلِ العلمِ بالأشياء بعد إيجادِها، بدليلِ أنّ الإنسانَ زارعُ البذرةِ ممكنٌ أنْ يعلمَ مستقبلَ البذرةِ، أو المرحلة الفعلية لها بعدَ أنْ كانت قوّةً. فعلمُه وإنْ كان مشوبًا بالجهلِ في أكثرِ الأحيان، إلاّ أنّه أصالةٌ نستطيعُ أنْ نقول ممكنٌ للإنسان أنْ يُشارِكَ اللهَ (تعالى) في ذلك العلم. وكلامُنا ينعقدُ حولَ العلمِ الذاتي الذي هو محلُّ شاهدنا من توضيحِ مرادِ الإمام الحسين (عليه السلام) في فقرته الدعائية. *كما وهناك تقسيمٌ آخر للعلمِ بلحاظ ِالذاتية والفعلية، جاءت به ألفاظٌ عديدة، منها صريحةٌ، ومنها مؤولةٌ. فأمّا الصريحةُ فواضحةٌ، وأمّا المُؤولةُ فهناك مفردتان انفرد أهلُ البيت (عليهم السلام) عن غيرِهم في تأويلها من ظاهر لفظها إلى العلم؛ تنزيهًا لله (تعالى)، واستنادًا على ما تلقوهُ من سيّدِ التوحيد، النبي الحميد محمد (صلى الله عليه وآله)، وهما مفردتا العرش، والكرسي. *فأمّا مفردةُ العرشِ الواردةُ في الآية {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة}(٦). وفي الآية: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}(٧). وفي آية: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}(٨). فجميعُها مؤولةٌ بالعلم؛ استنادًا إلى ما رُويَ عن أميرِ المؤمنين وسيّدِ الموحدين علي (عليه السلام) حينما سأله الجاثليق عن عرش الرحمن، فأجابه (عليه السلام) بالقول: "إِنَّ الْعَرْشَ... وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ الله الْحَمَلَةَ وَذَلِكَ نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِين"(٩). وهكذا مفردةُ الكرسي الواردة في آية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}(١۰) فإنها مؤولةٌ بالعلمِ أيضًا؛ استنادًا إلى ما روي "عن حفص بن غياث، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزّ وجل): (وسِعَ كرسيه السماوات والأرض) قال: علمه"(١١) والعلمُ الذي سيكونُ محلَّ كلامنا، والذي يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام) في قوله: " يا مَنْ لا يَعْلَم مَا يَعْلَمُهُ اِلاّ هُوَ" هو العلمُ الذي لا يعلمُه إلاّ الله( تعالى)، وأحد مصاديقه هو الكرسي، لتصريح بعضِ الرواياتِ بأنّ الكرسي هو العلمُ الذي لم يُطلِعِ الله (تعالى) عليه أحدٌ من أوليائه؛ رويَ "عن المُفضّلِ بن عمر قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرشِ والكرسي ما هما؟ فقال: العرشُ في وجهٍ هو جملةُ الخلقِ والكرسي وعاؤه، وفي وجهٍ آخر العرشُ هو العلمُ الذي أطلعَ اللهُ عليه أنبياءه ورسلَه وحججه، والكرسي هو العلم الذي لم يُطلع [الله تعالى] عليه أحدًا من أنبيائه ورسوله و حججِه (عليهم السلام)"(١٢) وقد صرحت بعضِ الروايات التي جاءت لتقِسيمُ العلم، وأشارت إلى محلِّ وقوعِ البداء بأنّ هناك علمًا يستأثرُ اللهُ (تعالى) به لنفسه، فلا يعلمُ به إلاّ هوَ، وهذا ما يقصدُه الإمامُ الحسين (عليه السلام)؛ "عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلام) يَقُولُ الْعِلْمُ عِلْمَانِ، فَعِلْمٌ عِنْدَ الله مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ, وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَمَا عَلَّمَهُ مَلائِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لا يُكَذِّبُ نَفْسَهُ وَلا مَلائِكَتَهُ وَلا رُسُلَهُ وَعِلْمٌ عِنْدَهُ مَخْزُونٌ يُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاء"(١٣) وقد أطلقت بعضُ الروايات على العلمِ الذي لا يعلمُه إلا الله (تعالى) بالعلم الخاص، في قبالِ العلمِ العام، ومن خلالها يتضحُ مُرادُ الإمامِ الحسين (عليه السلام) بأنّه هو العلمُ الذي لا يعلمُه ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ هو علمُه الخاص الذي لا يعلمُه إلاّ هو؛ روي "عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: إنَّ لله (تعالى) علمًا خاصًا، وعلمًا عامًا، فأما العلمُ الخاصُ فالعلمُ الذي لم يُطلِع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وأما علمُه العامُ فإنّه علمُه الذي أطلع عليه ملائكته المقربين وأنبياءه المرسلين، وقد وقعَ إلينا من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)"(١٤) والخلاصةُ: مهما كان عند الإنسان من علوم، فهي متناهية بالقياس إلى علم الله تعالى، وبالتالي، فإن العلم اللامتناهي مختص به جل وعلا، وقد ذكرنا بعض مصاديقه حسب ما وردت به الروايات الشريفة. _____________ (1) طه: 98. (2) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب10, ح2. (3) الأنعام: 59. (4) الأحزاب: 63. (5) الاسراء: 85. (6) الحاقة: 17. (7) هود: 7. (8) طه: 5. (9) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, ب42, ح1. (10) البقرة: 255. (11) التوحيد: للشيخ الصدوق, ب52, ح1. (12) معاني الأخبار: للشيخ الصدوق, باب معنى العرش والكرسي, ص29, ح1. (13) الكافي, ج1, ب46, ح6. اللّهم إنّي أسألك من علمك بأنفذه، وكلّ علمك نافذ، اللّهم إنّي أسألُكَ بعلمك كلّه.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
308

