بقلم: علوية الحسيني تعثرك، تخبطك، فوضويتك، تحتاج إلى معين.. قد تطرق بابًا فيُغلق في وجهك.. وقد تقصد شخصًا فيتقاعس عن خدمتك.. وقد تلمح بحاجةٍ فيستجهل مرادك.. فتحبو، ثم تنهض، ثم تتعثر، فتحبو مرةً اخرى، ثم تنهض، ثم تتعثر، وهكذا.. والحل أن تصمد إليه، وتعرج إلى عالم الصمدية، وتترك العوالم المادية.. اقصده، إنّه هو الصمد الذي لم يخلقك لتحتاج لغيره.. الصمد: هو المقصود بالحوائج، إنّه الله تقدّست أسماؤه.. عملية (الاستصماد) هذه وإن كانت بالفطرة إلاّ أنّ لها مناشئ نقلية وصلت لنا من دستور الله تعالى إلى البشرية، القرآن الكريم معجزة خير البشرية: محمد وآله خير البرية (عليهم صلوات الله جميعًا). فقصد الله تعالى، والتوكل، والإلحاح عليه مبدأ كل نجاح في أي مشروع إن شاء تعالى، يقول الله تعالى في دستوره: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (١). وهناك ركن قرين للتوكل، وهو الدعاء، فهاتان الخطوتان تجلي للصمود نحو الله تعالى- قصده في طلب الحوائج-. رويَ عن النَّبِيّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه): "أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى سِلاحٍ يُنْجِيكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ وَيُدِرُّ أَرْزَاقَكُمْ؟ قَالُوا بَلَى، قَال:َ تَدْعُونَ رَبَّكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّ سِلاحَ الْمُؤْمِنِ الدُّعَاء"(٢). كما ولابد من ركن آخر ليكتمل مثلث العروج إلى عالم الصمدية وهو الإلحاح بالدعاء.. عن الْهَجَرِيِّ قَال:َ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلام) يَقُولُ: "وَالله لا يُلِحُّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ إِلا قَضَاهَا لَه"(٣). فتوكل، اصمد، تنجح وتفلح. توكل، اصمد، بالسير والبر تفرح. توكل، اصمد، نورٌ في الظلمات تلمح. _______________ (١) هود: ١٢٣. (٢) الكافي، ج٢، باب الدعاء سلاح المؤمن، ح٣. (٣) المصدر نفسه، باب الإلحاح بالدعاء والتلبث، ح٣. اللّهم أدم صمودنا إليك.
اخرىبقلم: علوية الحسيني تمهيــد: إنّ الله تعالى خلقنا لأجل الوصول إلى غاية وهي الكمال، وإنّ مِن الكمال هو كشف المجهولات، وقد اختلفت النظريات في ذلك، فمنها من قالت بعدم إمكان معرفة شيء ما (وهي النظرية اللا أدرية)، واخرى قالت بأنّ المعرفة تتحقق إذا كانت لها فائدة مجدية في سلوكنا الحياتي (وهي النظرية البراغمية)، وأخرى قالت بأن المعرفة تتحقق عن طريق الحواس الخمس فقط (وهي النظرية الحسية)، واخرى قالت بتحققها عن طريق التجربة فقط (وهي النظرية التجريبية)، واخرى قالت بتحصيلها عن طريق العقل فقط (وهي النظرية العقلية)، وأخرى قالت بتحققها عن طريق الحس والعقل والوحي (وهي النظرية الإسلامية) وحيث أنّ النظريتين الأوليين خارجتان عن الجواب عن الشبهة محل الكلام، فلا نناقشهما، ونسلط الضوء على النظريات الأربعة الأخيرة ضمن المطالب التالية: ■المطلب الأول: تحصيل المعرفة عن طريق الـحواس فقط *الفرع الأول: بيان النظرية الحسية الحس: "وهو المتمثّل بالحواسّ الخمس المعروفة (الباصرة، السامعة، الذائقة، الشامّة، اللامسة)، والحسّ الباطنيّ المتمثّل بـ (الحسّ المشترك، الخيال، المتصرّفة، الواهمة أو المتذكّرة) كما هو مذكورٌ في علم النفس الفلسفي"(1). ومقتضى هذه النظرية: "أنّ الحواس هي الطريق الوحيد الذي تصل لنا المعارف عن العالم الخارجي، ولهذا قالوا: من فقد حسًا فقد علماً -معرفةً-. وما التصورات التي نملكها إلاّ هي نتيجة عمليتين: الأُولى هي احساس الحواس. والثانية تحويل الإحساسات إلى صور ذهنية. فيقوم الذهن بالتركيب بين الإحساسات والصور الذهنية فتنتج المعرفة"(2) فالمعرفة= احساس وصور ذهنية. *الفرع الثاني: نــقد النظرية الحسية لا ينكر أحدٌ منا دور الحواس في سلوكنا الحياتي عمومًا، وفي تحصيلنا للمعرفة خصوصًا، إذ بحاسة البصر نحصل على صورة الشيء وإرسالها بإيعاز إلى الذهن، وبحاسة السمع يحصل على معرفة تحصيل العلم السمعي، وبحاسة الشم يحصل على معرفة الروائح المفيدة من المضرة، وبحاسة الذوق يحصل على معرفة الأطعمة الحلوة المذاق من المرّة منها، وبحاسة اللمس يحصل على معرفة حرارة الأشياء وبرودتها، ومدى نعومتها وخشونتها، ودقة سمكها ورقتها. لكن فاقد الحواس فانّ باب تحصيل المعرفة ليس مغلقًا عنده، فـلو كان طريق المعرفة منحصراً بالحواس لــكان فاقدها جاهلاً، والتالي باطل، فالمقدم مثله في البطلان، وسيأتي بيان وجه البطلان في النظرية الإسلامية. وهذا يعني وجود طريق آخر للمعرفة غير الحواس الخمس. ■المطلب الثاني: تحصيل المعرفة عن طريق التجربة فقط *الفرع الأول: بيان النظرية التجريبية التجربة: "هي القضية التي يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منّا في احساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب أن يرسخ في النفس حكم لاشك فيه"(4). ومقتضى هذه النظرية: "أنّ التجربة هي الطريق الوحيد لتحصيل المعرفة، وسيتدلون بالطفل الذي يمد يده إلى النار فيجدها حارة فيحكم عليها بأنها محرقة ويكف عن الدنو منها ثانيةً، فبتجربته هذه استحصل معرفة كون النار حارة محرقة"(5). *الفرع الثاني: نـقد النظرية التجريبية أيضاً لا ننكر ما للتجارب من أهمية في الجانب العلمي، إذ كم من تجربة فتحت لنا آفاقًا واسعةً في بعض العلوم. لكن هناك الكثير من التجارب لم يكتب لها النجاح فأتت لنا بالجهل بكليات أو جزئيات الشيء محل التجربة، وما فشلها إلاّ دليل على عدم حصر المعرفة بها. فـلو كانت التجربة الطريق الوحيد للمعرفة لانغلق باب المعرفة وراء كل تجربة فاشلة ولبقي الشيء محل التجربة مجهولاً. والتالي باطل، فالمقدم مثله في البطلان، وسيأتي بيان وجه البطلان في النظرية الإسلامية. ثم أنّ (جوستاس) بنفسه يقول في كتابه مدخل إلى الفلسفة: "إنّ العلم التجريبي يعتبر جميع استنتاجاته وقتية، مهما كان التثبت منها حسنًا" (6) فوقتية نفع التجربة ينافي عموميتها، وهذا يعني وجود طريق آخر للمعرفة غير التجربة. ■المطلب الثالث: تحصيل المعرفة عن طريق الـعقل فقط *الفرع الأول: بيان النظرية العقلية العقل: "هو قوة بها يوجد التمييز بين الأمور القبيحة والحسنة"(7). ومقتضى هذه النظرية: " أنّ العقل هو الطريق الوحيد لتحصيل المعرفة البديهية والنظرية، فالمعرفة البديهية مثل (اجتماع النقيض محال، الواحد نصف الاثنين، الكل أكبر من الجزء،...إلخ) والمعرفة النظرية مثل ( تمدد الجسم بالحرارة وتقلصه بالبرودة، حجية ظواهر الكلام، ...إلخ)، فالعقل هو مصدر المعارف هذه. " لكن هذه النظرية لا تقول باستقلالية العقل في تحصيل المعرفة، بل للحواس والتجربة دخالة في ذلك، إذ لولا الحواس لم يدرك العقل شيئًا، ولو كثرة التجارب لم يخرج العقل بقواعد كلية"(8). *الفرع الثاني: نقد النظرية العقلية لا ينكر عاقل أنّ العقل محدود لا يستطيع إدراك جميع الأمور مهما كان صاحبه شديد الذكاء، بـل نجده معتمداً على الحواس لتعينه في عملية الإدراك، وأشار إلى ذلك الله تعالى بقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}(9). وهذا ما يكشف عن عدم صحة من أخذ بالنظرة الأُحادية لاكتشاف المجهولات وحصرها بالعقل. "ومع تلك الأهمية التي يوليها القرآن للعقل، ومع تلك الخصائص التي يتميز بها؛ فإنّ ذلك لا يعني إطلاقية الأحكام الناتجة عنه... ولأن العقل محصور بين الزمان والمكان؛ فإنّ السؤال الذي يطرح دائمًا متى؟ وأين؟. في حين أنّ الحقائق الكبرى لازمان لها ولا مكان. بيد أنّ العقل يعجز عن تصور ذلك، فتراه يعجز عن التسليم بواحد من احتمالين: هل الكون متناهي الحدود أو غير متناهي الحدود؟ ... وهذا التردد بين الاحتمالين وعدم استطاعة العقل الاقتناع بواحد منهما دليل على حـــدوده"(10). ■المطلب الرابع: تحصيل المعرفة عن طريق الحواس والعقل والوحي معًا *الفرع الأول: بيان النظرية الإسلامية الشمولية إنّ الإسلام وافق ما يقول به الفلاسفة في نظرياتهم السابقة في تحصيل المعرفة، لكن لا على نحو الموجبة الكلية؛ حيث لم يحصر طريق اكتشاف المجهولات بأحد الطريقين (العقل، التجربة)، ولم يقل بالأخذ بهما فقط جمعًا، وإنما أخذ بالنظرة الشمولية العامة للطريقين، وأضاف لهما طريقاً آخرًا يسمى (بالوحي) الذي اكتشف مجهولات عجز الحس والتجربة والعقل عن اكتشافها وادراكها، ولكلٍ دليل نقلي يؤكد ذلك. الوحي: "نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}"(11). فبالوحي تكتشف المجهولات، وتكتمل المعرفة، والوحي من مختصات الأنبياء، فتتجلى الضرورة لوجود النبي والأخذ بتعاليمه المستقاة من الوحي. إذاً ممكن بيان ضرورة الأخذ بتعاليم النبي -علميًا- بالنقاط التالية: 1/المعرفة عن طريق الوحي أوسع من معارفنا؛ لأن منهلها من الله العليم، فيقول تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء}(12). 2/إنّ المعرفة المتحصلة عن طريق الوحي تفوق نوريتها المعرفة التي تحصلها حواسنا وتجاربنا وعقولنا، فيقول تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}(13). 3/المعرفة المتحصلة عن طريق الوحي تكون فيصلاً للاختلاف في نتائج المعرفة تجريبيًا وعقليًا، فيقول تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْــتَلَفُوا فِيهِ ۙ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون}(14). *الفرع الثاني: مؤيدات النظرية الإسلامية الشمولية أولاً: الإسلام يؤمن بتحقيق المعرفة حسيًا 1/قرآنيًا: قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}(15). فجعل الله تعالى حاستا السمع والبصر طريقًا لتحصيل العلم، وأشار إلى وجوب شكره على ذلك، حيث عدّها نعمة عظيمة. 2/روائيًا: روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "...والحواس أئمّة الأعضاء"(16)، فالحواس منبع إرسال الإشارات للأعضاء بالتوجه نحو أمر معين، فالرواية جعلت الحواس أئـمة؛ لما لها من السيادة والتأثير على الأعضاء. •ثانياً: الإسلام يؤمن بتحقيق المعرفة تجريبيًا 1/قرآنيًا: قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا}(17) فها هو ذي القرنين ذكر الله تعالى قصته في القرآن الكريم عـبرةً لنا بنجاح تجربته العلمية في بناءِ سدٍ ضخم يمنعهم عن قوم يأجوج ومأجوج. 2/روائيًا: عن محمد بن إسحاق قال: إن عبد الله الديصاني سأل هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ فقال: بلى، قال أقادر هو؟ قال: نعم قادر قاهر قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام: النظرة. فقال له: قد أنظرتك حولا، ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له فقال له: يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: عماذا سألك؟ فقال: قال لي: كيت وكيت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام كم حواسك؟ قال خمس قال: أيها أصغر؟ قال الناظر قال: وكم قدر الناظر قال: مثل العدسة أو أقل منها فقال له: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى، فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا و براري وجبالا وأنهارا فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه وقال: حسبي يا ابن رسول الله وانصرف إلى منزله"(18)، فالإمام الصادق (عليه السلام) هنا حثّ على طريقة التجربة حيث جرّب الديصاني نظريًا باستعماله لكرةٍ صغيرة –بؤبؤ العين- كيف أنّها حوت دائرةً كبيرة –الكون-، فكانت تجربته حجّة عليه فولّى مدبرًا. ثالثاً: الإسلام يؤمن بتحقيق المعرفة عقليًا 1/قرآنيًا: يقول تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.) [الأنبياء 22] حيث دلت الآية على أن افتراض واجب وجود ثانٍ يؤدي إلى فساد الكون، وهو دليل فلسفي على ضرورة التوحيد في الذات الواجبة، ذُكرت تفاصيله في محلها. ٢-روائيًا: الروايات الشريفة جاءت مصرحة أيضاً بأهمية العقل ومنزلة شرفيته، فجعلته مِلاك الثواب والعقاب، حيث روي عن ابي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: " لَمَّا خَلَقَ الله الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ وَلا أَكْمَلْتُكَ إِلا فِيمَنْ أُحِبُّ أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيب"(21). رابعًا: الإسلام يؤمن بتحقيق المعرفة وحيانيًا 1/قرآنيًا: قال تعالى آمرًا نبيّه الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) أن يقول: {قُلْ أُوحــِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبا}(22) والآيات في هذا المجال كثيرة. 2/روائيًا: وهذا ما لا يحتاج إلى كثير بيان، فإن كثيرًا التعبديات التي وصلتنا لا نعرف الملاك فيها، ولا العلة في تشريعها، وإنما نأخذها من باب أنها وحي على النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولا يسعنا إلا الأخذ بها. ■الــخلاصة: جاء الإسلام مشرقًا بنظريته التي حلّت العديد من المشكلات العلمية بإيمانه بالحواس والتجارب والعقل والوحي جميعًا. إذ كم من قضايا مجهولة عجزت الحواس عن إدراكها، والعقول عن الإحاطة بها، والتجارب عن الوصول إلى جوهرها، إلاّ أنّ الوحي أخبرنا بجزء ماهيتها؛ باعتبار أنّ الوحي والمنزَل عليه لا يعلم الغيب كلّه، مثل البرزخ، الذي حار الجميع في معرفة ماذا يحصل للإنسان ما بعد الموت. وغيره من الامثلة التي لا تخفى على كل اولي الألباب أثناء مقارنتهم بين النظريات العوراء الشوهاء، والنظرية الشاملة الإسلامية. ________________________ (1) ظ: النفس من كتاب الشفاء لابن سينا، ص227. (2) عقيدتنا في الخالق والنبوة والآخرة: للشيخ عبد الله نعمة، 86. (3) ظ: نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية: د. أحمد حسين الدغشي، ص231. (4) المنطق: للشيخ المظفر، ج2، ص284. (5) عقيدتنا في الخالق والنبوة والآخرة: للشيخ عبد الله نعمة، ص93-94. (6) ظ: الإسلام بنظرة عصرية. (7) تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات: لابن سينا، ص150. (8) عقيدتنا في الخالق والنبوة والآخرة، ص93. ﴿9) النحل: 78. (10) ضوابط المعرفة: للميداني، ص130. (11) تفسير الميزان: للعلامة الطباطبائي، ج2، ص147. (12) البقرة: 255. (13) ابراهيم:1. (14) النحل: 64. (15) النحل 78. (16) مستدرك الوسائل: للميرزا النوري، ج 11، ص 206 ،ح12751. (17) الكهف: 95-97. (18) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، ب23، ح4. (19) الاسراء: ٧٠. (20) الميزان، سورة الاسراء (21) الكافي: للشيخ الكليني، ج،1 باب العقل والجهل، ح1. (22) الجن: 1. (23) وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج25، ب15، ح1. والحمد لله حمدًا سطع فارتـفع، وأيـنع ولمع، وصل اللّهمّ على محمدٍ وآله خير من أطاع.