اقرئي أو لا تقرئي (٤) جاهِدي

بقلم: علوية الحسيني إنّ المُتأملة في بعضِ آياتِ الجهادِ كقوله (تعالى): {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين}(١)، تستظهرُ أنّ الخطابَ موجهٌ إلى المؤمنين من الرجال حصرًا؛ لكونِ سياقِ الآية الكريمة جاءَ بصيغةِ جمعِ المذكر السالم (جاهدوا). إلا أنَّ هذا الظهور ليس حجةً؛ إذ ليس هو مراد الله (تعالى)؛ فمراده هو مخاطبةُ الجنسين من الرجال والنساء، ووعده لهم بهدايتهم سُبُل الرضوان؛ فكما أنّ اللهَ (تعالى) كان قاصدًا مُخاطبة الجنسين بتكليفه إيّاهم بالصلاة، كما في قوله (تعالى): {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، فكذا آيةُ الجهاد فيه (تعالى)، وإلا لاختص فرضُ الصلاة بالرجالِ كما يُريد البعضُ أنْ يخصَّ مطلق الجهادَ بهم. نعم، للجهادُ في الله (تعالى) أقسامٌ، وبعضُها لا تُكلَّفُ المرأةُ به، ليس انتقاصًا من مقامِها؛ وإنّما لطبيعةِ خلقتِها، فلم يفرضِ الله (تعالى) عليها جهادَ القتال؛ لذا سيتمُّ بيانُ ما هو شاملٌ لها أو مختصٌ بها ضمن النقاط التالية: ١/ الجهادُ النفسي ويُسمّى بالجهادِ الأكبر، وأشارَ إليه الله (تعالى) في كتابه الكريم بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}(٢) فجهادُ المرأةِ لنفسِها بتزكيتِها وتهذيبِها ومنعِها عن اقترافِ الذنوب هو جهادٌ في سبيل الله (تعالى)؛ لأنّه (تعالى) يُريدُ بعبادِه الوصولَ إلى الكمال، وما يترتبُ على جهادِ النفس فهو كمال، إذًا الله (تعالى) يُريدهُ من المرأة كأمَةٍ له. وما الجهادُ النفسي إلاّ فأسًا يُهدِّمُ مملكةَ الأنا والتغطرس، وجميع الرذائل الأخلاقية، حتى يُصبِحَ القلبُ ساحةً خاليةً لا تعلّقَ فيهِ إلا بالله تعالى خالقه، عندها ستعيشُ المرأةُ حالةَ انخلاعٍ واندلاع؛ انخلاع عن كلِّ ما يُغضِبُ الله الواحد الأحد، واندلاع لروحٍ تسمو إلى التحليقِ في سماءِ الفضيلةِ والرضوان. وإنّ ما يُعينُ على مُجاهدةِ النفسِ بعد المحاسبةِ والمراقبةِ هو البكاء، وهو السلاحُ الصارمُ الذي أشارتْ إليه الأدعيةُ؛ جاء في دعاء كميل: "وسلاحه البكاء". والمرأةُ تمتلكُ هذا السلاحَ أكثر من الرجل؛ فهي التي ينكسرُ قلبُها بسرعةٍ بالبكاءِ والتضرُّعِ لله (تعالى) ولذا قيل "إنّ المرأةَ أسرعُ من الرجلِ وصولًا للكمالِ في السيرِ والسلوكِ لله (تعالى)"(٣)، ومن ثمَّ يكونُ جهادُها النفسي أثمرَ من جهادِ الرجلِ لنفسه. ويدخلُ ضمن الجهادِ النفسي الصبرُ على البلايا والرزايا، والتسليمُ لأمرِ الله (تعالى)، ولنا في السيّدتين الزهراء والحوراء زينب (عليهما السلام) أسوةٌ حسنة؛ فالأولى قد جاهدت جهادًا نفسيًا طوالَ حياتِها المباركة، وتجلَّى ذلك في صبرها على انقلابِ من زعموا أنّهم صحابةُ أبيها، وعلى ما اقترفوه بحقِّها وبحقِّ بعلها من شنيع جرمٍ، وهتكِ مقامٍ. وأمّا الثانيةُ فتعلّمت من أمِّها الجهادَ النفسي؛ حتى صبرت ولم تجزعْ قطّ منذُ استشهاد أمها، مرورًا بغصبِ حقِّ أبيها، وقتل أخويها، وسبيها... ٢/الجهاد بالمال قال (تعالى): {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُون}(٤). أيضًا يجبُ على المرأةِ أنْ تجاهدَ بمالِها بدفعِ الحقوقِ الشرعيّة المالية المُترتبةِ في ذمتِها من كفاراتِ تأخير صومٍ، أو إفطارٍ متعمّدٍ، أو حنثِ يمينٍ أو عهدٍ، أو خمسٍ، أو ديّةٍ، أو ردّ مظالم، فأداءُ تلك الحقوق هو جهادٌ من المرأةِ بمالِها. وفي غير ما فَرَضَتْه الشريعة لا يجبُ عليها الجهادُ المالي، لكنّه يدخلُ ضمنَ باب الاستحباب كمساعدة الفقراء والمعاقين والمحتاجين، وذلك قدر الإمكان وحال الاستطاعة المالية، كتزويج مؤمنٍ، أو صرف علاجٍ لمريضٍ، أو إقراض مؤمنٍ لبناءِ بيتٍ أو لسفرِ عبادة. فالسيّدةُ خديجةُ جاهدتْ بمالِها حينما ساهمتْ بالتجارة مع بعلِها نبيّ الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا مصداقٌ من مصاديق جهادِ المرأة بمالِها. ٣/الجهادُ الفكري لعلَّ الآيةُ الكريمة التالية تُشيرُ إلى بعضِ هذا الجهاد، وهي قوله (تعالى): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم}(٥) فعادة ما يُجاهدُ المرءُ بفكره وهو في بلدٍ غير بلده، لاسيما البلدان المخالفة بالدّين أو المذهب لبلدِه، وحتمًا المرأةُ مشمولةٌ بهذا الجهاد، فكمْ من امرأةٍ انحرفَ فكرُها عن مبادئ دينِها ومذهبِها منذُ أولِ يومِ هجرةٍ لها لأماكنَ تعتقدُ بخلافِ اعتقادها دينًا ومذهبًا، بل حتى التي لا تعتقد بدين. فهنا إنْ ضَعُفَ دينُ المرأةِ أو دينُ ذويها، أو كلاهما وجبَ عليها أنْ تُجاهدَ جهادًا فكريًا إنْ كانت مؤهلةً لهذا الجهاد؛ إذ أنّه يتطلبُ عقيدةً راسخةً، ومكنةً على ردِّ الشبهات التي تُثارُ في تلك الأماكن، فلابُدَّ للمرأةِ أنْ تجاهدَ جهادًا فكريًا؛ بمحاربةِ البدعِ، والانحرافات، والتيه، والضلالات، وتكون نبراسًا لنفسها ولغيرها. فإن لم تستطعْ حرمُ عليها المكوثُ في تلك الأماكن؛ حيثُ إنّ هكذا النوع من الهجرة يُعَدُّ "من أعظمِ المعاصي، وتُسمّى (التَعرُّب بعد الهجرة)، والمقصود به الانتقالُ إلى بلدٍ ينتقص فيه الدّين أي يضعُف فيه إيمان المسلم بالعقائدِ الحقّة أو لا يستطيع أنْ يؤديَ فيه ما وجبَ عليه في الشريعةِ المقدسةِ أو يجتنبُ ما حرَّم عليه فيها"(٦) وأحيانًا يتطلبُ الموقفُ جهادًا فكريًا من المرأةِ وإنْ لم تكن مهاجرةً، وهي في بلدها، بل وفي قعرِ بيتِها، فبعدَ الانفتاح التكنلوجي باتتْ الشبهات الفكرية التي تحاولُ النيلَ من عقيدتِنا تغزو أفكارَ البعض، فهُنا لابُدَّ من تثقيفِ نفسِها ثقافةً عقائديةً رصينةً؛ كي تُنَجّي نفسها وذويها من الانحرافات، وتدافعُ عن دينِها ومذهبِها بدحضِ الشبهات، مستعينةً متقرّبةً لربّ السماوات. وإنِ استصعبَ عليها التعلُّم وجبَ عليها طرقُ بابِ أهلِ العلمِ من ذواتِ أو ذوي الاختصاص؛ لتحصلَ منهم على جوابٍ لكلِّ شبهةٍ تُثارُ أو سؤالٍ يُطرح، فما إعمالُ فكرها واستصعابه الجواب وعجزِها عنه إلاّ جهادًا فكريًا تؤجرُ عليه إنْ شاء الله (تعالى) ولهذا أكّد الإسلامُ على ضرورةِ طلبِ العلم؛ لأنّه نجاةٌ وحياةٌ، فيا أُختاه تسلّحي بالعلمِ وأعدِّي للعدوّ ما استطعتِ من قوّةٍ علميّة، تُحافظينَ بها على مُعتقدِكِ، وتُدافعين عنه، وتُنجين أقرانكِ من الجحيم الفكري المنحرف. ٤/ الجهادُ الأُسري وهو على مراتب: أ) حسن التَبَعُّل رويَ عن رسولِ الله محمد (صلى الله عليه وآله): "جهادُ المرأةِ حُسنُ التبعل لزوجها"(٧)، ومن مصاديق حُسنِ التبعّل خدمةُ الزوجِ وكلُّ ما يُرضيه ويصبُّ في مصلحةِ بيته. ولاشكَّ أنّ المرأةَ التي أحسنَتْ التبعّلَ هي كالمجاهدةِ في سبيلِ اللهِ (تعالى) في معامعِ الوغى؛ حيثُ إنّ مجرّدَ الإحسانِ والتودُّدِ للزوج، والخضوعِ لأوامره كقيّمٍ عليها هو نوعٌ من الجهادِ الذي يطمسُ روحَ العنادِ والتكبّر والتمرّد على أوامر زوجِها، فضلًا عن أدائها للأعمال المنزلية التي تعودُ نفعًا على الزوج لهو جهادٌ بدني، وفي جميع الأحوال مثوبتُها عندَ الله (تعالى) عظيمةٌ إنْ أحسنَتْ ذلك. روي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنّها أتتِ النبي (صلى الله عليه وآله) تسألُه عن جهادِ النساء، فقال لها: "إنّ حُسنَ تبعل إحداكنّ لزوجها، وطلبِها مرضاته، واتِّباعها موافقته يعدلُ ذلك كلّه[إشارةً إلى ما امتدحَت هي به النساء]"(٨) ب) الصبرُ على أذى الزوج قد تواجهُ المرأةُ المؤمنةُ من زوجها أذىً لأسبابٍ عديدة، ويصعبُ وضعَ حلٍ له، لذا فإنّ الإسلامَ قد وضعَ لها حلًا يُجدي نفعًا ومثوبةً، ويُعطيها منزلةً كمنزلة المجاهد في سبيل الله (تعالى)؛ حيثُ روي عن الإمام علي (عليه السلام): "جهادُ المرأةِ أنْ تصبرَ على ما ترى من أذى زوجِها وعشرتِه"(٩) وهُنا لاحظَ الإسلامُ ضرورةَ المحافظةِ على استمرارِ رابطةِ الزوجية، وأنْ يؤدي كلٌّ منهما التزاماته ويتمسكُ بحقوقه، وباقي تفاصيل ذلك موكولٌ للحكم الشرعي في الرسالةِ العملية لمن تقلّده الزوجة من المراجع. وما يهمُنا هنا هو تسليطُ الضوء على إعطاء الصابرة على أذى زوجها صفة المجاهِدة. ج) الموتُ أثناءَ الطَلَق والولادة وما بعد الزواج تعتري المرأةُ حالاتِ حملٍ ثم طَلَقٍ ثم ولادة، قد أثابها الإسلام عليها، وأعطاها منزلةَ المجاهِدة أيضًا في حالِ موتِها أثناء تلك الحالات؛ حيثُ رويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) "...فقالت حوّاء: أسألكَ يا ربِّ أنْ تعطيني كما أعطيت آدم، فقال الله (تعالى): ... يا حوّا أيُّما امرأةٍ ماتتْ في ولادتِها حشرتُها مع الشهداء. يا حوا أيُّما امرأةٍ أخذها الطلقُ إلا كُتِبَ لها أجرُ شهيدٍ، فإن سلمت وولدت غفرتُ لها ذنوبَها ولو كانت مثل زَبَد البحر ورمل البر وورق الشجر، وإنْ مات[ت] صارتْ شهيدةً وحضرتها الملائكةُ عند قبضِ روحِها وبشّروها بالجنة وتُزّفُّ إلى بعلِها في الآخرة وتُفضّل على حور العين بسبعين[درجة أو حسنة]. فقالت حوّا : حسبيَ ما أعطيتَ"(١٠) ■والخلاصة: إنّ جميعَ أقسامِ ومراتبِ الجهاد مردُّه إلى الجهادِ الفكري بالمعنى الأخص؛ أيّ بالعلمِ بماهية كلِّ قسمٍ وبفضيلته، فعندئذٍ تستطيعين أُختاه اختيار ميدانكِ الجهادي، بالسلاح المناسب لنوع العدوّ. •فإن كانَ عدوَكِ شيطانًا فساحةُ جهادكِ النفس، وسلاحُكِ التخلُّق بأخلاق الله (تعالى) وأوليائه. •وإنْ كان عدوّكِ حبسَ حقٍّ مالي شرعي فساحةُ جهادكِ الواقعُ، وسلاحُكِ أداءُ ذلك الحقِّ. •وإنْ كان عدوّكِ هو الشبهات فساحةُ جهادِكِ الكتابةُ، وسلاحُكِ القلم. •وإنْ كان عدوّكِ هو أذى الزوج أو أذى الطلق والولادة فساحةُ جهادكِ البيت، وسلاحُكِ الصبر. ولا تنسي أُختاه أنّ مطلقَ جهادِ المرأةِ هو نوعٌ من التمهيد لدولةِ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ إذ يعني ذلك تهيئة كُمّلٍ من النسوة ليحظينَ بنصرتِه، والعيشِ في دولتِه الكريمة. ___________________ (1) العنكبوت: ٦٩. (2) الحجرات: ١٥. (3) المرأة في العرفان: للشيخ جوادي آملي، ص (4) الحجرات: ١٥. (5) البقرة:٢١٩. (6) منهاج الصالحين: للسيد السيستاني دام ظله، ج١، م٣٠، ص١٣. (7) فروع الكافي: للشيخ الكليني، ج٥، باب جهاد المرأة والرجل، ح١. (8) ميزان الحكمة: للريشهري، ج٩، ص٩٦-٩٧. (9) فروع الكافي: للشيخ الكليني، ح٥، باب جهاد المرأة والرجل، ح١. (10) مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، ج١٥، ص٢١٤. علمٌ ثم إعدادٌ ثم قوةٌ ثم جهاد.. فهلاّ جاهَدتِ؟

المرأة بين الإسلام والغرب
منذ 3 سنوات
332

اقرئي أو لا تقرئي (٥) تفاخـري

بقلم: علوية الحسيني إنّ المُتأملةَ في رواياتِ محمدٍ وآل محمدٍ (عليهم السلام) تجد أنّ الافتخارَ على قسمين: ممدوح، ومذموم. والدعوةُ حتمًا موجهةٌ لكِ أُختاه بشأنِ الممدوح منه. أما المذمومُ منه فسيتمُّ التعريجُ عليه استطرادًا؛ لخطورة عواقبه. ■أولاً: التفاخرُ الممدوح الذي دلّ على هذا القسمِ عدة روايات، منها ما روي عن الإمام عليّ (عليه السلام): "ينبغي أنْ يكونَ التفاخرُ بعليّ الهمم، والوفاءِ بالذمم، والمبالغةِ في الكرم..."(١). وهذا فعلًا ما يحكمُ به العقلُ؛ لأنّها أمورٌ حسنةٌ، ينبغي على المؤمنةِ فعلُها. فالمرأةُ ذاتُ الهمّةِ العالية لو تفاخرتْ بهمَّتِها فإنّها ستكونُ مصدرَ قوّةٍ للأخريات، فضلًا عن بثِّ ما يُسمى اليوم (بالطاقة الإيجابية Positive energy) لهنّ، ولا رياء في ذلك. وكذا لو كانت توفي بما في ذمتِّها من حقوقِ الله (تعالى) والعباد، وأخبرتْ عن ذلك لا بقصدِ الرياء، وافتخرتْ، فإنّ افتخارَها سيكونُ مدعاةً للأخريات بالحذوِ حذوها. وأما صفةُ الكرم، فهي سجيةٌ لا رياءَ لو تفاخرتِ المرأةُ بها. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "ثلاثةٌ هُنّ فخرُ المؤمنِ وزينةٌ في الدنيا والآخرة: الصلاةُ في آخرِ الليل، ويأسُه مما في أيدي الناس، وولايةُ الإمام من آل محمد (صلى الله عليه وآله)"(٢). وللافتخار الممدوح أنواع، منها: 1/الافتخار بالعبودية لله (تعالى) إنّ عزّ المؤمنةِ وفخرها بالخضوعِ إلى خالقِها, فما بينَ العزّةِ والذُلِّ تنتجُ العبوديةُ الخالصةُ لله الواحد الأحد. جميعُنا نعلمُ أنّ النساءَ إماءُ الله (تعالى), والأَمَةُ من النساء في قِبالِ العبد من الرجال, سيّدها ومالكها هو الله (تعالى). وكما أنّ هناك من العبيدِ من يفتخرونَ بسيّدهم, كذا مِن الإماء من يفتخرن بسيّدهن. وقد رسمَ لنا الإمامُ علي (عليه السلام) قاعدةَ الافتخارِ بالعبودية لله (تعالى), قائلًا في مناجاتِه: "إلهي كفى بي عزّا أنْ أكونَ لك عبدًا، وكفى بي فخرًا أنْ تكون لي ربّا"(٣). 2/الافتخار بالدين إنّ الدّينَ السامي, الخاتم, لهو أكملُ الأديان, الذي به خُتِمَتِ النبوةُ فكان حبيبُ الله محمدٌ (صلى الله عليه وآله), وبه ستُختَمُ الإمامةُ فسيكونُ الإمامُ المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الداعي إلى ربّها, فحريٌ بمن ولِدت على الفطرةِ عليه, أو اعتنقته بعدَ أنْ كانت دونه, أنْ تفتخرَ به، مع العملِ وفقَ ما جاءَ به من تعاليمَ سماوية. دينٌ سما بمبادئه, وتجدُّدِ علومه, والمساواةِ بين أبنائه, قائمٌ على الرحمة, مبنيٌّ على الحكمةِ والموعظة الحسنة, ذلك هو الدّينُ الإسلاميُ القيّمُ, قال (تعالى): {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام}(٤). ٣/الافتخارُ بالمذهبِ وعقائده إنّ الانتماء إلى المذهبَ الذي هو الفرقةُ الناجيةُ كما نصَّ أهلُ البيتِ (عليهم السلام) لهو أمرٌ يستدعي الافتخارَ، وشكرَ الله (تعالى) على هذه النعمة، وبالملازمةِ تكونُ منظومتُه الدينيةُ على صواب؛ من عقيدةٍ وفقهٍ وأخلاق. روي عن الإمامِ علي (عليه السلام) أنَّه قال: "قال رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه و آله):‏" سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَ سَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ وَ الْبَاقُونَ هَالِكَةٌ، وَالنَّاجِيَةُ الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِوَلَايَتِكُمْ وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلْمِكُمْ وَلَا يَعْمَلُونَ بِرَأْيِهِمْ‏، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل"(٥). فالروايةُ تُصرّحُ بنجاةِ الفرقةِ التي تنهلُ عقيدتها من علومِ العترةِ المحمدية (عليهم السلام). وكفى بالمرأةِ فخرًا لو كانَ على مذهبِ وعقيدةِ الآل (عليهم السلام)، على أنْ تُقرِنَ ذلك بالعمل. ■ثانيًا: الافتخار المذموم ومصاديقه كثيرة، منها: ١/ الافتخارُ بالخلقةِ الحسنة إذا استلزم إهانة الآخرين. فكم من النسوةِ تفتخرُ على الأخرى بحُسنِها، فبدلَ أنْ تحمدَ الله (تعالى) على حُسنِ خلقتِها، وتقرأ الذكر المُستحب عند النظر في المرآة نجدُها تتفاخرُ على النساء اللواتي دونها جمالًا! بل وقد نجدُ بعضَهنّ يتفاخرنَ بجمالهنَّ الاصطناعي! فهذا التفاخرُ مذمومٌ أُختاه سواء أكان جمالكِ طبيعيًا أو صناعيًّا؛ لحديثٍ قدسيٍ حذّر الله (تعالى) فيه نبيّه الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) قال فيه: "قلْ يا محمد لمن افتخر بالوجه الحسن{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُون}(٦). وهنا نقطةٌ واقعيةٌ مهمة لابُدَّ من الإشارةِ إليها أُختاه: رغم وجودِ بعضٍ من النسوة اللواتي يتفاخرنَ بجمالهنّ إلاّ أنكِ ربما تجدين من تتفاخرُ بجمالها حتى على الرجال الأجانب -والعياذ بالله- فتكون كالسلعةِ معروضةً للقاصي والداني، ومن هُنا جاء الحكم الشرعي بوجوبِ سترِ الوجه إنْ كانَ جمالُ المرأة جذابًا. ومما يؤسفُ ويجرُّ الويلات على أولئك اللواتي يتفاخرنَ بجمالهنَّ حتى على الرجال الأجانب، أنّ بعضهنَ لا يُبدينَ اهتمامًا بأنفسهنَ، واعتناءً بجمالهنَ داخل بيوتهنَ لأزواجِهنَ، الأمرُ الذي أدّى إلى طلاق البعض منهن! فتأملي أُختاه. ٢/ الافتخار بالمال والبنين قال (تعالى): {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون}(٧). ومما يؤسفُ له ذهولُ بعض النسوة وافتخارهنَّ بالمالِ والبنين، فنجدُ زوجةَ أو ابنة الغني تتفاخرُ على زوجةِ أو بنتِ الفقير! ومن لديها طفلان تتفاخر على من لديها طفلٌ واحد، وهاتانِ تفتخرانِ على من لا ذرية لها! وهذه الخصلة السيئة تعودُ على النساءِ بالسلب ليس فقط من بابِ أنّ التفاخر مذمومٌ، بل أيضًا من بابِ انشغالهنّ عن دورهنّ الأسمى؛ فالتي يكونُ همُّها تكثيرُ المال يموتُ قلبها، وتنشغلُ عن عبادةِ ربِّها، وقد تنتهكُ مبادئَها -إنْ لم تُحافظْ عليها محافظةَ القابض على جمرة-، فيكونُ افتخارُها بفقرِها أولى من افتخارِها بغناها المشوبِ بالتقصير بحقِّ الله (تعالى). والتي يكونُ همُّها تكثير الذرية قد تنشغلُ عن أداءِ وظائفها الزوجية، وبالتالي تُغضِبُ ربّها -إن لم تنظم وقتها-، فيكونُ افتخارُها برضى زوجها أولى من افتخارِها بكثرةِ ذريتها المشوبِ بالتقصير بحقِّ زوجها. ٣/الافتخار بالحسب والنسب وللأسفِ كم من النسوةِ من تفتخرُ بحسبِها ونسبِها، متجاهلةً أنّ الأنساب لا تشفعُ يومَ القسط إنْ لم تكنْ مقرونةً بعملٍ صالح؛ قال (تعالى): {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُون}(٨)، ومتجاهلةً أنّ الأفضلية عند الله (تعالى) هي التقوى والعمل الصالح؛ لقوله (تعالى): {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم}(٩). وكذا قوله (تعالى): { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون}(١٠). والأدهى من ذلك أنّ هناك من النساء من يتفاخرن على أزواجهن أيضًا بحسبهنّ ونسبهنّ! وكم استتبعَ ذلك العديد من المشاكلِ الزوجية أدّتْ بعضُها إلى الطلاق. فتأملّي أُختاه إلى سوء المآل... ٤/ الافتخار بالملبس والاختيال به. روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) "من لبسَ ثوبًا فاختالَ فيه خسفَ اللهُ به من شفير جهنم، يتخلخلُ فيها مادامتِ السماوات والأرض"(١١). فكم من النسوةِ من تتفاخرُ بملبسها لاسيّما في مناسباتِ الأفراح والأحزان، وهذه خصلةٌ مذمومةٌ ينبغي تركها، فلا يُقاسُ الإنسانُ بلباسه؛ إذ كم من امرأةٍ ارتدتْ أفخرَ الثياب وهي بعيدةٌ كلّ البُعدِ عن الاتصاف بالصفاتِ اللائقة بالمؤمنة الشيعيّة قولًا وعملًا! ويدخلُ ضمن ذلك التفاخرُ بلبس الذهب. نعم أُختاه، لبسُ الثيابِ الجيّدة، والتحلّي بالحُلي هو أمرٌ مُستحسنٌ -شرطَ أنْ لا يكونَ فوقَ طاقةِ الزوج- لكن أنْ يكونَ اللبسُ بداعي التفاخر على النساء فهذا ما لا تحمدُ عُقباه. ٥/التفاخرُ بالأشخاص كمن تفتخرُ بزوجِها، أو صهرها، أو بفلانةٍ التي لها سُمعةٌ طيبةٌ بين النساء. فهذا أيضًا مدعاةٌ للتكبر على الأخريات. وقد لا يرتضي أولئك الأشخاص أنْ يُتفاخر بهم؛ إلاّ أنّ الصفةَ الغالبةَ على بعض النساء هي التفاخر أو ما يسمى عرفًا (بالتباهي)، فيجرينَ هذه الصفة على أنفسهنَّ دون إدراك عواقبها. وقد تكون بعضُ النسوةِ جاهلةً بعدم محبوبية التفاخر، أو بأنّ القِسمَ المذمومَ هو ما تُمارسه في سياقِ حياتِها، فمن الآن علِمتْ بقراءتِها لهذهِ الحروف التي تهدفُ إلى خدمتها، والوصول بها إلى الكمال الأخلاقي. ٦/التفاخرُ بالمشي وهذا ما لا يخفى على بعضِ النسوة قيامُ بعضِهن بذلك، فيتفاخرنَ بمشيهنَّ لا بقصدِ السكينة في المشي المطلوبة في شخصيّة المؤمنة، بل بداعي الخُيَلاء والتفاخر، وإلى هذه الخصلةِ السيئةِ أشارَ القرآنُ الكريم، بقول الله (تعالى): {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور}(١٢). _______________ (١) غرر الحكم: للشيخ الآمدي، ١٠٩٥٣. (٢) الكافي: للشيخ الكليني، ج٨، ح٣١٢. (٣) المناجاة المنظومة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام). (٤) آل عمران: ١٩. (٥) كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر: للشيخ الخزاز القمي، ١٥٥. (٦) المؤمنون: ١٠٤. (٧) الشعراء: ٨٨. (٨) المؤمنون: ١٠١. (٩) الحجرات: ١٣. (١٠) النحل: ٩٧. (١١) الأمالي: للشيخ الصدوق، ٥١٤. (١٢) لقمان: ١٨. عبوديةٌ ثم ثباتٌ ثم نجاةٌ.. فهلاّ تفاخرتِ؟

المرأة بين الإسلام والغرب
منذ 3 سنوات
968

حوارٌ مبين في زيارة الأمين (١١)