اخرىبقلم: علوية الحسيني إنّ الاعتقاد بأنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حيٌّ أمرٌ مفروغ منه في عقيدتنا والدليل عليه جزمي! وبالتالي يثبت له جميع ما يثبت للأحياء -وإن كان غائبًا عن ان نعرفه، لحكمةٍ إلهية- فله ما لنا من حقوق, وعليه ما علينا من التزامات, مع فارقٍ جوهري في الأفضلية له, كونه أتقى وأنقى وأشرف وأكمل من سائر العباد اليوم؛ فعقيدتا في الأئمة "أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته"(1). وعليه ينعقد الكلام حول هذا الموضوع ضمن النقاط التالية: ■النقطة الأولى: الحجُ مفروضٌ على جميع العباد ومنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف): من الالتزامات المفروضة على العباد هو الحج, ذلك الفرض الثابت في الكتاب والسنة القطعية, ولا يخفى أنّه أحد فروع الدّين, فأوجبه الله تعالى على عباده جميعًا حال توفر شرائطه؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}(2). فظهور الآية الكريمة واضح في وجوب الحج على المستطيع, ولا قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب, بل نجد أنّه تعالى ذيّل الآية نفسها بأن التدارك للحج كافر. وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) نفرٌ من الناس – وهذه عقيدتنا به كما أسلفنا، واختلفنا عن الغلاة- فيجب عليه الحج مع توفر الشرائط. كما وأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) روي عنه تأكيده على هذه الفريضة المقدسة, ناعتًا تاركها باليهودي أو النصراني؛ روي "عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانيا" (3). إذًا فلا يمكننا القول بأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يكفر بالحج, ولم يذهب إليه -مع فرض تحقق الاستطاعة-, أو أنّه طيلة حياته لم يحج بيت الله الحرام, بزعم كونه غائبًا؛ إذ هذا مدفوع بأمور عديدة, منها: تفضيل الله تعالى له "كإمام منصًّب إلهيًا, مفترض الطاعة"(4)، ومنها: إنّ عقيدتنا بالأئمة (عليهم السلام) عمومًا أنّهم "في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاَخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به"(5), فإذا كانوا لا يدانيهم بشر في طاعة الله تعالى ومكارم الأخلاق, فكيف يمكن فرض احتمال كفر أحدهم بفرعٍ من فروع الدّين؟! ■النقطة الثانية: كيفية الجمع بين حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) وغًيبته: إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروضٌ عليه الحج -مع توفر شروط الحج- كسائر التكاليف الشرعية, فيجب عليه تأديته, وهذا كافٍ للرد على من آمن بالغَيبة على أنّها انزواء الإمام في بقعة من بقاع الأرض. بل، ولو سلّمنا جدلاً بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) منزوٍ في أرض مكة المكرمة, فمجرّد أدائه لمناسك الحج ينافي المعنى اللغوي للانزواء, سواء أكان الانزواء بمعنى الاعتزال عن الناس, أو كان بمعنى اللبث في زاوية مكانٍ معيّن. *فأمّا الأول فمدفوع بما رواه الشيخ الصدوق, والشيخ الطوسي, عن محمد بن عثمان العمري، أنّه قال: "واللهِ إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(6), ففي الحديث دلالة على اختلاط الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) بالناس, ودحض شبهة اعتزاله. *وأما الثاني فمدفوع بما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "في القائم سُنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فأمّا سنّة موسى فخائف يترقّب، وأمّا سنّة يوسف فإن اخوته كانوا يُبايعونه ويُخاطبونه ولا يعرفونه..."(7), ففي الحديث دلالة عرفية تفيد أنّ الخائف المترقب متنقل بين مكانٍ وآخر؛ خوفًا من عثور أعدائه عليه, والتنقل غير اللبث في مكانٍ معيّن, فدحضت شبهة الانزواء. ومن هذا نستنتج وجوب تنقله (عجّل الله فرجه الشريف) في بقاع الأرض, وعلى فرض تنقله فإنّه يؤدي ما عليه من واجبات إلهية, ومنها فريضة الحج. يذكر إنّ حضور الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) في موسم الحج في زمن غيبته هو أحد انجازاته قبل ظهوره المعلن, وحضوره ذلك يكون طبيعيًّا, لا يحتاج إلى اعجازٍ, نعم لا يضر اثبات حضوره الحج عدم معرفته, بعد أن أثبتنا وجوب تنقله في بقاع الأرض "روى الصدوق, عن عبيد بن زرارة, قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه"(8). ■النقطة الثالثة: شخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) تحت ضوء شرائط الحج: للحج شرائط لابد من توفرها(9) حتى يكون منجّزًا في ذمة المكلّف, فعلى فرض توفرها في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ووجوب الحج عليه نسردها مع بعض التفاصيل: 1- البلوغ إنّ الكلام في بلوغ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغٌ منه, إذ يذكر لنا التاريخ أنّه عجل الله تعالى فرجه ولد سنة 255 للهجرة. 2/ العقل كما إنّ الكلام في سلامة عقل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) من الجنون بكافة أقسامه نافلة من القول؛ فعقيدتنا في الأئمة أن يكونوا متصفين بأكمل الصفات الخلقية والعقلية؛ حتى توجب التفاف الناس حولهم, ومن ثم التمكن من هدايتهم. 3- الحرية وأيضًا الكلام في حرية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغ منه؛ إذ ليس من صفات الأئمة (عليهم السلام) أن يكونوا عبيدًا لغيرهم, ثم يعتقون حتى يصبحوا أحرارا, بل هم أحرار أسياد. 4- الاستطاعة ويعتبر في هذا الشرط أمور، منها: الأول: السعة في الوقت أي أن يسع الوقت للذهاب إلى بيت الله الحرام من مسكن الحاج فيستطيع أن يصل في الوقت المناسب, وهذا شرط من السهل توافره في حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ كيف لا, والأرض تطوى له فيصل إلى أي بقعة من بقاع الأرض متى ما شاء, بإذن الله القادر المختار؛ روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عزوجل به دينه ولو كره المشركون..."(10), فالرواية وإن كان ظاهرها يتكلم عن زمن الظهور, إلاّ أنّه لا يستبعد ثبوت طي الأرض للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في زمن غيبته, وذلك يرجع إلى قدرة الله تعالى الواسعة. إذًا بمجرد طي الأرض له (عجّل الله فرجه الشريف) يصل إلى مكة المكرمة, ويؤدي حجّه, هذا على فرض وجود الإمام في أرضٍ غير أرض مكة, وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "لَيْتَ شِعْري اَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى، بَلْ اَيُّ اَرْض تُقِلُّكَ اَوْ ثَرى؟". وأما على فرض وجوده في أرض مكة فمن بابٍ أولى أنّه سيكون له سعة من الوقت للوصول إلى الحرم المكي وأداء مناسك حجّه. وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "اَ بِرَضْوى اَوْ غَيْرِها اَمْ ذي طُوى؟" رضوى: "هو جبل على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة" (11). "ميامنه طريق مكة ومياسره طريق البريراء لمن كان مصعدا الى مكة"(12). أمّا ذو طوى: "فهو موضع بمكة المكرمة داخل الحرم هو من مكة على نحو من فرسخ ترى بيوت مكة منه، قال في (المصباح) ويعرف بالزاهر في طريق التنعيم، وفي (القاموس) ذي طوى، موضع قرب مكة"(13). الثاني: صحّة البدن وقوّته أي أنّ الحاج يجب أن لا يكون سقيمًا, هزيلاً, فيمتنع عليه أداء مناسك الحج, وهذا شرط من المفروغ ثبوته في جسد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) " قال أبو عبد الله عليه السلام: القوة القائم عليه السلام والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر"(14). الثالث: تخلية السرب ويقصد بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً، فلا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى الأراضي المقدّسة، وكذا لا يكون خطراً على النفس أو المال أو العرض، وإلاّ لم يجب الحجّ . والإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لا موانع تقف بينه وبين حضوره لأي مكان؛ وفقًا للمشيئة والقدرة الإلهية. الرابع: النفقة، ويعبّر عنها بالزاد والراحلة ويقصد بالزاد: كلّ ما يحتاج إليه في سفره من المأكول والمشروب وغيرهما من ضروريات ذلك السفر، ويراد بالراحلة: الوسيلة النقليّة التي يستعان بها في قطع المسافة، ويعتبر فيهما أن يكونا ممّا يليق بحال المكلّف. فأما زاد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فلم تنص عليه الروايات, إلاّ أننا ممكن أن نثبته من خلال القول بأنّه راجع إلى اعتقادنا في الأئمة (عليهم السلام) بأنّهم بشرٌ مثلنا يجوعون ويعطشون, فيكون من البديهي توفره. وأمّا راحلته فغيب, كلّ ما علينا هو الإيمان بتوفرها مهما كان نوعها. الخامس: الرجوع إلى الكفاية، وهو التمكن بالفعل أو بالقوّة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرجوع إذا خرج إلى الحجّ وصرف ما عنده في نفقته، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدّة والحرج. وهذا الشرط منوط بالعلم الغيبي؛ وإذا تكفّل الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) فليس لدينا سوى الإيمان بمجمل الأمر, دون الخوض في تفاصيله, مع الانتباه إلى أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لا دليل جزميا على انه متزوج حتى يشمله الشرط بحذافيره –من المأمن على مصرف عيال الحاج-. ومع احتمال عمل الإمام وتكسبه للمعيشة يتحقق هذا الشرط؛ استنادًا إلى سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بتكسبهم للمعيشة, وليس عملهم انتقاصًا من مكانتهم؛ إذ فيهم الراعي للأغنام, والحداد, والنجار, وما شابه ذلك من المهن. ■النقطة الرابعة: سؤالٌ وجواب: قد يطرح البعض سؤالاً مفاده: إذا كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) قد حجّ الحج الواجب عند توفر الشرائط, فلماذا يشهد موسم الحج كلّ عام؟ وجوابه: هنالك روايتان تنصان على تواجد الامام سابقا في الكعبة دون التصريح بأنّ وجوده هناك كان للحج الواجب, كما "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سألت محمد بن عثمان العمري، فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَني"(15)، فدعاء الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) عند بيت الله الحرام لا يخلو من احتمال وجوده لأداء الحج الواجب. ورواية اخرى بنفس المفاد إلاّ أنّ المسموع من دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) هو دعاء آخر, وعند ركنٍ محدد, "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سمعتُ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه يقول: رأيتُه صلوات الله عليه متعلّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: اللهم انتقِم لي من أعدائي".(16)، وعلى فرض تعدد مرات رؤيته عند بيت الله الحرام تنبثق احتمالية أدائه (عجّل الله فرجه الشريف) لفريضة الحج الواجب في أحدها. وفي مقام الجواب عن سبب شهوده موسم الحج كلّ عام مع فرض أدئه للحج الواجب في سنة من سنوات غيبته (عجّل الله فرجه الشريف) نحتمل عدّة أقوال: 1- إنّ الحج يجب على المكلف مرّة واحدة, وإذا تكرر أداء المناسك من الحاج في مواسم اخرى فهذا أمرٌ مستحب, فيسمى حجّه مستحبًا, وبما أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أكمل العباد مطلقًا, وأداء المستحب من الكمال, فينبغي للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الرشيف) أن يفعل المستحب, فيحجّ الحج المستحب, ويشهد الموسم كلّ عام. 2- لا ينكر عاقل أنّ الإنسان إذا عاش بين الناس ومنهم ظالمي حقه, ويتمكن من أخذ حقه منهم, إلاّ أنّه يقف مكتوف الأيدي؛ إيمانًا بالمشيئة الإلهية التي لم تشأ بعد بإعلان ظهوره هو أمرٌ صعبٌ للغاية, يحتاج إلى صبرٍ خاص, فوجد الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) صابرًا على الغيبة, فمنحه كرامة الحضور في كلّ موسمٍ من مواسم الحج, التي تخفف على العبد البلايا والرزايا, وتجعل العبد يعيش حالة التسليم المطلق لما جرى عليه وما يجري وما سيجري. 3. على أن من الثابت استحباب تكرار الحج ما استطاع اليه المكلف سبيلا ___________________ (1) عقائد الامامية: للشيخ محمد رضا المظفر, ص85. (2) آل عمران: 97. (3) من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق, ج2, باب تسويف الحج, ح 2935. (4) ظ: حديث السلسلة الذهبية. (5) مصدر سابق, ص85. (6) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ج2, ص440, ح8. الغيبة: للشيخ للطوسي, ص221. (7) المصدر السابق, ج1, ص28. (8) المصدر السابق, ج2, ص440, ح7. (9) مناسك الحج وملحقاتها: للسيد السيستاني, ف1, شرائط وجوب حجة الإسلام. (10) إثبات الهداة: للحر العاملي, ج3, ص570, ب32, ف44, ح686. (11) معجم البلدان: لياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي,ج3, ص51. (12) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام. (13) مجمع البحرين: للشيخ فخرالدين الطريحي, ج3, ص97. (14) تفسير القمّي: لعلي بن إبراهيم القمي, ج 1, ص 336. (15) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ص440, ح9. (16) المصدر نفسه, ح10. اللّهمَّ إني أسألك أن تُريني وليَّ أمرك ظاهراً نافذاً لأمرك مع علمي بأنَّ لك السلطان والقدرة والبرهان والحجَّة والمشيئة والارادة والحول والقوة.
دراسات في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)بقلم: علوية الحسيني 1/الأسباب المؤدية إلى اعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن أخذ هارون العباسي (عليه لعائن الله) على نفسه استئصال وجود كل علوي منذ بداية حكمه، آل به الأمر إلى استئصال وجود سيّد العلويين، الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ليس كرهًا له وحسب؛ بل لما رآه من التفاف الناس حوله، وتناقل علومه ومآثره ومحاسن أخلاقه، فخشي هارون اللا رشيد من ترشيح الناس للإمام إلى منصب الحكم واستبعاده، فقرر اعتقال الإمام (عليه السلام). والذي يثير الأمر استغرابًا، أنّ هارون (عليه لعائن الله) كان قد اعتذر مسبقًا مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يحبس الإمام جعفر (عليه السلام)، حيث ردّد أثناء زيارته لقبر النبي (صلى الله عليه وآله): "بأبي أنت واُمي إني أعتذر اليك من أمر عزمتُ عليه، انّي اُريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه؛ لأني قد خشيت أن يلقي بين اُمتك حرباً يسفك بها دماءهم"(1). 2/ من أوجه المشابهة بين هارون العباسي والشيطان الرجيم لـعمري ما أشبه موقف الطاغية هارون بموقف الشيطان الرجيم؛ حينما أمره الله تعالى والملائكة بالسجود لآدم لكنه عصى تكبر بكلّ جرأة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين}(2). وحينما سأله الله تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}(3)، أجاب: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}(4). فها هو هارون تلميذ من تلامذة ابليس، قد اقتفى منه أثرًا في: أ- أنه عصى أمر الله تعالى بوجوب طاعة الإمام موسى (عليه السلام)؛ إذ إنّه كان مطّلعًا على مكانة وفضيلة الإمام، وكونه منصّبًا بنصٍ من الله تعالى نقلًا عن آبائه عن جدّه النبي (عليهم السلام)، كما عصى إبليس أمر الله تعالى بوجوب السجود التكريمي لآدم. ب- حسد هارون للإمام، والشعور بكونه أفضل منه؛ إذ ينقل لنا التاريخ بعض الشواهد يمثل فيها هارون أنّه صاحب علمٍ، وبينةٍ، كـالإمام موسى (عليه السلام)، كــما شعر إبليس بأفضليته من آدم. 3/ مراحـل اعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أ: قرر هارون أن يسجن الإمام (عليه السلام) عدّة مرّات، فحبسه في سجن عيسى وطلب من السجّان اغتيال الإمام، لكنه رفض؛ لما رآه من الإمام من عبادة وزهد وأخلاق. "فـقرر هارون نقل الإمام إلى بغداد، وحبسه في بيتٍ يعود للفضل بن يحيى، لكنه أشرف على مراقبته بنفسه"(5)، وانشغل الإمام بدعاء الله تعالى بأن يخلصه من سجن هارون، حتى استجاب الله تعالى له في غلس الليل المظلم، فأمر هارون بإطلاق سراح الإمام"(6). ب: وما إن خرج الإمام (عليه السلام) حتى رجع الناس والتفوا حوله، وتجمهروا، وتزايد عددهم، فأمر هارون (عليه لعائن الله) باعتقال الإمام ثانية في بيت الفضل بن يحيى، حيث طلب منه اعتقال الإمام، لكنه لـم يستجب لهارون. ج: بـعد ذلك أمر هارون بنقل الإمام إلى سجن "أحد الخبثاء، الذي ينصب لآل أبي طالب (عليهم السلام) العداء، فعامل الإمام في السجن بجفاءٍ وشقاء، واستجاب لأمر الطاغية هارون بتقييد الإمام بثلاثين رطلاً من الحديد، ولم يجعله يخرج إلاّ للوضوء، ذلك السجّـان يدعى بالـسندي"(7). 4/ الإمام الكاظم (عليه السلام) في ذمة الخلود. استجاب الرجس السندي لأمر الطاغية باعتقال الإمام واغتياله، حيث دسّ له السم في رطبٍ، فأكل منه الإمام، واضطرب حاله، فقام السندي (عليه لعنة الله) باستدعاء الأطباء؛ محاولاً تهربه من جرمه، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) أخبرهم بتمام الحقيقة. فاخضرّ واصفرّ لون الإمام، حتى انتشر السم في جسده الطاهر، وارتفعت روحه السماء. "إلاّ أنّ الرجس وجلاوزته جمعوا شيوخ المنطقة آنذاك وأخبروهم أنّ الإمام قد مات بلا سبب، فنظروا الى موسى بن جعفر وليس به أثر جراحة ولا خنق، وكان في رجله أثر الحناء"(8). 5/ تجاسر الطغاة على الإمام الكاظم (عليه السلام). ضجت المدينة بخبر افتقادهم لسابع ذراري الرسول موسى الكاظم (عليه السلام)، فثار غضبًا الرجس السندي، والطاغية هارون، فوضعوا جثمان الإمام على جسر الرصافة؛ مستخفًا بكرامة الإمام (عليه السلام) وقد أحاطت الشرطة الجثمان الطاهر ، بل وتجاسروا (عليهم لعائـن الله) على الجثمان حيث كشفوا عن وجه الإمام! والله وبالله وتالله، ما هم إلاّ امتداد لأول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد (عليهم السلام)، وإلاّ فهل الإسلام أمرنا بانتهاك حرمة الموتى هكذا؟! ملّتنا بريئة منهم إلى قيام يوم الدّين. وبدأ الرجس السندي بتصاعد غضبه، فأمر جلاوزته أولاً بأن ينادوا نداءً مفاده: (هذا إمام الرافضة فاعرفوه، هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً). ليس ببعيد أن يكذب مستأصل الشأفة، فمن يتجاسر على ذرية رسول الله (صلوات الله عليهم) لا يتثاقل من ارتكاب الحرام كالكذب؛ حيث أسند بكلامه هذا شبهة بمذهب الشيعة الامامية، وهي أنّ الشيعة تعتقد بمهدوية وغيبة الإمام الكاظم (عليه السلام). نعم، "قالت الواقفية بذلك، والواقفية فرقةُ باطلة لا تمثل عقيدة الإمام وأتباعه؛ لأنهم يعتقدون أنّ الإمام موسى (عليه السلام) حي لم يمت، وأنه رفع الى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم"(9). ثــم أردف الرجس ذلك النداء الكاذب بــنداءٍ أشنع من سابقه، آمرًا جلاوزته بالقول: "ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج"(10). قاتله الله تعالى ما أقبحه وطاغيته، فتلك قلوب قاسية، ونفوس طاغية، وأجسام محشوة بسخط الله، ولعنة الرسول، قد عشش فيها الشيطان وفرّخ، فما الخبيث إلاّ الطاغية هارون وشرذمته، وعلى رأسهم أنت أيّها السندي، أسندك الله وطاغيتك إلى جدران جهنم. 6/ موقف أتباع الإمام الكاظم (عليه السلام) من الانتهاكات بحق إمامهم. إنّ أتباع الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) تصرفوا بحنكةٍ، وتعقلٍ، فكظموا غيظهم، وعلموا أنّ هذا الرجس يريد استفزازهم حتى يقوموا بأعمال ضد شرطة الطاغية، فيـزجهم في قعر السجون؛ امتثالاً للحقد الدفين الذي كان متفاقمًا، بــل ولازال إلى يومنا هذا. نسأل الله تعالى تعجيل فرج مولانا الإمام المؤتمن، الحجّة ابن الحسن، المنقذ الموعود، محمد المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). __________________ (1) عيون أخبار الرضا: 73، ح 3. والغيبة للطوسي: 28. وعن العيون في بحار الأنوار: 48/213، ح 13. (2) البقرة: 34. (3) الأعراف: 12. (4) الأعراف: 12. (5) ظ: عيون أخبار الرضا : 1 / 95 ، وعنه في بحار الأنوار : 48 / 220. (6) ظ: عيون أخبار الرضا: 1/94 ح 13. وراجع المناقب : 4 / 330. (7) اختيار معرفة الرجال : 438، ح 827. (8) كمال الدين : 39، وعيون الأخبار : 1 / 105 ح 8 ، وعنهما في بحار الأنوار: 48/228 ح 31 . (9)المقالات والفرق: للقمي، ص93. (10) كمال الدين : 38، عيون الاخبار : 1 / 99 / ح5، وعنهما في بحار الأنوار : 48 / 227 ح29، والفصول المهمة : 54. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، وحسبنا الله وكفى، سمع الله لمن شكى، والحمد لله ربّ العلا، وسلامٌ على محمدٍ وآله سادة الورى.
اخرىبقلم: علوية الحسيني "إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرف إليّ في كلّ شيء حتى لا أجهلك" إنّ الآثار الكونية مختلفة عند كلّ مخلوق حسب خلقته، فالسماء ما بين ليلٍ ونهار، والبحار ما بين مدٍ وجزر، والإنسان ما بين صحةٍ وسقم، وعزٍ وذل، وهكذا سائر المخلوقات، جميعها خاضعة للتغيرات؛ بلحاظ وجودها في عالم المادة.. وكذا الأطوار المتنقلة لكل مخلوق مختلفة، فالإنسان مثلاً ما بين طينٍ، وحمأٍ مسنون، وصلصال... إلى أن يصبح إنسانًا كاملاً قد طوى تلك الأطوار. فتلك الآثار والأطوار تولد تساؤلاً مفاده: مَن الذي أحدث كل تلكم الاختلافات؟ فتجيب الفطرة هاتفة: إنّه خالقها، حيث استدلت من المعلولات (المخلوقات) على العلة (الله تعالى) وهو ما يسمى بالاستدلال الانّي. فما إظهاره تعالى لذلك الاختلاف إلاّ لتحصيل العلم به. ومقتضى مراده -غايته- أن يعلم العباد أنّ هناك إلهًا يريد أن يتعرفوا إليه، فيتجلى بآثاره ومخلوقاته. يذكر أنّ إرادته تعالى لا تعني احتياجه، وعود النفع عليه من معرفة عباده بإلههم؛ لأنه تعالى منزه عن الاحتياج. "وإنّ أرادته تعالى هي فعله وإيجاده، ففسرت الإرادة بأثرها وهو الفعل" (1). ففعله تعالى تجلّى في اظهار مخلوقاته للتنبيه على وجوده. ولابد أن يكون وراء فعله تعالى غاية؛ لأنّ الفعل لو صدر بلا غايته لكان الفاعل عابثًا، والحكيم أفعاله معللة بالغايات؛ إذًا لفعله غاية، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا}(2). فالغاية من فعل التعرّف على الله تعالى هي النفع، ويستحيل أن يعود النفع عليه سبحانه؛ لغناه المطلق، فالاحتياج هي صفة الممكنات لا الواجب. إذاً النفع يعود على عباده؛ وهو عدم الجهل بالله سبحانه، وبالملازمة بلوغهم مدارج أوائل دينهم –التوحيد- حين معرفتهم به، وإلى ذلك أشار سيد الموحدين أمير المؤمنين (عليه السلام) "أوّل الدين معرفته [معرفة الله]" (3). وهنا في هذا المقطع الإمام بدأ يتكلم على لسان الذين يستدلون على وجود الله تعالى من خلال اثاره. أما المعصومون -ومن ضمنهم صاحب الدعاء، الإمام الحسين (عليه السلام)- فنهجهم في التنبيه على وجود الله تعالى هو أنّ الله سبحانه ظاهرٌ لهم، كما قال (عليه السلام) "أيكون لك من الظهور ما ليس لك... متى غبت حتى تحتاج لدليل". والمعرفة التي تنفع العباد في معرفة الله سبحانه بها، هي المعرفة الآفاقية والأنفسية، كما أشار إليها سبحانه في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق}(4) فالنفس وما تحوي من دقة صنع، وعظيم نسج، تكشف للعبد أنّ هناك إلهًا صانعًا متقنًا. وكذلك يتأمل في آفاقه، فيرى كونًا متناسق النظم بكافة ما فيه من مخلوقات، فيكتشف أنّ هناك إلهًا صانعًا متقنًا. والعبد دون تأملٍ سيعيش حالة الجهل، والجهل قبيح، وأيُّ جهالةٍ أشد قبحًا من الجهل بالله تبارك اسمه؟! ولهذا علّل الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه علِم من اختلاف الآثار، وتنقلات الأطوار أن مراده تعالى أن ننتبه إلى وجود الله سبحانه من خلال كل شيء يحيط بنا؛ حتى لانجهل ذلك الوجود المقدّس. على أنّ هناك طرقًا عديدة لمعرفة الله تعالى -للتنبيه على وجوده، واثبات صفاته الذاتية له- إلاّ أنّ المقطع الدعائي محل الكلام اقتصر على طريقٍ واحد. ____________ (1) ظ: محاضرات في الالهيات: للشيخ السبحاني. (2) ص: 27. (3) نهج البلاغة : 39. (4) فصلت: 53. والحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه، وأكرم خليقته عليه، وأرضى حامديه لديه، وصلِ اللهم على محال معرفتك، ومنبع حكمتك، محمدٍ وآله الطاهرين.
اخرىبقلم: علوية الحسيني "يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَسْتَنْصِرُ اللهَ وَمَنْ أجَابَنَا مِنَ النَّاس، وَإِنَّا أهْلُ بَيْتِ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدٍ وَنَحْنُ أوْلَى النَّاس بِاللهِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله" هذا أول جزءٍ من خطبةٍ للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، يخاطب الناس في أولِ ظهورٍ علني له، مسندًا ظهره إلى الكعبة, معرّفًا بنفسه لهم. وكل فقرةٍ من هذا المقطع الدعائي تحتمل وجهين، أحدهما يحتمل أن يتكلم الإمام عن نفسه (عليه السلام) خصوصًا، والآخر عن أهل البيت (عليهم السلام) عموماً وهو منهم ضمنًا. فقوله (عليه السلام):"يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَسْتَنْصِرُ اللهَ وَمَنْ أجَابَنَا مِنَ النَّاس" لعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يشير لأهل البيت عمومًا، فيكون مقتضى كلامه: أنّه استعمل اسلوب النداء حينما بدأ يخاطب ويطلب النصرة من الله تعالى، وممن أجاب دعوته (عجّل الله فرجه الشريف)، وهي الدعوة الى الله تعالى، حيث قال "إنّــا" إشارة منه إلى ديدن أهل البيت (عليهم السلام) بصورة جمعية، فهم عندما تتكالب الأعداء عليهم يطلبون النصرة من الله تعالى، ومن مواليهم، فيشكلون قوة رادعة بوجه الأعداء -وان كانوا قلة؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة. وسيرة الأطهار كفيلة ببيان ذلك. ولعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يشير إلى شخصه الكريم، مستعملاً أسلوب التفخيم والتعظيم بقوله "إنّــا" فيكون مقتضى كلامه: أنّي أيضًا أطلب النصرة من الله تعالى وممن يواليني. يذكر أنّ أصحاب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يجيبون دعوته رغم اختلاف مناطقهم وجنسياتهم، فأين ما يكونوا يأت بهم الله تعالى عند مولاهم؛ فعن المفضَّل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لقد نزلت هذه الآية في المفتقدين من أصحاب القائم (عليه السلام)، قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ [البقرة: ١٤٨]، إنَّهم ليُفتَقدون عن فرشهم ليلاً فيصبحون بمكّة، وبعضهم يسير في السحاب يُعرَف باسمه واسم أبيه وحليته ونسبه، قال: قلت: جُعلت فداك، أيّهم أعظم إيماناً؟ قال: الذي يسير في السحاب نهاراً"(1). قوله (وَإِنَّا أهْلُ بَيْتِ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدٍ) لعل مراد الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) هو أنّ أهل البيت (عليهم السلام) هم أهل بيت النبي الذي تدين به البلدة التي يكون ظهوره فيها، وهي مكة المكرمة؛ فيبدأ يعرّف بأهل البيت لطائفة تخالفه في المعتقد، لا تقول بإمامة الإمام علي والأئمة من بعده (عليهم السلام)، بل تعتقد بخلافة السقيفة. ومن المؤكد أنه يستدل لهم بما لا يقبل الشك، وبما يؤدي إلى القطع واليقين. ولعل مراد الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) التعريف بنفسه كونه فردًا من أهل بيت محمد (عليهم السلام) فإنّه بدأ يعرف بنفسه (عليه السلام) بأنه من أهل البيت (عليهم السلام). وكون المهدي من أهل البيت (عليهم السلام) هو ما دلّ عليه النقل عند العامة والخاصة، فقد روي "عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية ، عن أبيه، عن علي (ر) قال: قال رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) المهدي منّــــا أهل البيت يصلحه الله في ليلة"(2). كما وروي "عن النبي (ص[صلى الله عليه وآله]) أنه قال : لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلًا من أهل بيتي يواطيء اسمه اسـمي واسم أبيه اسم أبـي يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورا"(3). وروي عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: "يكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم (عليهم السلام)"(4). قوله "وَنَحْنُ أوْلَى النَّاس بِالله" لعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يشير لأهل البيت عمومًا، فيكون مقتضى كلامه: نحن أهل البيت أفضل الناس عند الله، وأقربهم منزلة منه، وأكثرهم معرفة به. ودليل هذا نجده في الأدعية والزيارات التي صدحت بتلك الأولوية، ففي الزيارة الجامعة الكبيرة: "مَنْ اَرادَ اللهَ بَدَأَ بِكُمْ، وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ، وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ"(5). فبواسطة أهل البيت (عليهم السلام) عرفنا أصول الدّين من توحيد الله تعالى وعدله ووجوب بعثته للأنبياء والأئمة ووجود معاد- وإن كان العقل أيضًا يدل على ذلك، لكن قولهم يزيد من اطمئنان الفرد وصحة ما توصل إليه عقله- كما بواسطتهم عرفنا التكاليف الإلهية من فروع الدّين من صلاة وصوم وحج وزكاة وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وولاية أولياء الله وبراءة من أعداء الله. ولعله (عجّل الله فرجه الشريف) يشير إلى نفسه بالخصوص، مستعملاً ضمير التفخيم والجمع "نـحن"، فيكون مقتضى كلامه: أنه أولى الناس بالله؛ كونه الإمام المجعول من الله تعالى، خليفة له على الأرض، وإمامًا مفترض الطاعة. ولمفردة (أولـى) معانٍ عديدة، إلاّ أنّ ما يناسب سياق الخطاب هو: "أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، وخبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه"(6) فالتقدير: نحن أهل البيت أولى منكم بالله تعالى. وعلى كلا الاحتمالين في توجيه الضمير نحن -بكونه عائدًا لأهل البيت عمومًا أو للإمام المهدي (عليه وعليهم السلام) خصوصًا- فإنهم يـكونون أفضل الناس عند الله تعالى، فأصبحوا أولياء الله، قال تعالى مبيّنًا للفظة الأولياء: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون}(7), فأوّل صفةٍ وصفهم الله تعالى بها هي الإيمان، ولـعل الله تعالى يشير إلى إيمان أهل البيت جميعهم بالله تعالى(عليهم السلام) بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وإقرارهم بالربوبية في عالم الذر، ففي عالم الذر وبعد أن خلق الله تعالى مخلوقاته بهيأة ذرات [على رأي] نثرهم وسألهم: مَن ربّكم؟ فكان أول من أجاب بالشهادة هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم)، فقد روي "عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ أن أَبَا عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) قال: فَلَمَّا أَرَادَ الله أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ نَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلام) وَالائــِمَّةُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فَقَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا..."(8). وأسبقيتهم على غيرهم بإقرارهم (عليهم السلام) بـالربوبية لله تعالى في عالم الذر كان مقدّمة لتحميلهم العلم الإلهي، وجعلِهم أولياء على خلقه وخلفاءه على بريته. والروايات الشريفة وصفت هذا الحدث العظيم بأنّ الله تعالى جعلهم (صلوات الله عليهم) حملة عرشه. فقد روي "عَنْ دَاوُدَ اَلرَّقِّيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ » فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ إِنَّ اَلْعَرْشَ كَانَ عَلَى اَلْمَاءِ وَ اَلرَّبُّ فَوْقَهُ. فَقَالَ: كَذَبُوا مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ صَيَّرَ اَللَّهَ مَحْمُولاً وَ وَصَفَهُ بِصِفَةِ اَلْمَخْلُوقِ وَ لَزِمَهُ أَنَّ اَلشَّيْءَ اَلَّذِي يَحْمِلُهُ أَقْوَى مِنْهُ. قُلْتُ بَيِــّنْ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ. فَقَالَ إِنَّ اَللَّهَ حَمَّلَ دِينَهُ وَ عِلْمَهُ اَلْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَرْضٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ جِنٌّ أَوْ إِنْسٌ أَوْ شَمْسٌ أَوْ قَمَرٌ فَلَمَّا أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ اَلْخَلْقَ نَثـَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ مَنْ رَبُّكُمْ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُـــولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أَمِــيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَ اَلْأَئِمَـــّةُ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا فَــحَمَّلَهُمُ اَلْعِلْمَ وَ اَلدِّينَ ثُمَّ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ هَؤُلاَءِ حَــــمَلَةُ دِيــنِي وَ عِــلْمِي وَ أُمَــنَائِي فِي خَلْقِي وَ هُمُ اَلْمَـــــسْئُولُون"(9). وهنا لعلّ سائلًا يسأل: هل أنّ ولاية أهل البيت (عليهم السلام) فقط على بني جنسهم؟ أي فقط على البشر من أنبياء ورسل وسائر الناس؟ أم تمتد ولايتهم الجعلية وتشمل حتى الملائكة فيكونون (عليهم السلام) أولياء على الناس والملائكة؟ جواب تلك الأسئلة يتضح من خلال تتمة الرواية المتقدمة "... ثُمَّ قَالَ[الله وسبحانه تعالى] لِبَنِي آدَمَ: أَقِرُّوا لِلَّهِ بِــالرُّبُوبِيَّةِ وَ لِهَؤُلاَءِ اَلنَّفَرِ[النبي والأئـمة عليهم السلام] بِــالْوَلاَيَةِ وَ اَلطــَّاعَةِ. فَقَالُوا[المـلائكة]: نَعَمْ رَبَّنَا أَقـْرَرْنَا، فَقَالَ اَللَّهُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اِشْـــهَدُوا. فَقَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ: شــَهِدْنَا..."(10). كما أنّ أولوية أهل البيت (عليهم السلام) على غيرهم كانت لأسبابٍ اخرى محل آثارها في عالم الدنيا, منها: 1- تنزههم عن دناءة الآباء وفجور الأمهات، فأهل البيت –والإمام المهدي منهم- (عليهم السلام) معروفون بطيب المولد, والعفاف المستقيم. 2- سلامة الخِلقة، فجميعهم (عليهم السلام) متصفون بسلامة الأبدان من التشوهات والأمراض التي تنفر الناس من الإيمان بهم كأئمة واجبي الإتباع بجعلٍ إلهي. 3- كمال الخُلق، وسيرة الأئمة (عليهم السلام) كفيلة ببيان كمال أخلاقهم ودرجة لائقية تعاملهم مع الناس. 4- كمال العقل، فالعقل الذي يتورع عن ارتكاب المعاصي، وتكون التقوى ملكة نفسانية لدى صاحبه، رغم امكانية فعله للمعاصي، لا يكون إلاّ عقلاً كاملاً، وهذا ما اتصف به أهل البيت (عليهم السلام). فجميع تلك الخصائص تجعلهم (عليهم السلام) أولى الناس بالله تعالى. والأصل في ذلك كله هو الجعل الإلهي. قوله: (وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله) الواو حرف عطف، عطف الجملة على السابقة، والمعنى نحن أهل البيت أولى الناس بمحمد (صلى الله عليه وآله). ولعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يشير إلى نفسه خصوصًا مستعملاً ضمير التفخيم والجمع "نـحن"، فيكون مقتضى كلامه: أنا أولى الناس بـمحمد (صلى الله عليه وآله) رغم أن هذا المعنى مستبطن في الأول. وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنَّ المَهْديَّ مِنْ عِــتْرَتي، مِنْ أهلِ بَيْتي، يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ، يُنْزِلُ لَهُ مِنَ السَّماءِ قَطْرُها، وتُخرِجُ لَهُ الأَرْض بَذْرُها، فَيَمْلأُ الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً، كَما مَلأَها الْقَوْمُ ظُلْماً وَجَوْرا"(11). _________________________ (1) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٦٧٢، ب٥٨، ح٢. (2) مسند الإمام أحمد بن حنبل لأحمد بن حنبل, مسند العشرة المبشرين بالجنة, مسند الخلفاء الراشدين, ومن مسند علي بن أبي طالب (ر), ح646. (3) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية, الفصل الثاني في أن مذهب الامامية واجب الاتباع - الجواب عن كلام الرافضي على حديث المهدي من وجوه, ج4, ص95. (4) الخصال للشيخ الصدوق: ص480. (5) مفاتيح الجنان للشيخ القمي: (6) غيبة الطوسي للشيخ الطوسي: 178. (7) يونس: 62-63. (8) الكافي: للشيخ الكليني, ج1, باب العرش والكرسي, ح7. (9) المصدر نفسه. (10) المصدر نفسه. (11) غيبة الطوسي: 180. اَللّـهُمَّ اَعِذْهُ مِنْ شَرِّ كُلِّ باغ وَطاغ وَمِنْ شَرِّ جَميعِ خَلْقِكَ، وَاحْفُظْهُ مِنْ بَيْنِ يَديهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمينِهِ وَعَنْ شِمالِه.