بقلم: علوية الحسيني ودعاء الربيعي "مُفارقةً لأخلاق أعدائِكَ" الأسئلةُ حولَ هذه الفقرة هي كالتالي: ■السؤالُ الأول: ما المُرادُ من مُفردة الخُلُق؟ وكيف وضَّحَ القرآن الكريم هذا المفهوم؟ ج/ الخُلُق: هو "عبارة عن هيئةٍ قائمةٍ في النفس، تصدرُ منها الأفعالُ بسهولةٍ من دون الحاجةِ إلى تدبّرٍ وتفكّرٍ"(1). أما القرآنُ الكريم فقد تعرّضَ إلى الأخلاقِ بقسميها الحسنة والسيئة, مؤكدًا على ضرورة التحلّي بالأولى, ناهيًا عن التخلّق بالثانية. هو كتابُ هدى وكمال, رسمَ للإنسان قواعدَ الأخلاقِ في التعاملِ مع بني أقرانه, كقوله (تعالى): {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}(2), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى التصدُّق, ذلك الخُلُق العظيم الذي يؤدي إلى التكافلِ الاجتماعي. وآياتٌ أخرى رسمتْ له أخلاقياتِ التعامُلِ مع ربِّه, كقوله (تعالى): {مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه}(3), فالآيةُ الكريمةُ تُشيرُ إلى العلاقة بين العبدِ وربِّه إذا كانت مشوبةً بالتعدّي على الحدود التي رسمها اللهُ (تعالى) لعباده. ومن ناحيةٍ أخرى نجدُه قد رسمَ لنا قواعدَ أخلاقِ المهن, وأخرى نجدُه قد رسمَ لنا أخلاقياتِ بناءِ الذاتِ الإنسانية, وهكذا. وبما أنّ الأخلاقَ أحدُ رؤوسِ هرمِ المنظومةِ المعرفية الدينية بالإضافةِ إلى أصولِ الدّين –العقيدة- وفروعه -الفقه-, فقد أولى لها القرآنُ الكريمُ درجةً من الأهمية, وحثّ ما حثّ عليه من فضائلها, ونهى ما نهى عنه من رذائلها. ■السؤال الثاني: من هُم أعداء الله (تعالى) المقصودون في الزيارة بحيث يطلبُ الإمامُ السجاد من الله (تعالى) أنْ يُبعدَه ويُجنبه أخلاقَهم؟ ج/ إنّ الله (تعالى) ذكر أعداءه في كتابه الكريم في آياتٍ عديدة, منها آياتٌ أوضحتْ مصيرَ أعداءِ الله (تعالى) فقط دون أنْ تُحدِّدَ ماهيةَ أولئك الأعداء، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُون}(4), وكقوله (تعالى): {ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد}(5), ومنها ما أوضحتْ عدم محبةِ الله (تعالى) بمن عاداه, كقوله (تعالى): {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين}(6). وبما أنّ القرآن الكريم يفسّر بعضُه بعضًا, فنجدُ المرادَ من (أعداء الله (تعالى)) في آياتٍ أُخر, منها ما عرّفتهم بالظالمين؛ كقوله (تعالى): {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(7), وأولُ من تعدّى حدود الله (تعالى) هو ابليس, فكان أولَ أعداءِ الله (تعالى), ولهذا نهانا (سبحانه) عن اتّباعه بقوله (تعالى): {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين}(8). ومن تلك الآيات ما عرّفت أعداء الله بالكافرين؛ كقوله (تعالى): {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(9). ومن تلك الآيات ما عرّفتهم بأنّهم أعداءُ رسلِ الله (تعالى) وملائكته, وبالتالي هم كافرون, وهذا ما صرّحتْ به هذه الآية الكريمة في ذيلها: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين}(10), فالآيةُ الكريمةُ أشارت إلى حكمِ المُعادي الكافر بأوائل أصولِ الدّين: التوحيد -بقوله عدوًا لله- , والعدل الإلهي -بقوله وملائكته التي هي أحد الطرق التي يُكلّم الله (تعالى) به أنبياءه ورسله بالتكاليف الشرعية فيوصلونها إلى العباد, وذلك من عدله (تعالى) أنّه يُعلِّم عبادَه بالتكاليف ثم يُثيب المطيع, ويعاقب العاصي-, والنبوة –بقوله ورسله-. *فائدة: إنّ الآيةَ الكريمة حينما قالتْ من كان عدوًا لملائكةِ الله (تعالى) فإنّها أوضحتِ المقصودَ من معاداةِ الكفار للملائكة وذلك بعدمِ الإيمان بهم, إلاّ أنّ الآيةَ عطفتْ في الحكم -معاداةَ الله (تعالى) لهم-, فقالت: من كان عدوًا لله, وملائكته, ورسله, وجبريل, وميكال (عليهما السلام). فتكرارُ العطفِ على فردين من أفراد الملائكة جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) رغم أنّ نوعَ الملائكةِ قد ذُكِرَ في بداية الآية, يدعو إلى التساؤل: لماذا التكرار؟! جوابه: نحنُ نعتقدُ أنّ الله (تعالى) حكيمٌ, منزّهٌ عن اللغوِ في الحديث, فحينما كرّرَ حكمَ معاداةِ الملَكين -جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام)- فلعله كان ذلك منه إشارةً منه (تعالى) إلى ما صدرَ من الكافرين في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) حينما كفروا ببعض الملائكة؛ فكان سببُ نزولِ هذه الآية: "أنّ ابن صوريا وجماعةً من اليهودِ جاؤوا للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: خصلةٌ واحدةٌ إنْ قلتَها آمنتُ بك واتبعتُك. فسألوه: أيّ ملكٍ يأتيك بما يُنزل الله عليك؟ قال (صلى الله عليه وآله): جبريل. قال ابن صوريا: ذاكَ عدوّنا ينزِلُ بالقتال والشدّة والحرب، وميكائيل ينزِلُ باليُسر والرخاء. وطلبوا أنْ يكونَ ميكائيلُ هو الذي يُنزّل الأحكامَ من عندِ الله (تعالى) على قلبِ النبي (صلى الله عليه وآله) حتى يؤمنوا به!"(11), وما كانَ ذلك إلاّ تملُّصًا من الإيمان بالدعوة المحمدية إلى دين الله (تعالى). وبهذا يتضحُ لنا من هم أعداء الله (تعالى), وهذا ينطبقُ على ذراريهم, ومؤيديهم, وإنْ كانوا يطلقون على أنفسهم أنّهم مسلمون. ■السؤال الثالث: هل المرادُ من المُفارقةِ لأخلاق أعداءِ الله تعالى هي نفسها البراءةُ منهم، أم أنّ مفهومَ البراءة يختلفُ عن مفهومِ المفارقة؟ ج/ نعم, فكما توجدُ هناك ملازمةٌ بين أخلاق الله (تعالى) وأوليائه ووجوب الاتصاف بها, توجد ملازمةٌ بين أخلاقِ أعداء الله (تعالى) ووجوب النفورِ منها والتبرّي من أصحابِها. وبالعقلِ -إجمالًا- يستطيعُ كلّ إنسانٍ أنْ يُفرّقَ بين الأمورِ الحسنة والسيئة, فيُدرك أنّ الكذبَ -مثلاً- قبيحٌ فلا يكذب, ويُدرك في قباله أنّ الصدقَ -مثلاً- حسنٌ فيتصف به. إذًا فمسألة التمييز بين الحسن والقبح لها تأصيل عقلي؛ والأخلاق من المسائل التي تخضع لذلك, فبالعقل أُدرِكَتِ الأخلاق حتى قبل العلم بالنصوص النقلية الصادرة عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)؛ بدليل قوله (عليه وآله السلام) : "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(12), فلم يقل لأعلِّم الأخلاق, وإنّما ليتمم ما هو موجود لديهم بالفطرة, ويبيّن لهم أكمل الأخلاق. وعليه, إنّ الإنسانَ يُدركُ بعقله الأخلاقَ السيئة التي توجبُ غضبَ الله (تعالى) فينفر منها, ويتبرأ ممن يتصف بها. كما يدرك بعقله الأخلاق الحسنة التي توجب رضا الله (تعالى) فيتصف بها, ويوالي من يتصف بها. إذًا فالنفورُ شيئًا فشيئًا من أخلاقِ أعداء الله (تعالى) يؤدي إلى البراءة منها وممن يتصف بها. كما التحلّي بأخلاقِ أولياء الله (تعالى) يؤدي إلى اكتسابها وتولّي من يتصف بها. ■السؤال الرابع: كيف يُمكِنُ لنا أنْ نُقبّحَ أفعالَ وأخلاقَ أعداء الله (تعالى) في أعيُنِ الناس حتى يتجنبوا محاكاتها أو اتباعها؟ وما هي الرسالة التي من الممكنِ أنْ نوجهها للأجيالِ الشابة فيما يخصُّ الابتعاد عن أخلاق أعداء الله (تعالى)؟ ج/ قُلنا سابقًا إنّ الأمورَ القبيحةَ واضحةٌ عقلًا عندَ كلِّ إنسان؛ طبقًا لنظريةِ (الحسن والقبح العقليين), فالقبيحُ قبيحٌ لا يحتاجُ لأن نُقبّحه لسالكيه, فمنْ يتصف بقبائحِ الأخلاق يُدرك حتمًا أنّه على غيرِ الحالةِ المُعتادة عندَ عامةِ الناس من الأخلاقِ الحسنة؛ بدليلِ أنّ البعضَ حينما يريدُ أنْ يعكسَ قُبحَ أخلاقِه يتردّدُ ويخشى الناس, فنجدُه لا يكذبُ أمام أيّ أحدٍ, ولا يخونُ, ولا يُفشي سرًا أمامَ أيّ أحد. وفي أحيانٍ أخرى نجدُ البعض يتجاهرُ بقبائحِ الأخلاقِ أمامَ الملأ, كمن يتعدّى حدودَ الله (تعالى) ويسبُّ اللهَ ورسولَه وكلَّ من ينصحه, فهؤلاء رانَ على قلوبِهم ما كانوا يكسبون, بل وبعضُ الآياتِ تصفُهم بأنّهم كالأنعامِ وأضل, بعد عدمِ استجابتِهم للرشد, وعدم ارعوائهم عن طريقِ الغي. وأمّا الرسالةُ التي من الممكن أنْ نوجهَها لكلِّ من يتخلّق بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) فتتمثل بالنقاط التالية: 1/ ضرورةُ معرفةِ الآثار السلبية من الاتصافِ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى) (الأخلاق القبيحة), من قبيل: أ- فساد الإيمان: عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "إنّ سوءَ الخُلُق ليفسدَ الإيمان كما يُفسِدُ الخلُّ العسل"(13). ب- تعذيب النفس: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من ساء خُلُقه عذّب نفسه"(14), حيثُ إنّ الجميعَ ينفرُ منه؛ لسوء خلقه, فيبقى معتزلًا مستوحشةً نفسه. ج- الاحتقار في المجتمع: إذ من وظائفِ الآمرِ بالمعروف والناهي عن المنكر أنْ يأمرَ وينهى حسب الدرجات والشرائط, وحالُ عدم الاستجابة يُبدي الانزجار واللامبالاة لمن اتصفَ بأخلاقِ أعداء الله (تعالى). د- توهين الشخصية: إذ إنّ صاحبَ الأخلاق السيئة ضعيفُ الرأي, وهنُ الشخصية؛ لبعدِه عن النهجِ القويم. 2/ بيانُ محاسنِ الأخلاق والآثار الإيجابية من التحلّي بها, وأنّها أخلاق النبي وآله (عليهم السلام). 3/ ترويضُ وتهذيبُ النفس بإشرافِ مرشدٍ يكون كالطبيب الروحي له. 4/ ضرورةُ معرفةِ أنّ طريقَ التكاملِ لا زال مفتوحًا, فبإمكان الإنسان سيء الخلق أنْ ينسلخَ بسهولةٍ من تشبهِّه بأعداء الله (تعالى), ويُصبِحُ كأحدِ أولياء الله (تعالى). ___________________ (1) الحقائق في محاسن الأخلاق: للفيض الكاشاني, ص54. (2) البقرة: 261. (3) الطلاق: 1. (4) فصلت 19. (5) فصلت: 28. (6) البقرة: 190. (7) البقرة: 229. (8) البقرة: 208. (9) البقرة: 98. (10) البقرة: 98. (11) ظ: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزّل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي. (12) حديث مشهور. (13) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب سوء الخلق, ح3. (14) المصدر نفسه, ح4. اللّهم استعملنا فيما تُحبُّ وترضى, بحقِّ محمدٍ وآله أولي الخُلُق السجي والعُلى.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
303

حوارٌ مُبين في زيارة الأمين (١٢)

بقلم: علوية الحسيني ودعاء الربيعي "مشغولةً عن الدنيا بحمدكَ وثنائكَ" محورُ هذه الحلقةِ الأخيرة هو (الانشغالُ عن الدنيا بذكرِ اللهِ (تعالى) والثناء عليه)، وسوف نعلمُ كيفية الانشغال عن الدنيا بحمدِ وذكر الله (تعالى)، وكيفَ لنا أنْ نصلَ إلى هذهِ المرتبةِ العظيمة. فذكرُ الباري من شيَمِ المُتقين كما قال مولانا علي (عليه السلام): "ذكرُ اللهِ شيمةُ المُتقين". وقال أيضًا: "ذكرُ اللهِ سجيةُ كلِّ مُحسنٍ وشيمة كلِّ مؤمنٍ", وقال: "ذكرُ اللهِ مسرةُ كلِّ مُتقٍ ولذّة كلِّ موقنٍ" ويتم بيان ذلك من خلال عدة أسئلة: السؤال الأول: ما هي كيفيةُ الانشغالِ عن الدنيا؟ وكيف نُحقق ذلك؟ ولماذا قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): "مشغولةً بالحمدِ والثناء" ولم يقُلْ مثلاً "مشغولةً بالاستغفار، أو التكبير"؟ ج/ قبلَ بيانِ كيفيةِ الانشغالِ بذكرِ وحمدِ الله (تعالى) وترك الدنيا، هناك التفاتةٌ مهمةٌ لابُدَّ من بيانها، وهي أنّ الذكرَ والحمدَ لله (تعالى) يكونُ في دارِ الدنيا فكيف تكونُ مذمومةً وهي طريقُ مؤدٍ للخيرات؟ إذًا كيف نتركها؟ الجواب: أجبنا عن ذلك في إحدى الحلقات السابقة، الثامنة تحديدًا (مشتاقةً إلى فرحة لقائك)، فكانَ حُبُّ الدنيا والتعلّقُ بها سببًا لحجبِ المؤمنين عن رؤية ربّهم قلبيًا وأما الدنيا في هذا المقطع (مشغولةً عن الدنيا بحمدِك وثنائك) فالدنيا تارةً تكونُ دارَ اصطفاء، وأخرى دارَ خزي؛ كما أخبرنا اللهُ (تعالى) في كتابه الكريم، بقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين}(1), وقال (تعالى) في قباله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم}(2) فيتضح لنا أنّ الدنيا متعددةُ الأدوارِ حسب سالكيها، فقد رويَ عن الإمامِ علي (عليه السلام) أنّه قالَ لشخصٍ يذمُّ الدنيا: "أيُّها الذامُّ للدنيا، المغترُّ بغرورها، المخدوعُ بأباطيلها، أتغترُّ بالدنيا ثم تذمّها؟ - إلى أنْ قال - إنّ الدنيا دارُ صدقٍ لمن صدّقها، ودارُ عافيةٍ لمن فهم عنها، ودارُ غنى لمن تزوّد منها، ودارُ موعظةٍ لمن اتّعظ بها، مسجدُ أحبّاء الله، ومُصلّى ملائكةِ الله، ومَهبطُ وحي الله ومتجر أولياء الله...."(3) فاتضح أنّ الدنيا على أربعةِ أقسامٍ تندرجُ تحت إطارِ دنيا الاصطفاء المُشار إليها، فمن يتخذها لغير هذه الأغراض الأربعة يكن محتجبًا عن لقاء الله (تعالى)، منشغلًا بها، أما من اتخذها ممرًا فقد لاقاه (جلّ جلاله)، وأنشغل عنها. إلى هنا يبقى السؤالُ قائمًا: كيف ننشغلُ عن الدنيا بحمدِ وذكرِ الله (تعالى)؟ الجواب: بما أنّ الدنيا هي دارُ علمٍ وعملٍ، فينبغي اغتنام الأوقاتِ فيما يعودُ نفعًا على النفس، وإلاّ سوّفت وألهت بطول الأمل، كما يقولُ الشاعر: يا منْ بدنياهُ اشتغل قد غرّه طولُ الأمل الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل وأيُّ عملٍ أزكى من ذكر الله (تعالى)، ومن مصاديق الذكر أداءُ الواجباتِ والمستحبات؛ لأنّها تُهيمنُ على القلب فتجعله مطمئنًا مُستنيرًا بنورِ المعرفة، ولا يتعدّى الحدود التي رسمها له الله الواحد الأحد، فلا يرتكبُ صاحبه الذنب، وإن ارتكب أسرع وتوضأ بماءِ التوبة، وصلّى على سجادةِ العفو؛ يقول (تعالى): {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب}(4)، ويقول (سبحانه): {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون}(5)، فذكر الله (تعالى) أكبر وأوسع من أنْ يشملَ الصلاة فقط. إن الانشغالُ عن الدنيا بذكرِ وحمدِ الله (تعالى) لا يعني انطواء العبدِ وعزلتِه عن الناسِ وتفرغه للتعبد، بل يعني اتخاذ دارِ الدنيا لحمدِ وثناءِ الله (تعالى)، وفي الوقتِ نفسه ممارسة نشاطات الحياة فيها، والدعاءُ بأنْ يوفقَ لذلك مبتعدًا عن الغفلات، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه مكارم الأخلاق: "اللّهم نبّهني لذكرِكَ في أوقات الغفلة، واستعملني لطاعتك في أيام المهلة"(6)، والحمدُ والثناءُ من الذكر، فيشمله طلب الدعاء. ويعضدُ ذلك ما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "إنّ الدنيا لم تُخلقْ لكم دارَ مقامٍ، بل خُلِقت لكم مجازًا لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار"(7) أما سببُ تخصيصِ الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه أثناء زيارته لجدّه الإمام علي (عليه السلام) بالحمدِ والثناءِ دون سائر الأذكار؛ فلعلّه إشارة منه (عليه السلام) إلى أنّه وبعدَ معرفةِ الله (تعالى) يأتي لزومُ شكره، والثناء على عطاياه؛ وهذا ما تُشيرُ إليه القاعدة العقلية (لزوم شكرِ المنعم)، التي هي إحدى القواعد التي توجبُ على العبدِ معرفةَ ربّه. روي في فضل الحمد "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ قُلْتُ لأبِي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام): أَيُّ الأعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى الله (عَزَّ وَجَلَّ)؟ فَقَالَ أَنْ تَحْمَدَه"(8). وفي الثناءِ الذي هو: التمجيدُ لله (تعالى)، ومدحه، روي "عن الإمام الصادق (عليه السلام): إنّ العبدَ لتكونَ له الحاجة إلى الله فيبدأ بالثناءِ على الله والصلاة على محمدٍ وآله حتى ينسى حاجته، فيقضيها من غير أنْ يسأله إياها"(9). أما عن كيفية الثناء فقد روي عن أبي عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام): "إِذَا طَلَبَ أَحَدُكُمُ الْحَاجَةَ فَلْيُثْنِ عَلَى رَبِّهِ وَلْيَمْدَحْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ مِنَ السُّلْطَانِ هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْكَلامِ أَحْسَنَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِذَا طَلَبْتُمُ الْحَاجَةَ فَمَجِّددُوا الله الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ وَامْدَحُوهُ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ تَقُولُ: يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، وَيَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ، يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ، يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً، يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَقْضِي مَا أَحَبَّ، يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأعْلَى، يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ، يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ. وَأَكْثِرْ مِنْ أَسْمَاءِ الله (عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ الله كَثِيرَةٌ، وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و وَآلِه وجميعُ ذلك إقرارٌ بوجودِ الله (تعالى)، والمعرفة به. السؤال الثاني: ماهي الآثار الدنيوية والأخروية المترتبة على الانشغال عن الدنيا بذكر الله وحمده وثنائه؟ ج/ الآثارُ عديدةٌ، منها: 1/ الاطمئنان القلبي. 2/ تخفيف الحساب. 3/ بلوغ المنازل الشريفة في الدارين. 4/ ديمومة حياطة الله (تعالى) له. 5/ زيادة الأرزاق. 6/ إحياء القلوب. 7/ كثرة البركة. 8/ النجاة من الهلكة. 9/ الابتعاد عن الشيطان. 10/ الدنو من ملائكة الرحمن. السؤال الثالث: كيف جسّد الإمام السجاد (عليه السلام) وهو سيّدُ الساجدين وزين العابدين مفهوم الانشغال عن الدنيا بذكر الله (تعالى)؟ ج/ لقد جسّد الإمام زين العابدين (عليه السلام) صاحبُ هذه الزيارة الانشغال بحمدِ الله (تعالى) والثناءِ عليه تاركًا الدنيا وزخرفها عن طريقِ المنظومة العبادية التي أسسها (عليه السلام) من صلاةٍ ودعاءٍ عالي المضامين، عميق المقاصد، وكان هذا سلاحُه في مواجهةِ الدنيا وأهل الدنيا، فجمعَ بين محاربة الدنيا وتهذيب المتعلقين بها، وبين الانشغال بحمد الله (تعالى) وثنائه. لكن هذا لا يعني أنّه ترك وظيفته الدعوية، وظيفة الأنبياء (عليهم السلام)؛ إذ هو إمامُ ذلك الزمان بعد أبيه الحسين (عليه السلام)، بل كانتْ أدعيتُه فيها نوعٌ من الدعوةِ إلى الله (تعالى)، ذات صبغة تعليمية، مكتسية بعباراتٍ تكشفُ الحكّام الظالمين، ومتلألئة بأنوارٍ معرفيةٍ عقائديةٍ وفقهيةٍ وأخلاقية، فكتب صحيفته السجادية التي تُسمّى (زبور آل محمد)؛ لعظمتها، فهذا هو الحمد والثناء الذي جسّده (عليه السلام). ومن المؤسفِ أنّ البعض يعتقدُ في إمامه السجاد (عليه السلام) أنّه اتخذ من البكاء وردًا له، واعتزلَ شؤونَ الأمةِ الإسلامية آنذاك، وقد غابت عنهم أمورٌ عديدةٌ غير دور السلاح الدعائي، منها: أنّه (عليه السلام) كان يشتري عبيدًا ويعلّمهم ثم يعتقهم؛ لينشروا ما تعلّموه بين الأوساط، فكان هذا من قبيل الانشغال بنشر حمد الله (تعالى) الواحد الأحد والثناء عليه. وكذا خطبته البليغة التي تشهدُ بموقفها المسيرةُ الحسينية، حيثُ كانت من قبيل نشر حمد وثناء الله تعالت أسماؤه. السؤال الرابع: هناك بالتأكيد فارقٌ كبيرٌ بين من ينشغلُ عن الدنيا وبين من ينشغلُ بالدنيا، ولنا في سيرِ الماضين دروسٌ وعِبرٌ فهلّا بيّنتم هذا الأمر؟ ج/ إنّ الفرقَ بين الجملتين هو حرفُ جر، فمفادُ الأولى صرفُ الإنسانِ عن الدنيا، والثانية تغمسه في الدنيا. وشتّانَ ما بين الحالين. لنأخذ مثالًا الشخص المَزُوْرَ، النور في الديجور، أمير المؤمنين، علياً (عليه السلام) فقد كان كثيرًا ما يدعو إلى الزهدِ في الدنيا –الزهد أنْ لا يملكك شيءٌ-, ولهذا كانت بطولاتُه وشجاعتُه مسجلةً أسمى الدرجات، وفاقَ من زاحمه المنصب القيادي آنذاك، وكان لا يهابُ الموت ومفارقة الدنيا، حتى أصبح الموت له ولذريته عادة، والكرامة له ولهم الشهادة. والمواقف التاريخية خيرُ شاهدٍ على ذلك؛ وما نومه في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلا تجلٍ للانشغال بحمدِ الله (تعالى) وثنائه، وترك التعلق بالدنيا، مع الاستعداد للموت. وما مشاركته في الحروب مع ابن عمه (صلى الله عليه وآله) إلاّ تجلٍ آخر أيضًا. وعلى هذا فليقس كلّ من لا يعرف شيئًا عن آل محمد (عليهم وعلى سيدهم السلام)، فتوارثهم ذلك كان من المصطفى الأحمد، محمد (صلى الله عليه وآله) ومن هنا توارثت العترة المحمدية خصلة الانشغال عن الدنيا بحمد وثناء الواحد الأحد، مع مراعاة وظائفهم المنوطة بهم.هي الخلاصة لأهمِّ الدروسِ والعبر المُستسقاة من هذه الزيارة العظيمة التي شملت وتضمنت مفاهيم غاية في الأهمية تساهم وبشكلٍ فعّال في صلاحِ الفردِ والمجتمع ككل؟ ج/ الخلاصة: أنّ الدعاء الوارد في زيارةِ أمينِ الله (عليه السلام) يُحاكي جوارح وجوانح العبد؛ فتارةً يُحاكي الجوارح كالفقرات التالية: مولعةً بذكرك، مفارقةً لأخلاق أعدائك، مشغولةً عن الدنيا بحمدِك وثنائك، ذاكرةً لسوابغ آلائك، مستنةً بسننِ أوليائك. وأخرى يُحاكي الجوانح كالفقرات التالية: مطمئنةً بقدرك، راضيةً بقضائك، صابرةً على نزول بلائك، مشتاقةً إلى فرحة لقائك، متزودةً التقوى ليوم جزائك، شاكرةً لفواضل نعمائك، محبةً لصفوة أوليائك. وكما تعوّدنا قراءةَ الأدعيةِ الشاملةِ من أهلِ البيت (عليهم السلام) عمومًا، ومن صاحب الزبور المحمدي، الإمام زين العابدين (عليه السلام) خصوصًا، فهذا الدعاءُ أحدُ أدعيته، الذي يُعدُّ أحدَ اللوائحِ المعرفية التي لا تخلو منها حياةُ أيّ عبد، ومن ثم فلا استغناء عن مفردات هذا الدعاء. ونرجو أن نكون قد أعطينا الفقرات شيئاً من حقِّها بالتوضيح -وإنْ كان قاصرًا.- _________________ (1) البقرة: 130. (2) البقرة: 114. (3) نهج البلاغة: ح131. (4) الرعد: 28. (5) العنكبوت: 45. (6) مفاتيح الجنان: للشيخ عباس القمي, ص (7) نهج البلاغة, خ132. (8) الكافي: للشيخ الكليني, ج2, باب التحميد والتمجيد, ح2. (9) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج39, ص312. (10) مصدر سابق, ج2, باب الثناء قبل الدعاء, ح6. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي تَحَبَّبَ إِلَيَّ وَهُوَ غَنِيُّ عَنِّي، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لا ذَنْبَ لِي، فَرَبِّي أَحْمَدُ شَيْءٍ عِنْدِي وَأَحَقُّ بِحَمْدِي.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
377