اخرىبقلم: علوية الحسيني "فَمَنْ حَاجَّنِي فِي آدَمَ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِآدَمَ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي نُوح فَأنَا أوْلَى النَّاس بِنُوح، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي إِبْرَاهِيمَ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِإبْرَاهِيمَ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِمُحَمَّدٍ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي النَّبِيَّينَ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِالنَّبِيَّينَ، ألَيْسَ اللهُ يَقُولُ فِي مُحْكَم كِتَابِهِ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))؟ فَأنَا بَقِيَّةٌ مِنْ آدَمَ، وَذَخِيرَةٌ مِنْ نُوح، وَمُصْطَفًى مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَصَفْوَةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله". بعد أن يعرّف الإمام نفسه وأهله للعالم، يبدأ يرد على خصومه الذين حاجّوه شخصيًّا أو حاجّوا أجداده (عليهم السلام)، وحاولوا الالتفاف على أحقيتهم (عليهم السلام) في الإمامة. والمحاجّة هي: "إلقاء الحجة قبال الحجة لإثبات المدعي أو لإبطال ما يقابله"(1) بدأ الإمام يعدّد من حاجّوه بهم، وهم الأنبياء آدم، نوح، ابراهيم، محمد (عليهم السلام)، ثم سائر الأنبياء عمومًا. ولمفردة (أولـى) معانٍ عديدة، إلاّ أنّ ما يناسب سياق الخطاب هو: "أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحــرى، وخبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه"(2) فالتقدير: هؤلاء الأنبياء أنــا أولى بهم منكم. فبعد أن يجملَ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يبدأ يفصّل في كلامه؛ فيبيّن كيف يكون هو أولــى الناس بالأنبياء، لكن قبل ذلك يستنطق من يحاجّونه، فيسألهم ببـلاغةٍ واضحة؛ بصيغة الاستفهام التوبيخي بقوله: " ألَيْسَ اللهُ يَقُولُ فِي مُحْكَم كِتَابِهِ: {إِنَّ اللهَ اصـــْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيم}؟ والتوبيخ هو لوم القوم، واستقباح إنكارهم له، والعيبة عليهم؛ إذ هذا كتاب الله تعالى بين أيديهم ولــم يتدبروا بآياته، ورغم ذلك يحاجّون أولياء الله تعالى! والمتأمل في خطاب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يجد مدى ذوبانه في كتاب الله تعالى واتقان علومه؛ بدليل أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) لم يقل ((أليس الله يقول في كتابه)) بــل أضاف قيدًا قيّد به آيات الله تعالى، فقال: ((أليس الله يقول في مُـحكم كتابه))؛ لأنّ كتاب الله تعالى فيه من الآيات ما هي مُحكمات، وما هي مُتشابهات، والفارق بينهما مهم جدًا. قـيل: "إنّ المُحكم هو كل كلام فصيح الألفاظ صحيح المعاني، وكل بناء وثيق أو عقد وثيق لا يمكن حله فهو (محكم)، فالمحكم هو الذي يحـتمل وجـهاً واحداً...، وقيل هو الذي يدل معناه بوضوح لا خفاء فيه"(3). والمُتشابَه عكس المحكم أي يحتمل النص وجوهًا عديدة. وهذا التقسيم قد ذكره الله تعالى في كتابه الكريم قائلاً: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّــحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات}(4). فـمراد الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أنّ القوم لو كانوا قد تدبروا بآيات الله تعالى لـعرفوا مقام حجّة الله عند ظهوره بدلاً من محاججته وعدم الإيمان به. و محاججتهم وعدم إيمانهم بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لا تخلو من وجهين: 1/ أنّهم يجهلون آيات الله تعالى، فتكون محاججتهم لغوًا، فوظيفة الإمام تجاههم عندئذٍ هي الإعراض عنهم؛ امتثالاً لقول ربّه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضــُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجـــَاهِلِين}(5). 2/ أنّهم يعلمون، بآيات الله تعالى، وعلى دراية بوجود آيات محكمات وأُخر متشابهات، وما يتلو الإمام (عجّل الله فرجه الله فرجه الشريف) عليهم هي آية محكمة لا يشتبه في فهمها عاقل إلاّ أنّهم يجحدونها، ويجحدون شخص الإمام وإمامته، لكن رغم ذلك فالنصر حليف الإمام كما وعد الله تعالى في كتابه الكريم كل الرسل الذين جحد قومهم بهم وبآيات الله تعالى التي يستدلون بها، قال سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَــجْحَدُونَ* وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّه}(6). وكلام الإمام مع الصنف الثاني –الذين يعلمون بآيات الله ويجحدونها- ويبدو أنّهم مصداق لأهل الفتنة الذين يريدون تأويل الآيات المحكمة إلى متشابهة؛ حتى يشتبه ويختلط على الناس أمر الإمام فينكروه، وبالتالي حتى لا يؤمنوا به، وماذا يترجى من النواصب ومتزلزلي العقيدة؟! ومستند ذلك قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْـــغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفــِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه}(7). والآية المحكمة التي استدل بها الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) هي: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين}(8). وهي الآية التي سأل مخالفيه عن وجودها في كتاب الله تعالى توبيخًا لهم بعدم التفاتهم إليها قبل محاججتهم . والاصطفاء: هو "...أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له"(9). "وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحًا، فأما آدم فقد اصطُفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30، وأول من فتح به باب التوبة... . وأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد (صلى الله عليه وآله)"(10). وبما انّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من ذرية النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) فهو مشمول بإطلاق الآية الكريمة، بالإضافة عن الروايات – حتى في كتب المخالفين- التي أثبتت أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) من ذرية محمّد النبي (صلى الله عليه وآله)، فضلاً عن الروايات في كتب الشيعة التي أثبتت أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) أفــضل الأئمة التسعة الذين سبقوه في الإمامة (عليهم السلام). فالله تعالى اصطفى أو انتجب المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا، والمنتجب: هو "المختار من كل شيء، وقد انتجب فلاناً إذا استخلصه، واصطفاه اختياراً على غيره"(11). وبالتالي يكون الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من المصطفَين، فهو من ذرية أهل الاصطفاء الإلهي؛ فالمتتبع للسياق الآية الكريمة التي يتلوها الإمام يجد أنّ الآية التي تليها لها ارتباط وثيق بالمضمون، حيث قال الله تعالى فيها: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّــةً بَعْضـــُهَا مِــن بَــعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم}(12). وذيل الآية الكريمة لا يخلو من نكتة عقائدية مهمة، حيث ختمت الآية بصفتين من صفات الله تعالى –السمع والعلم- وإن كانت صفة السمع تعود لعلمه تعالى -فمعنى كونه تعالى سميعًا أي يـعلم بالمسموعات- وبالتالي ظهور الآية الكريمة مفاده: أنّ أهل الاصطفاء هم النبي آدم، ونوح، وآل ابراهيم، وآل عمران، وذريتهما المؤمنة، وأنّ الله تعالى يعلم بوجود أجيال تجحد اصطفائية اولئك الأنبياء، أو آلهم، أو أحد ذراريهم المنصوص عليهم، وبالتالي يكون تنصيب مقام الاصطفاء إلهي محض، والراد على أمر الله تعالى ليس بمسلم. ثم يشرع الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) ببيان سبب أولويته من الناس بأولئك الأنبياء، فبعد أن عرفنا معنى الأولى، سيتضح لنا تعليل تلك الأولوية. *فقوله: (فَأنَا بَـــقِيَّةٌ مِنْ آدَمَ) المراد من لفظة بقية: "ما بقي من الشيء. وقوله تعالى: بقية الله خير لكم"(13). فالإمام (عجّل الله فرجه الشريف) باقٍ من الله تعالى عن طريق أول مخلوق بشري له في عالم الدنيا، وهو الـنبي آدم (عليه السلام). نعم، إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) أفضل من النبي آدم؛ بلحاظ أسبقية الإمام بالإقرار بالربوبية لله تعالى قبل النبي في عالم الذر؛ ففي عالم الذر وبعد أن خلق الله تعالى مخلوقاته بهيأة ذرات [على رأي]، نثرهم وسألهم مَن ربّكم، فكان أول من أجاب بالشهادة هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) فروي "عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ أن أَبَا عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) قال: فَلَمَّا أَرَادَ الله أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ نَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلام) وَالائــِمَّةُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فَقَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا..." (14). *وقوله: (وَذَخِيرَةٌ مِنْ نُوح) الإذخار هو الاختيار، أو الاتخاذ، فيقال: "واذَّخَرَهُ : اختارَهُ ، أو اتَّخَذَهُّ"(15). لعلّ مقصود الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أنّ هناك وجه مشابهةٍ بينه وبين النبي نوح (عليه السلام) بلحاظ طول عمره، واستهزاء قومه وجحودهم به. *وقوله: (وَمُصْطَفًى مِنْ إِبْرَاهِيم) عرفنا أنّ الاصطفاء: هو "...أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له"(16). فلعل مراد الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) هو أنّه مختار لأن يكون من آل ابراهيم النبي (عليه السلام) بل أفضلهم، تبعًا لأفضلية جدّه محمد (صلى الله عليه وآله) على سائـر الأنبياء (عليهم السلام)، وهذا ما تسالم عليه العامة والخاصة، فروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا ســيّد ولد آدم"(17). فممكن الاستدلال على اصطفائية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من خلال عدة طرق، نذكر منها اثنين: أما الأول فآية المباهلة التي تثبت أفضلية أهل الكساء المساوية لأفضلية النبي (عليه وعليهم السلام) إذ لـم يأمر الله تعالى أحدًا من أنبيائه بالمباهلة مع آله ســوى محمد وآله (عليهم السلام). -وأما الثاني فهو صلاة النبي عيسى (عليه السلام) خلف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) عند نزول النبي من السماء في عصر الظهور، وهذا الفعل يكشف لنا اصطفائيـة وأفضـلية الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) على النبي عيسى (عليه السلام) وهو من أنبياء أولي العزم. *وقوله: (وَصَفْوَةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله) الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) ليس من ديدنه تكرار المفردات التي ظاهرها يشير إلى إفادتها معنى واحدًا، فلعل قائل يقول: هناك شبه بين (اصطفاء وصفوة). فيجاب: بمضمون حديث عن أهل البيت (عليه السلام) مفاده أنّ حديثهم صعبٌ مستصعب لا يحتمله إلاّ ثلاثة، منهم عبدٌ امتحن الله قلبه للإيمان. فمن أراد أن ينجح في ذلك الامتحان الإلهي عليه أن يذعن ببلاغة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، فهناك فارق بين الاصطفاء والصفوة، نظير ما جاء في الآية الكريمة بشأن مريم بنت عمران: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاك} فالاصطفاء الأول يختلف عن الثاني، فهكذا كلام الإمام. فلعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يريد أن يقول: إنّه صفوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في وقت ظهوره، فإنه آنذاك لا صفوة للنبي سواه. أو لعل المقصود هو أنّه (عجّل الله فرجه الشريف) الصفوة مـِن أهل البيت (عليهم السلام)، لكن مع ضم القرينة الخارجية المنفصلة التي تدل على أفضلية أهل الكساء عليه –الإمام علي والحسنين والزهراء عليهم السلام- أي إنه أفضل أهل البيت (عليهم السلام) عدا أهل الكساء للقرينة الخارجية. فروي "عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ان الله اختار من كل شيء شيئاً... إلى أن يقول وتكمله اثني عشر إماماً من ولد الحسين تــاسعهم باطنهم وهو ظاهرهم وهو أفــضلهم وهو قــائمهم"(18). ويكون كلامًا معتمدًا على قرينة منفصلة ويصح معها الإطلاق عليه بأنه الصفوة، ولهذا قال (عجّل الله فرجه الشريف) "صـفوةٌ مِـــن محمد" ولم يقل "صفوة على محمد" فببلاغة كلامه استعمل مِن التبعيضية دلالةً منه على وجود مجموعة هم الصفوة وهو منهم، على أن منهم من أفضل منه، وهم محمد وعلي وفاطمة والحسنان (عليهم السلام) للقرينة الخارجية كما تقدم؛ لوصول موروث أجداده إليه بذلك؛ حيث روى الصَّدوقُ بإسناده عن الإمام الرِّضا (عليه السلام) عن آبائه عن النَّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "الحسنُ والحسينُ خــيرُ أهلِ الأرضِ بعدِي وبعدَ أبِيهِما، وأمُّهُما أفضلُ نساءِ أهلِ الأرض"(19). ___________________ (1) الميزان في تفسير القرآن: للعلاّمة الطباطبائي، ج2، ص348. (2) المصدر نفسه، ج20، ص115. (3) الاصول العامة للفقه المقارن: محمد تقي الحكيم، 101، الإتقان: للسيوطي، ج2، ص 2-3. (4) آل عمران: 7. (5) القصص: 55. (6) الأنعام: 33-34. (7) آل عمران: 7. (8) آل عمران: 33. (9) تفسير الميزان: للعلامة الطباطبائي، ج3، ص164. (10) المصدر نفسه، ص165-166. (11) لسان العرب: لابن منظور، ج1، ص749. تاج العروس: للزبيدي، ج2، ص418. (12) آل عمران: 33-34. (13) لسان العرب: لابن منظور، ج 14، ص80. (14) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، باب العرش والكرسي، ح7. (15) ظ: المصدر نفسه، ج4، ص302. (16) تفسير الميزان: للعلامة الطباطبائي، ج3، ص164. (17) ظ: صحيح مسلم، كتاب الفضائل باب تفضيل نبيّنا على جميع الخلائق، سنن الترمذي 2 / 195، مسند أحمد 1/5. (18) الغيبة: للنعماني، ص73. (19) عيون أخبار الرِّضا: للشيخ الصدوق، ج2، ص67. وَالسَّلامُ عَلى حُجَّةِ الْمَعْبُودِ وَكَلِمَةِ الَمحْمُودِ، الحُجَّة ابنِ الحَسَن المُنقِذ المَوعُود، والصَلاةُ وَالسلامُ عَلَى مُحمّدٍ وَآلهِ أهل الكَرَم والجُود.