أين عدالة الله (سبحانه وتعالى)؟! من أسألتكم...

بقلم: علوية الحسيني السؤال: أين عدالةُ اللهِ (تعالى)؛ فهناك أُناسٌ يولدون ليجدوا أنفسهم على هدى، وفي بيئةِ هدى, وآخرون في بيئةِ ضلالٍ فتضل؟ فما فضلُ الأول؟ وما ذنبُ الثاني؟ الجواب: قال (تعالى): بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط}(1). انطلاقًا من هذه الآية الكريمة لابُدّ من الإيمان بأنّ الله (تعالى) عادل, ولو نُسب إليه الظلمُ لم يكن إلهًا؛ ولو لم يكن متصفًا بالعدل, -وفاقد الشيء لا يعطيه- فكيف يأمرُ بشيءٍ هو لم يتصف به؟! إذًا لزِمَ خلو ذاتِه عن كمال, وحاشاه (سبحانه) فهو الكمال المطلق. والعدلُ الإلهي ثاني أصلِ من أصول الدّين, ومُنكرُه كافرٌ لا محالة؛ لذا على المؤمن أنْ لا يجعل أصولَ الدّين عضين؛ يؤمنُ ببعضٍ ويكفرُ ببعض, بل لابُدَّ من الإيمان بها جميعًا. نـعم, هناك أمورٌ توهِمُ أنّها مُتعلقةٌ بعدل الله (تعالى), والحالُ أنّها ليست كذلك, فالخللُ في سلبياتِ نتائج تلك الأمور يرجعُ إلى القابل -المخلوقات- لا إلى الفاعل –الله (تعالى)-. وعليه، سيكونُ الجوابُ عن هذا السؤال ضِمنَ عدّة نقاط: ■النقطة الأولى: المكانُ ليسَ مقياسًا للاهتداء أو للضلال. فمَن قال إنّ المكانَ هو مقياسٌ لنسبةِ الفضيلة للإنسان أو لسلبها عنه؟! فليس ما ذكرتم في السؤال قاعدةً كليةً؛ فكم من بيئةٍ هاديةٍ وفيها العديدُ من أهلِ الضلال, وكذلك كم من بيئةٍ ضالّةٍ وفيها العديدُ من أهلِ الرشاد. ▪️أولًا: نأخذ مثالًا على من عاش في بيئةِ هدايةٍ، لكنّه كان من أهلِ الضلال: أ- ابنُ النبيّ نوح (عليه السلام)، فقد ولِدَ في بيئةِ هدايةٍ, بل وتربّى على يديّ نبيّ من أنبياء الله (تعالى), وصفاتُ النبيّ وعصمته معروفةٌ للجميع, فنشرَ النبيُّ دينَ الله (تعالى), وخلقَ بيئةَ هدايةٍ, إلاّ أنّ ابنَه لم يغتنمْ نعمةَ تلكَ البيئةِ المُحيطةِ به, فكفرَ بالله (تعالى), حينما أمرَهُ أبوه أنْ يركبَ السفينةَ حتى ينجوَ من الطوفان, لكنّه فضّلَ الاعتصامَ بجبلٍ, وتركَ أمرَ النبي الذي كان صادرًا من الله (تعالى) عن طريق الوحي. والقرآنُ الكريمُ ذكرَ لنا ما دارَ من حوارٍ بينَ النبيّ نوحٍ (عليه السلام) وابنِه؛ قال (تعالى) حكايةً عن نبيّه: {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين}(2). فكانت نتيجتُه أنّه كان من الغارقين, فلا بيئةَ هدايةٍ نفعتَه, ولا كونه ابنَ نبيٍ شفعتْ له. ب- امرأتا نبيينِ من أنبياءِ الله (تعالى), نوح ولوط (عليهما السلام), ولا صلةَ كصلةِ الزوجية, فكيفَ بها إذا كانتْ صلةً بأنبياءِ الله (تعالى)؟! فرغمَ البيئةِ التي عاشتا فيها, والتي وفرّها لهما النبيّان (عليهما السلام) وهي بيئةُ هدايةٍ ورُشدٍ وصلاحٍ، إلاّ أنّ تلك المرأتين لم تنتفعا من تلك البيئة, فانحرفتا عن طريقِ الحقِّ, وكانَ مصيرهما النار, فلم ينفعهُما العيشُ في بيئةِ هداية, ولم تشفعْ لهما علاقتهما الزوجية بالنبي. واللهُ (تعالى) أخبرنا عن ذلك في كتابه الكريم, بقوله (سبحانه): {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين}(3). ▪️ثانيًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في بيئةِ ضلالٍ لكنّه كانَ من أهلِ الهداية أ- السيّدة آسيا زوجةُ الطاغيةِ فرعون, ذلك الرجل الكافر, الذي ادّعى أنّه الإله, وسخِر من نبيّ الله (تعالى) موسى (عليه السلام) حينما دعاه إلى عبادةِ الله الواحد الأحد بطلبِه أنْ يبنى له سلّمًا حتى يصعد به إلى السماء لعلّه يلقى الله (تعالى)! فرغمَ شناعةِ أفعاله, وجُرأةِ كفره, وفسادِ وضلالِ بيئتِه عقيدةً وأخلاقًا, إلاّ أنّ زوجتَه لم تتأثر بتلك البيئة الفاسدة, وحافظتْ على سلامةِ دينِها, حتى صارتْ مثلًا للذين آمنوا من الرجال والنساء. قال (تعالى) في كتابه الكريم حول ذلك: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين}(4). ب- الحُرّ الرياحي, ذلك الرجل الذي كان قائدَ جيشٍ ضدَّ وليٍ من أولياءِ الله (تعالى), الإمام الحسين (عليه السلام), فحاصرَ الإمامَ بجيشِه, وروّعَ سليلاتِ النبوّةِ (عليهن السلام), وكانَ يعيشُ في بيئةٍ ضالّةٍ مُضلّة, تدعو إلى فعلِ المنكرات, وتناولِ المُسكِرات, والطرب مع الراقصات, تلك البيئة التي خلقها لهم طاغيتهم (عليهم لعنة الله جميعًا), إلاّ أنّ الحُرّ انسلخَ من تلك البيئة, وتحوّلَ إلى مؤمنٍ موالٍ للإمام الحسين (عليه السلام), ولم يؤثرْ عليه فساد بيئته, ولا جبروت حاكمه. ■النقطة الثانية: الزمان ليس مقياسًا للاهتداء أو للضلال فمَن قال إنّ الزمان هو مقياس لنسبةِ الفضيلة للإنسان أو لسلبها عنه؟! فليس ما ذكرتم في السؤال قاعدةً كليةً؛ فكم من أُناسٍ عاشوا في زمنِ هدايةٍ وكانوا من أهلِ الضلال, وكذلك كم من أُناسٍ عاشوا في زمنِ ضلالةٍ وكانوا من أهلِ الرشاد. ▪️أولًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في زمنِ هدايةٍ وكانَ من أهلِ الضلال. أ- أبو لهب, ذلك الرجلُ الذي عاشَ في زمنٍ أخذتِ الهدايةُ في إتيان ثمارها, على يدِ نبي الله محمد (صلى الله عليه وآله) حتى آمنَ بعضُ اليهودِ والنصارى, وبعضُ جاهليةِ قريش؛ لتأثُّرِهم بأحقيّةِ الدعوةِ الإلهية, إلاّ أنّ أبا لهب بقيَ على جاهليته وكفره, رغم زمنِ الهدايةِ الذي أحاطَ به, حتى صارَ مَحطَّ لعنٍ في القرآن الكريم, بل وصرّح بمصيره الجهنمي, بقوله (تعالى): {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَب}(6). ب- جعفر الكذاب, هو جعفر ابن الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام), ولُقِّبَ بـ(الكذاب)؛ لادعائه الإمامة كذبًا, "بل ولَهُ عدّةُ أفعالٍ -ممكن أنْ تُسمى جرائم- شنيعة لا تليقُ بأنْ تصدرَ من رجلٍ عاصرَ الإمام, وعاشَ زمن هداية"(7). فلا زمنه منعَه عن الضلالِ, ولا الضلال فارقَ أفعالَه. ▪️ثانيًا: نأخذ مثالًا على من عاشَ في زمنِ ضلالٍ وكانَ من أهلِ الرشاد أ- المُستبصرون اليومَ الذين يعيشون في زمنٍ يدعو فيه أئمتهم إلى الضلالِ بكافةِ طرقِ الدعوة, ويغلِّفون فسادَ معتقدهم للناسِ حتى انطلتْ أكاذيبُهم على البسطاء, فالزمنُ زمنُ ضلالٍ, إلّا أنّ هناك أُناسًا أزالوا ستارَ الضلالِ واستناروا بنورِ العلم, فاعتنقوا المذهبَ الحقّ, مذهب أهل البيت (عليهم السلام). ب- المُنتظرون للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الذين يعيشونَ وسطَ شبهاتٍ تحاولُ النيلَ من عقيدتِهم بالإمامِ أو بغيره, أو تُريدُ زلزلتِهم وتشكيكِهم, ذلك الوسطُ الذي كَثُرَ فيه أهلُ الباطل, وقلَّ فيه أهلُ الحقِّ, ورغمَ ذلك فقد ثبت أولئك المنتظرون على عقيدتِهم, حتى فاقَ فضلُهم فضلَ من صاحبَ النبي (صلى الله عليه وآله)؛ حيثُ رويَ "عَنْ أبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيَّ، عَنْ أبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ، عَنْ عَلِيَّ بْن الْحُسَيْن (عليهما السلام) قَالَ: تَمْتَدُّ الْغَيْبَةُ بِوَلِيَّ اللهِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أوْصِيَاءِ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَالأئِمَّةِ بَعْدَهُ، يَا أبَا خَالِدٍ إِنَّ أهْلَ زَمَان غَيْبَتِهِ، الْقَائِلُونَ بِإمَامَتِهِ، الْمُنْتَظِرُونَ لِظُهُورهِ، أفْضَلُ أهْل كُلّ زَمَانٍ، لأنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُول وَالأفْهَام وَالْمَعْرفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان بِمَنْزلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالسَّيْفِ، اُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقّاً، وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِين اللهِ سِرّاً وَجَهْرا"(8). *دفعُ دخلٍ: روي عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إنَّ في الليلةِ التي يولَدُ فيها الإمامُ لا يولدُ فيها مولودٌ إلَّا كان مؤمنًا، وإنْ وُلِدَ في أرضِ الشرك نقلَه اللهُ إلى الإيمانِ ببركةِ الإمام"(9), فظاهرُ هذه الروايةِ أنّها تُفاضِلُ بين زمنٍ وآخر, وتنسِبُ الفضلَ لمن ولِدَ في زمنِ ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), والظهورُ حجّةٌ ممكنٌ أنْ يحتجَّ به على ما أدرجناه أعلاه من هدمِ قاعدةِ مدخليةِ الزمان في الهدايةِ والضلال, لـكن رغم ذلك "لا يُقالُ: كيفَ تصحُّ هذه الروايةُ والحالُ أنَّنا نجِدُ الكثيرَ من الناسِ من يولَدُ في ليالي ولادةِ المعصومين ولكنَّه على ضلالٍ ومات على ذلك؟ لأنَّه يُقالُ: إنَّ المقصودَ من الروايةِ هي القضيَّةُ الخارجيةُ لا الحقيقية، بمعنى أنَّ المقصودَ هو تلك الليلةُ التي وُلِدَ فيها المعصومُ وخرجَ إلى الدنيا، وليس تلك الليالي التي تأتي في السنوات التالية ممَّا يُصادِفُ تاريخها نفسَ تاريخِ ولادة المعصوم، فليلةُ ولادةِ الإمامِ المهدي (عليه السلام) هي ليلةُ الخامسِ عشر من شعبان من عام (٢٥٥هـ)، فهذه الليلةُ بالخصوصِ هي مقصودُ الرواية، وهكذا ليالي ولادات بقيَّة المعصومين (عليهم السلام)"(10). ■النقطة الثالثة: هداية النجدين والحسن والقبح العقليان قال (تعالى): {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن}(11), فُسِّرَت مفردةُ النجدين بـ"طريق الخير وطريق الشر بإلهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر"(12). وعلى هذا بُنيَتْ عقيدتُنا في الحكمِ على الأشياءِ بكونِها حسنةً أو قبيحة, فالعقلُ يحكمُ في بعضِ الأمورِ بالحسنِ والقبح, وبالتالي فالعقلُ يحكمُ بالحسنِ على طريقِ الخير, وبالقُبحِ على طريقِ الشر, وهُنا يبرزُ جهادُه. فمن كان في ضلالةٍ فإنْ حكّمَ عقلَه وتركَ اتباعَ طريقِ الخيرِ فهو هالكٌ، ومن كانَ على هدى فإنْ حكّمَ عقلَه وثبتَ على طريقِ الخيرِ فهو ناجٍ. وعلى فرضِ التسليمِ بمدخليةِ المكانِ والزمانِ على هدايةِ وضلالِ الإنسان، فيبقى أمرُ التحكيمِ العقلي مفعلًا؛ فمنْ كانَ يعيشُ في مكانٍ أو زمانٍ هدى ولم يحكّمْ عقلَه بتركِ كُلِّ أمرٍ قبيحٍ فلا مكانَه وزمانَه نفعاه, ولا هو انتفعَ من عقلِه وزكّاه. وكذلكَ من كانَ يعيشُ في مكانِ أو زمانِ ضلالٍ وحكّمَ عقلَه باتباعِ كُلِّ أمرٍ حسنٍ فلا مكانَه وزمانَه أثّرا في حُكمِ عقلِه. نعم, إنّ فضلَ المجاهدةِ يتفاوتُ عندَ من عاشَ في مكانِ وزمانِ الضلالِ عمّن عاشَ في مكانِ وزمانِ الهدى. فمن يعيشُ في بيئةٍ تُحلّلُ شربَ الخمرِ مثلًا، وما إنْ يذهبُ إلى المحال حتى يجدُ أمام عينِه الخمرَ بأنواعِه وبدرجاتِ إسكارٍ مختلفة, فتهمَّ نفسُه للمعصية, ومع ذلك يُجاهِدُ في تركِ شربِه، يختلفُ جهاد نفسهِ عمّن يعيشُ في بيئةٍ لا تعرفُ ما هو الخمر. نأخذُ مثالًا آخر: الفقيرُ المُتعفف الذي يعيشُ حالةَ الفقرِ التي تكادُ أنْ تسلخَ المؤمن عن صبرِه, وتسنح له فُرصةُ سرقةِ شيءٍ إلّا أنّه يتورّعُ ويتعففُ عن تبديلِ حالِه من فقرٍ إلى غنى بهذه الطريقة, فإنَّ درجة جهاده هذه لا تُساوي درجة جهاد الغني الذي سنحت له نفس الفرصة, وأعرض عنها. فعندَ الفقيرِ الجهادُ أشدُّ بلا شك, ومن ثم الثواب أعظم, ولا مانعَ من سعةِ كرمِ الله (تعالى). والخلاصة: للعقلِ دورٌ في هدايةِ وضلالةِ الإنسان. ■النقطة الرابعة: نظريةُ تعويضِ الضلال. من لطفِ اللهِ (تعالى) وكرمِه أنّه لا يُكلِّفُ نفسًا إلّا وسعها, ومن ثم فمن عاشَ في مكانِ وزمانِ ضلال, وجاهدَ نفسَه وارتقى بها وأصبح على هدى, فهو مُستضعفٌ. وعليه، هنالك بعضُ البدائل أو التعويضات التي منحَها اللهُ (تعالى) تكرّمًا وتحننًا منه على هؤلاء, منها: 1- سقوطُ بعضِ التكاليف عمّن فقدَ بعضَ تلك الإمكانات, قال (تعالى): {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَحِيم}(التوبة: 91). وقال (تعالى): {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 17). 2- التعويضُ بالأجرِ العظيم, ذلك الأجرُ الذي يتمنّى معه المُبتلى في الدنيا أنْ لو كانَ قد قُرِّضَ بالمقاريض ونُشِّر بالمناشير ابتلاءً!. روي عن أبي جعفرٍ(عليه السلام), قال: "إنّ الله (تبارك وتعالى) إذا أحبَّ عبدًا غتَّه بالبلاء غتًّا(13), وثجّه بالبلاء ثجًا(14), فإذا دعاه قالَ: لبيكَ عبدي, لئن عجَّلتُ لكَ ما سألتَ إنّي على ذلك لقادر, ولئن ادَّخرتُ لك فما ادَّخرتُ لك فهو خيرٌ لك"(15)"(16). ■النقطة الخامسة: الاحتكامُ يومَ القيامة مع القرين. لو لم يكنْ للعقلِ دخالةٌ في هدايةِ وضلالةِ الإنسان لما أشار القرآن الكريم إلى الاحتكامِ بين الإنسان وقرينه, قال (تعالى): {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد* وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ* أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيب* الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ* قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيد* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}(17). فالقرينُ يشكو إلى الله (تعالى) أنّ الإنسانَ هو من اختارَ طريقَ الضلال, وهذا دليلٌ على أنّ الضلالَ ليس جبرًا من الله (تعالى) حتى يُنسَب إليه الظلم, حاشاه (سبحانه). بل وفي الآيةِ تصريحٌ بنفي الظلمِ عنه (سبحانه) لمخلوقاته. ___________________ (1) الأعراف: 29. (2) نوح: 42- 43. (3) التحريم: 10. (4) التحريم: 11. (6) المسد: 1-3. (7) انظر: جرائم جعـفر الكذّاب: للسيد محمد القبنجي, صحيفة صدى المهدي, العدد 49. (8) الاحتجاج: للشيخ الطبرسي, ص122. (9) بحار الأنوار: للشيخ محمد باقر المجلسي, ج25, ص,36, ح1, عن أمالي الطوسي: 412/ ح 925/73. (10) شذرات مهدوية: للشيخ حسين الأسدي, الشذرة الثامنة, خاصّية ليلة مولد الإمام المهدي (عليه السلام), ص96. (11) البلد: 10. (12) تفسير الميزان: للسيد الطباطبائي, ج20, ص292. (13) غتّه أي غمسه, والباء بمعنى (في). (من المصدر). (14) الثج/: سيل دماء الهدى والأضاحي. و ثجَّ الماء: سال, و ثجَّه: أساله. (من المصدر). (15) الكافي للكليني: 2: 253/ باب شدة ابتلاء المؤمن/ ح7. (16) الهدى والضلال في القرآن الكريم: للشيخ حسين الأسدي, ف1, ص45-46. (17) ق: 20-29.

العقائد
منذ 3 سنوات
372

نفحاتٌ ملكوتيةٌ من الخطابِ الزينبي (٧) "أ فعجِبتم أنْ تمطُرَ السماءِ دمًا؟!"

بقلم: علوية الحسيني نفحةٌ أخرى تتجلّى في خطابِ السيّدة زينب (عليها السلام)، صدحتْ بها في الكوفة، بعدَ عدّةِ استفهاماتٍ سابقةٍ على هذا السياق. ولم تخلُ هذه النفحةُ من ثلاثِ نواحي، وكالعادة، سيتمحورُ الكلامُ فيها تباعًا، عقائديًا، وأخلاقيًا، وبلاغيًا. ■الناحية الأولى: الناحية العقائدية. استبطنَ المقطعُ الخطابي هذا اعتقادًا راسخًا بقدرةِ اللهِ (تعالى) الواسعة، وحيثُ إنّ مُتعلّقها -إمطارُ السماءِ دمًا بدلَ الماء- ليسَ مألوفًا للذهن، فيعجبُ منه البعضُ مُستنكرًا أو مُشكِّكًا بقدرةِ اللهِ (تعالى)، أو بعظمةِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) صاحب المصاب. يُذكَرُ أنّ هذا الحدثَ الكوني -إمطار السماءِ دمًا- ذُكِرَ في كُتُبِ الفريقين، ولا ينكرُه إلاّ معاندٌ، "لمّا قُتِلَ الحُسينُ بن علي مُطِرنا مطرًا كالدمِ على البيوتِ والجدر"(١). وبالتالي، كانَ مقصدُ السيّدةِ زينب (عليها السلام) أنْ تُعطيَ درسًا عقائديًّا -لمن سمعَ خطابَها- في صفةٍ ذاتيةٍ من صفاتِ اللهِ (تعالى)، وهي قدرتُه الواسعة، التي أشارَ إليها (سبحانه) في آياتٍ عديدة، منها قوله (تعالى): {وَكَانَ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}(٢). فكان ظاهرُ خطابِها يُفيدُ تعريفَ القومِ بعظمةِ قدرةِ الله (تعالى) على كُلِّ شيء؛ لأنّ كُلَّ الأشياءِ مخلوقةٌ له (تعالى)، فتتعلقُ قدرتُه بها، فالسماءُ ومطرُها مخلوقةٌ له (تعالى)، ولا مانعَ يمنعُ من تعلُّقِ قدرتِه بها، وكذا لا مانعَ من وقوعِ قدرتِه المُتساوية لجميعِ المقدورات، "إنْ شاءَ فعلَ، وإنْ شاءَ لم يفعل"(٣). إذًا حيثُ إنَّ القدرةَ الواسعةَ كمالٌ، فاللهُ (تعالى) مُتصفٌ بها، وبما أنّه (سبحانه) غيرُ متناهٍ، فقدرتُه أيضًا غيرُ متناهية، فهي هو، لا تنفكُّ عنه، ومن يُشكِّكُ بسعتِها، يُشكِّكُ باللهِ (تعالى)؛ لذاتيتها، ومن يستخفّ بها وبالغرضِ المُترتبِ على تحقُّقِها، فهو كافرٌ لا محالة. ■الناحية الثانية: الناحية الأخلاقية. تجلّتْ أخلاقُ السيّدةِ زينب (عليها السلام) حتى في خِطابِها مع أعدائها، ولهذا نجدُها استخدمت هنا صيغة الاستفهام، وكأنها تستنطقُ فطرتَهم التي خلقَهم اللهُ (تعالى) عليها {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم}(٤). تلك الفطرةُ غيرُ الملوثةِ بالذنوبِ التي خلقَنَا اللهُ (تعالى) عليها، إلاّ أنّها قد تُلوَّثُ بالذنوبِ حتى يرينَ على قلوب البعض منها. فالسيّدةُ (عليها السلام) أرادت استنهاض تلك الفطرةِ السليمة؛ لعلّ القومَ يتوبون؛ فكانَ خطابُها وجدانيًا، مُثيرًا لعواطفهم؛ بإشارتِها إلى بكاءِ السماءِ بسبب الجُرمِ الذي اقترفوه. لكن يبدو أنّ القومَ (عليهم من اللهِ ما يستحقون) قد استهزأوا حتى من بكاءِ السماءِ دمًا، فهم فعلاً ممن رانَ على قلوبهم، باستخفافِهم بالإمام الحسين (عليه السلام)، الدال على انحرافهم الأخلاقي، وإلاّ ماذا يُرتجى ممن كانوا سفهاء ثملين؟! ولعلّ السيّدةَ زينب (عليها السلام) اعتبرتهم مصداقًا لمن استخفَّ بالمؤمنِ ذي الشيبة، الذي وجدت له قاعدة كلّية وضعها جدّها وأبوها (عليهما السلام), وتناقلتها ذرية أخيها (عليهم السلام) من بعدهم، والقاعدة هي الحديث الذي روي أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) رواه: "...وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِمُؤْمِنٍ ذِي شَيْبَةٍ أَرْسَلَ الله إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه"(٥). وحتمًا أنّ السيّدةَ اضطرت أنْ تتخذَ هذا الأسلوب ردًّا عليهم بالمثل؛ لأنّهم سخروا من قدرةِ اللهِ (تعالى) ومن مقامِ وليّهِ الإمام الحسين (عليه السلام)، فسخِرَتْ منهم، حتى ظنّ بعضُهم أنّها (عليها السلام) تسألهم باستفهامٍ حقيقيٍّ، والحالُ أنّها تتنزّهُ عن طلبِ جوابِهم؛ لأنّ الحنقَ والغيظَ باتَ واضحًا عليهم. وليس الردُّ عليهم بالسخريةِ معيبًا؛ طالما كانوا قومًا عضبَ اللهِ (تعالى) عليهم، وهم الذين بدأوا بالسخرية؛ فسبقَ وأنِ استخدمَ أحدُ أنبياء الله (تعالى) هذا الردَّ على أعداءِ ربّه، قال (تعالى) على لسانِ نبيّه نوح (عليه السلام) حينما سَخِر منه القومُ حالَ صنعِه السفينة {فقالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون}(٦). فنبيُّ اللهِ سخِرَ منهم كما سخِرَ أعداؤه منه، لأنّهم هم من ابتدأ السخرية. "والسخريةُ وإنْ كانتْ قبيحةً، ومن الجهلِ إذا كانت ابتدائيةً [وهي الصادرةُ من الأعداء]، لكنّها جائزةٌ إذا كانت مُجازاةً لمن بدأ بها، وبعنوانِ المقابلة، وخاصةً إذا كانت تترتبُ عليها فائدةً عقلائيةً كإنفاذِ العزيمةِ وإتمام الحجة"(٧). بل وحتى الله (تعالى) يسخرُ من الذين يسخرون من عبادِه الصالحين، فتوعّدهم في كتابِه الكريم قائلًا: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}(٨). وبهذا تكونُ السيّدةُ زينب (عليها السلام) قد تخلّقتْ بأخلاقِ القرآنِ الكريم، حتى في تعاملها مع الأعداء، فعدّ ما تخلّقَت به حسنًا. ■الناحية الثالثة: الناحية البلاغية. أسلوبُ الاستفهامِ باتَ واضحًا في هذا المقطع الخطابي، لكنّه ليس استفهامًا حقيقيًا؛ لأنّ السيّدةَ زينب (عليها السلام) لم تقصدْ أنْ تسألَهم عن إيمانِهم وتصديقِهم بإمطارِ السماءِ دمًا؛ حيثُ تبيّنَ لنا في الناحيةِ الأخلاقية أعلاه أنّ القومَ أنكروا إمطارَ السماءِ دمًا استخفافًا بمقامِ الإمام الحسين (عليه السلام)، وبالتالي يخرجُ الاستفهامُ عن معناه الحقيقي، "وأصبحَ غرضُه التهكُّم"(٩). وهذا الاستخفافُ يُسمّى التهكُّم، وهو أسلوبٌ بلاغي، "ويُقالُ له السخريةُ والاستهزاء، وهو إظهارُ عدمِ المبالاةِ بالمُستهزئ أو المُتهكَّم به ولو كانَ عظيمًا"(١٠). ولا عجبَ من بلاغةِ السيّدةِ (عليها السلام) وهي بنتُ سيّدِ وسيّدةِ البُلَغاء (عليهما السلام)، ولهذا كان ردُّ القومِ الطُغاة عليها بالتهريج والتهديد. __________________ (١) مقتل الحسين (عليه السلام): للخوارزمي، ج٢، ص٨٩، تاريخ دمشق: لابن عساكر، ج٤، ص٣٣٩. (٢) الفتح: ٢١. (٣) ظ: رسائل العقائد الجعفرية: للشيخ الطوسي، م٥. (٤) الروم: ٣٠. (٥) الكافي: للشيخ الكليني، ج٢، ح٥. (٦) هود: ٣٨. (٧) الميزان في تفسير القرآن: للسيد الطباطبائي، ج١٠. (٨) التوبة: ٧٩. (٩) التحف الباهرة في بلاغة المخدرة الطاهرة: للشيخ حسين البحراني، ص٦٣. (١٠) علم المعاني: لعبد العزيز عتيق، ص١٠٤. وسلامٌ على من تضافرتْ عليها المصائبُ والكروب، وذاقتْ من النوائبِ ما تذوبُ منها القلوب.

البيان والبلاغة في كلمات أهل البيت عليهم السلام
منذ 3 سنوات
545