اخرىبقلم: علوية الحسيني "ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي كِتَابِ اللهِ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِكِتَابِ اللهِ، ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي سُنَّةِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله فَأنَا أوْلَى النَّاس بِسُنَّةِ رَسُول الله". سبق وأن عرفنا معنى المحاججة، وهي "إلقاء الحجّة قبال الحجة لإثبات المدعي أو لإبطال ما يقابله"(1)، فقد أبطل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) محاججة منكريه "حينما حاجّوه بالله تعالى، ثم بالنبي آدم، ونوح، وإبراهيم، ومحمد (عليهم السلام جميعًا وعلى آل محمد)، وبسائر الأنبياء عمومًا"(2). ففي هذا المقطع الخطابي يبطل (عجّل الله فرجه الشريف) محاججة منكريه له بكتاب الله تعالى. *فيقول: (ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي كِتَابِ اللهِ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِكِتَابِ اللهِ) فلعل منكريه يقولون للإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حين ظهوره، (حسبنا كتاب الله) أو (ارجع يا ابن فاطمة لا حاجة لنا بك). وما ردّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) إلاّ قصمًا لظهر باطلهم، وتكميمًا لأفواه شياطينهم الناطقة بها ألسنتهم. فلعل الأعداء يحاجّون الإمام بآياتٍ يزعمون أنّها متشابهة، والحال أنّها محكمة؛ وما فعلهم ذلك إلاّ لزيغ قلوبهم، وابتغائهم الفتنة، وادّعائهم علم تأويل الآيات، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه} (3). ولعل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يستشهد بالآية الكريمة التالية، ويحاجج بها منكريه: قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون}(4). إن هؤلاء المحاججين هم من المسلمين، ولكنهم قد تزلزلت عقيدتهم، فقلّ ولائهم، وزاغت قلوبهم، حتى باتوا يحاججون إمامهم ويطالبوه بدليلٍ قرآنيٍ يثبت به إمامته لهم. حيث جاء في تفسير الآية أعلاه في كتب الشيعة الإمامية: "إنّ التعبير بـ( أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وانتصاره، لأنّ طبيعة «الهداية» و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الانتصار، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ. وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئاً، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة. ومن الظريف أيضاً أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير: الاُولى: كانت في سورة التوبة الآية (33). والثانية: في سورة الفتح الآية (38). والأخيرة: في هذه السورة «الصفّ»...ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظــهور الإمام المــهدي أرواحنا فداه. إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم"(4). كما وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: "والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القـــائم (عليه السلام)، فإذا خرج القائم (عليه السلام) لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلّا كره خروجه، حتى أن لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله" (5). إمن يرجع إلى تفاسير العامة المعتبرة عندهم للآية الكريمة أعلاه يجد أنهم فسروا الوعد الإلهي بإظهار الدّين على سائر الأديان، وشملوا ذلك في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وزمن نزول النبي عيسى (عليه السلام)، وقتل الدّجال- على فرض كونه شخصًا-، فيقول الطبري في تفسيره: " القول في تأويل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا يعني تعالى ذكره بقوله ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ) الذي أرسل رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ [وآله] بالبيان الواضح، وَدِين الحَق، وهو الإسلام؛ الذي أرسله داعيا خلقه إليه ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) يقول: ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه، وذلك كان كذلك حـــــــتى ينـزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ [وآله] ، ويظهر الإسلام على الأديان كلها"(6). واخفاء اسم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من تفسير هذه الآية خير دليلٍ على إرادة المحاججة لأنصار الإمام أثناء غيبته، فتكون إرادتهم المحاججة عند ظهوره (عجّل الله فرجه الشريف) أمرًا غير خارج عما بنوا عليه منهجهم. فتفسيرهم يقول: يظهر الله تعالى رسوله على الدّين كلّـه ولو كره المشركون المعارضون حتى نزول عيسى بن مريم (عليه السلام)، فيُســتبعد أن يكون عيسى النبي هو الرسول الذي يريد الله تعالى اظهاره على الدّين كلّه، لأنّ المتسالم عليه بين أبناء العامّة أنّ عيسى النبي سيعتنق الدّين الإسلامي، وسوف يصلي صلاة المسلمين خلف مســلم –وهو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)(7)، فمن المحال أن يدعو عيسى النبي العالم إلى دين المسيحية ويظهره الله تعالى على الدّين كلّه ويكون الدّين السائد هو المسيحية. بـل لابد أن يكون المرسل الذي يظهره على الدّين كلّه يدين بالأصل بالدّين الإسلامي، وهو أفضل من عيسى النبي؛ لشرفية مقامه –حيث يصلّى عيسى النبي خلفه-، ولخاتمية دينه –فالدّين الإسلامي هو خاتم الأديان ولا دين بعده-، ولأفضلية نبيّه (صلى الله عليه وآله) –فنبي الإسلام أفضل الأنبياء وأسبقهم شهادةّ لله تعالى بالربوبية-، وذلك المرسل الظاهر على الدّين كلّه هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف). وبهذا يتضح بطلان محاججتهم، وافتضاح احدوثتهم. *قوله: (ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي سُنَّةِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله فَأنَا أوْلَى النَّاس بِسُنَّةِ رَسُول الله) كما وأنه قد يكون هناك مَن يحاجج الإمام بالأحاديث النبوية الشريفة زاعمًا أنّها تنفي أن يكون هناك إمام يظهر في آخر الزمان يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا. - وهؤلاء المحاججون قد يكونون ممن ادّعوا التشيع، لكنهم انحرفوا فكريًا مع السفياني وجيشه، فتبدّلت قلوبهم ومواقفهم، فأصبحوا خصومًا للإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، وأخذوا يحاججونه أن يثبت لهم أنّه الإمام المهدي، أو يطالبونه بدليلٍ روائي ينص على إمامته. وذلك لأنّ بعض مدّعي التشيع يكون إيمانهم ضعيفًا، فيلحظ عليهم التزلزلٍ في العقيدة، همجٌ رعاع، أتباع كلّ ناعق، فعندما ينعق لهم السفياني عند خروجه من منطقة درعا، يتبدل موقفهم من ولائي إلى عدائـي، وإلى ذلك أشارت الروايات مسميةً ذلك اليوم بيوم الأبدال؛ أي يوم يتبدّل موقف وعقيدة الناس، فمن كان شامخ الإيمان، صلد العقيدة، ثبت ونجا، وغيره خسر وهلك. "ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رواية طويلة: ثم يأتي [أي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)] الكوفة... [إلى أن يقول]: حتى يأتي العذراء [أو البيداء في نسخة أخرى] هو ومن معه، وقد لحق به ناس كثير، والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة حتى إذا التقوا، وهو يوم الأبدال يخرج أناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (عليهم السلام)، ويخرج أناس كانوا مع آل محمد (عليهم السلام) إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم وهو يوم الأبدال"(8). ويكفي في الرد عليهم ما روي عن أبيه الإمام العسكري (عليه السلام): "إِنَّ الإمام وَحُجَّةَ اللهِ مِنْ بَعْدي ابْــــني، سَمِيُّ رَسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَكَنِيُّهُ، الذي هُوَ خــاتِمُ حُجَجِ اللهِ، وَآخِــرُ خُلَفائِهِ. قال: مِمَّنْ هُوَ يا بْنَ رَسُولِ اللهِ؟ قال: مِـن ابْنَةِ ابْنِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، أَلا إِنَّهُ سَيُولَدُ وَيَــغيبُ عَنِ النّاسِ غَيْبَةً طَويلَةً ثُمَّ يَــظْهَر" (9). والراد على أحد الأئمة (عليهم السلام) كالراد على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى، والراد على الله تعالى كـافر. وقد يكونون من أبناء العامة، أو النواصب ، فالمتتبع لصحاح مروياتهم يجد عين ما صرّح به الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من مصداقية كونه المهدي، واجب الطاعة، الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، حيث روي "عن أبي سعيد الخدري ، قال: قال رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله وسلم]) أبشركم بالــمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قـسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ويرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض ويملأ الله قلوب أمة محمد غنى"(10). ومن خلال ذلك يمكن القول: إن الفئات المحاججة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف): 1- علماء العامة. فمن يحاجج الإمام في آيةٍ محكمةٍ مدّعيًا أنّها متشابهة لازمه أن يكون عنده معرفة بعلوم القرآن. 2- فقهاء الضلالة: كالأشخاص الذين يدّعون المرجعية، فيتصدون للفتوى الخاطئة، ويحرّضون على الفتنة، وقد جعلت بعض الروايات –عل فرض صحة سندها- وجودهم كإحدى علامات الظهور؛ "فروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة المعراج ، قال الله تعالى: (وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهدياً كلهم من ذريتك من البكر البتول، ... فقلت: إلهي وسيدي متى يكون ذلك؟ فأوحى الله جل وعز: يكون ذلك إذا رفع العلم، وظهر الجهل، وكثر القرّاء ، وقلّ العمل ، وكثر القتل ، وقلّ الفقهاء الهادون ، وكثر فـقهاء الضلالة والخونة..."(11). وحتمًا لا يخلو زمان ولا مكان من وجود أمثال أولئك. 3- أتباع السفياني: السفياني وهو من ولد عتبة بن أبي سفيان؛ بدليل ما روي عن الإمام علي السجاد (عليه السلام): "...ثُمَّ يَخْرُجُ السُّفياني المَلْعونُ مِنَ الوادي اليابِسِ، وهُوَ مِنْ وُلْدِ عُتْبَةِ بنِ أبي سفيان..." (12) وآل سفيان لهم جذور ممتدة هناك إلى يومنا هذا، فمن المؤكد سيكون لأحدهم دور في محاججة الإمام (عجّل الله جه الشريف) ومحاولة تكذيبه. 4- النواصب: وهم الفئة التي تنصب العداء لأهل البيت (عليهم السلام). ووجودهم واضح في مكة المكرمة –موطن الظهور العلني- للإمام (عجّل الله فرجه الشريف). ______________________ (1) الميزان في تفسير القرآن: للعلاّمة الطباطبائي، ج2، ص348. (2) آل عمران: 7. (3) التوبة: 32-33. (4) الأمثل في تفسي كتاب الله المنزل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي. (5) كمال الدين وتمام النعمة: للشيخ الصدوق، ص670، ح16. (6) جامع البيان: لابن جرير الطبري، ج26، ص141. (7) ظ: كتاب الفتن: لابن ماجه، باب فتنة الدجال وخروج عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج. ومسند أحمد: لأحمد بن حنبل. والدر المنثور في التفسير بالمأثور: للسيوطي، وغيره. (8) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي: ج52، ص224، ح87. (9) إثبات الهداة: للحر العاملي، ج3، ص569، ب32، ف44، ح680، عن الفضل بن شاذان في كتاب إثبات الرجعة. (10) مسند الإمام أحمد بن حنبل: لأحمد بن حنبل، 11092. (11) كمال الدين واتمام النعمة: للشيخ الصدوق، ص239، ب23، ح1. (12) الغيبة: للشيخ الطوسي، ص 334-344، ح437. اللهم استأصل كل من جحد حقّه، واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره، وأراد إخماد ذكره، وعجّل الفرج والنصر له، بحق محمدٍ وآله.
العقائدبقلم: علوية الحسيني "فَأنْشُدُ اللَّهَ مَنْ سَمِعَ كَلامِي الْيَوْمَ لَمَّا بَلَّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِب" *قوله: (فأنشُد الله) "النشيد: رفع الصوت... فتقول: استحلفتك بالله، وأنشدك بالله إلا فعلت: استحلفك بالله"(1)، فالإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يستحلف مواليه، رافعًا صوته، طالبًا منهم أن يبلّغ شاهدهم غائبهم ما جرى، من الظهور ومجرياته. *وقوله: (مَنْ سَمِعَ كَلامِي الْيَوْم) "مَنْ" يخاطب الامام (عجّل الله فرجه الشريف) العقلاء بغض النظر عن موقفهم، موالين كانوا أم محاججين. "سَمِعَ" فمَن سمع خطبة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) قد يكون مباشرًا فيسمعه الحاضرون بحاسة السمع، وقد يكون غير مباشر، فيسمعه الحاضرون عن طريق التلفاز، أو الانترنت، أو وسائل التكنلوجيا المتاحة في ذلك الزمن. يذكر أن عصر التكنلوجيا لا زال في تطور مستمر، وسيتطور أكثر زمن الظهور؛ بدليل الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إنّ المؤمن فــي زمــان القـــائم عليه السلام، وهو بالمشرق يرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق"(2) فكما لم يكن متوقعًا قبل عشرات السنين أن يرى الإنسان الذي في الشرق أخاه في الغرب، أو العكس، ثم تعقّل ذلك؛ نتيجة التطور التكنلوجي، فحصل ذلك بوسائل التواصل الاجتماعي، فكذلك أمر سماعنا خطبة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) قد يسمعها بتلك الوسائل أو بأحدث منها؛ إذ الرواية تشير إلى تطور تكنلوجي في زمن الظهور، فبه يؤخذ. "كَلامِي" الكلام جمع كلمات، "بلحاظ أنّ كل لغة تحتوي على كلمة بسيطة، ومركبة، وهيأة تركيبية، فالشهادة هي هيأة تركيبية تم ربط كلماتها بحروف فأصبحت جملة تامة"(3) فخطاب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) هيأة تركيبية من أسماء وأفعال وحروف؛ لذلك سُمي كلمة. "الْيَوْم" إشارة منه (عجّل الله فرجه الشريف) إلى اليوم الذي يلقى خطابه في مكة المكرمة، وهو يوم ظهوره العلني، وقد شخصته بعض الروايات بأنه يوم العاشر من شهر محرّم الحرام، "عن أبي جعفر (عليه السلام): كأني بالقائم يوم عاشوراء يوم السبت قائمًا بين الركن والمقام، بين يديه جبرئيل (عليه السلام) ينادي: البيعة لله، فيملؤها عدلا كما ملئت ظلما وجورا"(4) نعم، بعض الروايات صرّحت أنّ يوم الظهور هو ليلة العاشر من محرم، فيكون من المحتمل أن الظهور ليلة العاشر، والبيعة يوم العاشر. ويوم الظهور يكون يوم الجمعة، لروايةٍ عن أبي عبد الله (عليه السلام قال: ...ويخرج قائمنا أهل البيت يوم الجمعة..."(5) وقد يُقال بالفرق بين الظهور والخروج والقيام؛ "فهناك معنيان يفهمان من لفظة الظهور للإمام المهدي (عليه السلام) المعنى الاول: هو معروفية شخصه الشريف لمجموعة من الناس، خصوصًا أعداءه والتي تسبق عملياته العسكرية بعدة أشهر، وإليه تشير رواية (فاذا ظهر السفياني اختفى المهدي) في غيبة الطوسي 444. أما المعنى الثاني الذي يفهم من لفظة الظهور، فهو الزمن الذي يكون فيه الإمام (عليه السلام) معروفًا لجميع الناس أعم من بداية المعروفية، أو الإعداد والحروب العسكرية من قبيل ما روي (يدخل الصخري الكوفة ثم يبلغه ظهور المهدي بمكة...) في كتاب الفتن ص 218 . أما لفظة القيام للإمام المهدي (عليه السلام) وخروجه، فالكلمتان تشيران إلى قيامه بالعمليات العـسكرية، والحروب، وتطهير الأرض من الظالمين، وهذا ما يستفاد من الروايات من قبيل ما ورد (أنّ الملائكة ... ينتظرون قيام القائم(عليه السلام) الى وقت خروجه عليه صلوات الله وسلامه) في معجم احاديث الامام المهدي(عجل الله فرجه) 4/17 . والمتحصل من ذلك أنّ الظهور يستعمل مرةً استعمالاً خاصًا يشير إلى بدايات الظهور، ومرة استعمالاً عامًا، وهو الأكثر، ويشير إلى الأعم من البداية والخروج. أما الخروج والقيام فيستعملان بمعنى واحد وهو التحرك العسكري"(6) *وقوله: (لَمَّا بَلَّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِب): "لَمَّا" ظرف زمان معناه حين. "بَلَّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُم" التبليغ أيضًا يكون بطريق مباشر، أو غير مباشر بواسطة وسائل الإعلام، كأن تتناقل وسائل الإعلام الأخبار. وبالتالي سيكون تكليف الشاهد هو البلاغ فقط؛ بلحاظ كونه رسولًا من الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، وتكليف الرسول هو البلاغ، قال تعالى {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين}(7) وإنّ من يشهد الخطاب عموم الناس، وقد استعمل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) الضمير (مـَن) فتكون حتى النساء مشمولات بالخطاب ويكون تكليفهن الإبلاغ أيضا. وتذكر الروايات كيفية اجتماع قادة جيش الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) البالغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً منهم خمسون امرأة. ففي حديث روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): "إِذَا أُذِنَ الاِْمَامُ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعِبْرَانِيِّ ، فَأُتِيحَتْ لَهُ صَحَابَتُهُ الثَّلاَثُمِائَةِ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ ، قَزَعٌ كَقَزَعِ الْخَرِيفِ ، فَهُمْ أَصْحَابُ الاُْلْوِيَةِ. مِنْهُمْ مَنْ يُفْقَدُ عَنْ فِرَاشِهِ لَيْلاً فَيُصْبِحُ بِمَكَّةَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَى يَسِيرُ فِي السَّحَابِ نَهَاراً يُعْرَفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَحِلْيَتِهِ وَنَسَبِهِ. قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَيُّهُمْ أَعْظَمُ إِيمَاناً ؟ قَالَ : الَّذِي يَسِيرُ فِي السَّحَابِ نَهَاراً ، وَهُمُ الْمَفْقُودُونَ ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا ﴾"(8) ولعل سائلًا يتساءل: ألا يكون ذلك نوع من الإعجاز، والحال أنّ المعجزات من مختصات الأنبياء؟ فطريقة اجتماع أصحاب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لا يدركها العقل على حد تعبير الرواية. فيُجاب: "يمكن القول: إنَّ طريقة الجمع للأصحاب ستتمُّ من خلال محورين: المحور الأوَّل: ما ذكرته الروايات الشريفة، حيث ذكرت الروايات أنَّ الأصحاب يجتمعون إليه بأمر من الله تعالى، فهناك من يُفقَد من فراشه ليلاً، ليصبح في مكّة المكرَّمة. وأنَّ هناك من الأصحاب من يُحمَل على السحاب، ليصل إلى مكّة المكرَّمة، وهل المقصود الإعجاز بحملهم على السحاب، أو الكناية عن سفرهم بالطائرة؟ الظاهر الأوَّل، والثاني محتمل، والله العالم. المحور الثاني: وهذا المحور نذكره كاحتمال لا أكثر: أنَّ هناك مجموعة من الأصحاب سوف يكونون في مكّة المكرَّمة، بأن يكونوا قد جاؤوا للحجِّ في عام الظهور، وعلموا بطريقة وبأُخرى بأنَّ الإمام سيظهر في العاشر من محرَّم، فأبقوا أنفسهم هناك انتظاراً لساعة الصفر. خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ النفس الزكيَّة سيُقتَل في آخر أيّام موسم الحجِّ، حيث ستكون علامة واضحة لمن ينتظر الإمام، ولا شكَّ أنَّ الأصحاب سيكونون على علم واضح بذلك"(9). "الْغَائِبَ" وهنا نستبعد أن يكون الغائبون هم قادة جيش الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)؛ لأنهم أول من يلبّي ويحضر، فيتعين أن يكون الغائب عن الحضور غيرهم. نعم، الجميع سيعلم بقرب ظهور الإمام عن طريق الصيحة السماوية، فيكون من المتعين عليهم أن يتربصوا للظهور العلني، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "ينادي منادٍ من السماء باسم القائم (عليه السلام)، فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلَّا استيقظ، ولا قائم إلَّا قعد، ولا قاعد إلَّا قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت...، حتَّى تسمعه العذراء في خدرها فتُحرِّض أباها وأخاها على الخروج"(10)، وموعد الصيحة سيكون في شهر رمضان المبارك ؛ فعنه (عليه السلام) أنه قال: "الصيحة لا تكون إلاّ في شهر رمضان شهر الله وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق.(11) بل وجاء تشخيص أهل البيت (عليهم السلام) بصورة أدق في تعيين يوم الصيحة؛ دفعًا للالتباس الحاصل بين تلك الصيحة وصيحة أهل الباطل، ولا ننسى أنّ الزمن سيكون آنذاك زمن هرج ومرج، يفوق أهل الباطل أهل الحق عددا. روي عن الإمام أبو جعفر (عليه السلام): "الصوت في شهر رمضان في ليلة جمعة ليلة ثلاث وعشرين فلا تشكوا في ذلك واسمعوا وأطيعوا، وفي آخر النهار صوت إبليس اللعين ينادي ألا إن فلانا[عثمان بن عفان] قتل مظلوما ليشكك الناس [بأنّ عليًا عليه السلام قد قتله وأخذ الخلافة منه] ويفتنهم، فكم ذلك اليوم من شاك متحير[يتحير في اتباع المهدي حفيد الإمام علي عليهما السلام] قد هوى في النار [إشارةً إلى إتبّاعه لعدو الله ومحاربته لولي الله]، وإذا سمعتم الصوت في شهر رمضان فلا تشكوا أنه صوت جبرئيل وعلامة ذلك أنه ينادى باسم القائم واسم أبيه حتى تسمعه العذراء في خدرها فتحرض أباها وأخاها على الخروج"(12). فالصيحة التي تُعلم الناس بقرب ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) هي صيحة حقّة ، جبرائيلية، سماوية. والصيحة التي تشكك الناس بالإمام هي صيحة ضلالية، إبليسية، أرضية. ومن اتبّع الصيحة الأولى فقد فاز ونجا، ومن اتبّع الثانية فقد خسر وهلك؛ روي عن أبي جعفر (عليه السلام): "لا بد من هذين الصوتين قبل خروج القائم عليه السلام: صوت من السماء وهو صوت جبرئيل، وصوت من الأرض، فهو صوت إبليس اللعين، ينادي باسم فلان أنه قتل مظلوما يريد الفتنة، فاتبعوا الصوت الأول وإياكم والأخير أن تفتتنوا به"(13) فإن قيل: ما فائدة أنّ يناشد الإمام(عجّل الله فرجه الشريف) بأن يُعلم الشاهد منهم الغائب بظهوره وأنّ الصيحة قد أفهمت ذلك جميع العالم كلٌّ بلغته؟ يُجاب بنقطتين: ١- أنّ الصيحة أعلمت العالم بأنّ الحق مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) وتأمر باتبّاعه دون أن تشير إلى زمن ظهوره، فهي مجرّد إعلام وليس إعلانًا عن الظهور. في حين أنّ خطاب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) إعلان عن ظهوره وليس إعلامًا. ٢- إنّ الصيحة تسبق الخطاب المهدوي؛ فالصيحة تحصل شهر رمضان المبارك، والخطاب يحصل في شهر محرّم الحرام. فيتضح أنّه حتى لو كان الغائب عن خطبة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يعلم سابقًا بمفاد الصيحة ولم يحضر، فتكون مناشدة الإمام للحاضرين بإبلاغ الغائبين عن حضور الخطبة من باب التأكيد على ما سمعوه من الصيحة، وحاشا الإمام من أن يشوب كلامه تحصيل الحاصل الذي يزعمه البعض. ________________ (1) لسان العرب: لابن منظور، ج ٣، ص٤٢٢. (2)بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج ٥٢، ص٣٩١، ح٢١٣. (3) ظ: دروس في علم الاصول: للسيد محمد باقر الصدر، ح٢، الدليل الشرعي اللفظي. (4) الغيبة: للشيخ الطوسي، ص ٤٥٣، ح٤٥٩. (5 ) الخصال: للشيخ الصدوق، ص٣٩٤، ح١٠١. (6) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام. (7) النور: ٥٤. (8) الغيبة : للشيخ النعماني، ص ٣١٣، ب ٢۰، ح ٣. (9) على ضفاف الانتظار: للشيخ حسين الأسدي، ص١٢٦-١٢٧. (10)بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج ٥٢، ص٢٣٠_٢٣١. (11) المصدر نفسه. (12) المصدر نفسه. (13) المصدر نفسه، ح٩٦. أبرز يا ربِّ مشاهدته، وثبت قواعده واجعلنا ممن تقر عيننا برؤيته، وأقمنا بخدمته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، بحق محمد وآل محمد.
العقائدبقلم: علوية الحسيني "وَأسْألُكُمْ بِحَقَّ اللهِ وَرَسُولِهِ وَبِحَقَّي - فَإنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقَّ الْقُرْبَى مِنْ رَسُول اللهِ - إِلاَّ أعْنَتُمُونَا وَمَنَعْتُمُونَا مِمَّنْ يَظْلِمُنَا، فَقَدْ اُخِفْنَا وَظُلِمْنَا وَطُردْنَا مِنْ دِيَارنَا وَأبْنَائِنَا وَبُغِيَ عَلَيْنَا، وَدُفِعْنَا عَنْ حَقّنَا، فَأوْتَرَ أهْلُ الْبَاطِل عَلَيْنَا، فَاللهَ اللهَ فِينَا لاَ تَخْذُلُونَا وَانْصُرُونَا يَنْصُرْكُمُ الله". هنا في هذا المقطع الخطابي، كلام الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) موجه إلى أنصاره، إذ مثلما يوجد من يسمع خطابه من صنف المحاججين، فكذلك يسمعه من صنف الموالين، فيطلب الدعاء منهم والمعونة، ويبين ظلامته، وظلامة أجداده (عليهم السلام). *وقوله: "وَأسْألُكُمْ بِحَقَّ اللهِ وَرَسُولِه" "أسألكم" السؤال هو صيغة تدل على الطلب. وإن قيل: إنّ الإمام أعلى درجةً من مواليه –بالعصمة والجعل الإلهي- فكيف يسأل العالي الداني؟ فُيقال: بأنّ السياق القرآني استخدم هذه الصيغة على لسان النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) من قبيل قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودة في القربى}، فها هو النبي (صلى الله عليه وآله) يسأل قومه -موالين ومعارضين- المودة في قربته. فكذا الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) في خطابه مستخدمًا إياها. -"بِحَقَّ اللهِ" حق الله تعالى هو الإيمان بأصول وفروع دينه، والتحلي بأخلاقه المنزلة على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي حفظها وبلّغها الإمام (عجّل الله فرجه الشريف). وقد جاءت روايات معبرة عن حق الله تعالى مبيّنةً أنّ ذلك الحق هو العبادة؛ فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "حقّ الله على العباد أن يعبدوه ، ولا يشركوا به شيئا"(1). وأخرى بيّنت أنّ حق الله تعالى هو العلم، والعمل بالعلم؛ روي عن زرارة بن أعين، أنّه قال: "سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام): ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون"(2). -"وَرَسُولِه" أما حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو طاعته، والالتزام بأحاديثه، ومن ضمنها حديث الثقلين، الذي اوصى فيه النبي (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بالثقل الاكبر -القرآن الكريم-، والثقل الأصغر -أهل البيت عليهم السلام- روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "إني تارك فيكم الثقلين ما إنْ تمسَّكْتُم بهما لن تضلوا؛ كتاب الله المنزل وعــترتي أهل بيتي"(3). -"وَبِحَقَّي فَإنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقَّ الْقُرْبَى مِنْ رَسُول اللهِ" وللإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حق خاص على مواليه، منصوص عليه من قبل جدّه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وهو حق القربى، فلقرابة الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)، ورجوع نسبه الطاهر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) شرافة، وتميز وميزة، توجب طاعته والإيمان به؛ حيث سبق وأن أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) بقربته امتثالاً لأمر إلهي، حيث قال تعالى على لسان نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ}(4). العلاّمة الطباطبائي (قدّس سرّه) في تفسيره لهذه الآية ذكر "أنّ الأمر الذي نَفَته الآية هو الأجرُ على تبليغ الرسالة والدعوة الدينيّة، وعن الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) أنّه خَطَب الناسَ بعد شهادة أمير المؤمنين بن عليّ (عليهما السّلام)، فقال: أنا من أهلِ البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: قُل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّةَ في القُربى)"(5). وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من أهل البيت (عليهم السلام)، فيشمله حق المودة في القربى. وهو (عجّل الله فرجه الشريف) يسأل الناس بحقه عليهم. *وقوله: "إِلاَّ أعْنَتُمُونَا وَمَنَعْتُمُونَا مِمَّنْ يَظْلِمُنَا" متعلق الدعاء او القسم: المعونة ودفع الأذى من الظالمين والاعانة، والمنع من أذى الأعداء يتحقق بالدفاع والنصرة عن أهل البيت (عليهم السلام). *وقوله: "فَقَدْ اُخِفْنَا" والمراد من ذلك ما خاف منه أهل البيت (عليهم السلام) من قبل أعدائهم، وهذا لا ينافي عصمتهم كخيفة النبي موسى (عليه السلام). والمتتبع لسيرة الأطهار محمد وآل محمد (عليهم السلام) يجد أنّ أعداءهم قد أخافوهم وروعوهم من أولهم إلى قائمهم. *وقوله: "وَظُلِمْنَا" قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُون}(6). فجميع أعداء محمد وآل محمد (عليه وعليهم السلام) كذّبوا الله تعالى وآياته؛ تحقيقًا لمصالحهم وأهوائهم. وأشد ظلامة مرّت عليهم (عليهم السلام) هي واقعة كربلاء، وما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام)، ونسائه، وعياله، كما هو واضح. *وقوله: "وَطُردْنَا مِنْ دِيَارنَا وَأبْنَائِنَا" كما طُرد الإمام الحسين وأهله (عليهم السلام) من مكة المكرمة، وطرد الامام الهادي وابنه العسكري من المدينة إلى سرّ من رأى. *وقوله: "وَبُغِيَ عَلَيْنَا" بغى الشّخص أي "تجاوَز الحدَّ واعْتَدى ، تسلَّط وظلَم"(7). وكلّ انسانٍ يعقل انّ أشد أنواع الظلم هو الجرأة على حدود الله التي أوضحها في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله) ، حيث قال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(8)، أي: أساء إلى حدود الله بالتعرض لسخط الله تعالى ومقته، ونيل سطوته. فحدودُ الله هي حدود محمّد وآله (عليهم السلام)، ومَن تعدّى على تلك الحدود فهو ظالمٌ لامحالة، وقد توعّد الله تعالى الظالمين بقوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}(9). ونِعمَ به سبحانه مِن حكيمٍ ما أعدله. *وقوله: "وَدُفِعْنَا عَنْ حَقّنَا" وأجلى مثالٍ لذلك هو دفع من اجتمع تحت السقيفة حق الخلافة عن الإمام علي (عليه السلام). ودفع معاوية ذلك الحق للإمام الحسن (عليه السلام). ويزيد عن الإمام الحسين (عليه السلام)، وهكذا سائر الأئمة (عليهم السلام). *وقوله: "فَأوْتَرَ أهْلُ الْبَاطِل عَلَيْنَا" لعلّ مراد الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) قطعونا عن أهلنا بالقتل، فأوتروا أهل البيت (عليهم السلام)، كما قالت السيّدة زينب (عليها السلام) للطاغية يزيد: "وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت"(10). *وقوله: "فَاللهَ اللهَ فِينَا لاَ تَخْذُلُونَا وَانْصُرُونَا يَنْصُرْكُمُ الله" وهذا مثيل طلب الإمام الحسين (عليه السلام) النصرة من مواليه في واقعة كربلاء، حينما قال: ألاّ من ناصر ينصرنا. فلعل طلب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) النصرة والمعونة من مواليه حتى يأخذ بثأر من رضي بذلك التخويف، والظلم، والطرد، والبغي، والدفع عن الحق من ذراري أعداء أهل البيت (عليهم السلام). وبما أنّ محمدًا وآل محمد (عليهم السلام) هم أشرف خلق الله تعالى، بل هم بابه تعالى، فتكون نصرتهم نصرةً لله عزّ اسمه وتباركت قدرته؛ فمن ينصر الله فقد نصره الله، قال تعالى في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(11). فظاهر الآية يقول بوجود طرفين، الله تعالى، وناصر الله. وهناك طرف ثالث هو أولياء الله؛ لقرينة خارجية منفصلة، وهي آية كريمة اخرى تقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}(12). فالنصرة فرع الطاعة، فكما أنّ طاعة الله تعالى ورسوله وأولي الأمر –أهل البيت عليهم السلام- واجبة، كذلك نصرتهم جميعًا واجبة؛ فلازم اللازم لازم. اذًا فالثلاثية في آية النصرة محتملة كما تحتمل الثنائية. وتتحقق النصرة أما بالقول، فلعلّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يطلب نصرتنا له بنقل كلامه حين ظهوره، وكيفية محاججته لأعدائه، أو بالرد القولي على كلّ من جحد الإمام ولم يحضر خطبته (عجّل الله فرجه الشريف). أو بالفعل، فلعلّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يطلب نصرتنا له بمحاربة الظالمين الجاحدين، ونصرة خليفة ربّ العالمين. أو بالقلب، فلعلّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يطلب نصرتنا له بالدعاء الخفي، وهذا الاحتمال وارد لمن يعيش في بلدةٍ مكتظة بمخالفين له في العقيدة، فيشكّل مجرّد التجاهر بالدعاء بالنصرة لإمام الزمان (عجّل الله فرجه الشريف) خطرًا عليه وعلى إمامه، فكيف به لو نصره قوليًّا، أو حتى فعليّا؟!. فتتعيّن عليه النصرة القلبية. وعلى كل حال، كأن الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) هنا يريد تذكير الناس بمظلومية أهل البيت (عليهم السلام)، ويُعلمهم أنّ الإيمان بهم إيمانٌ جمعي، فليس بمؤمن من آمن بالأئمة وأنكر القائم منهم (عليهم السلام)، ومن وقف على إمامة إمامٍ، ورغم ذلك فالإمام (عجّل الله فرجه الشريف) يعطيهم فرصة للإيمان والتوبة. __________________ (1) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي، ج 3، ص 10. ج 71، ص 3، 11. (2) المصدر السابق: ج2، ص113، ح2. (3) أمالي الطوسي: للشيخ الطوسي، ص161. (4) الشورى: 23. (5) تفسير الميزان: للعلامة الطباطبائي، ج 52، ص18. (6) الأنعام: 21. (7)ظ: القاموس المحيط. (8) البقرة: 229. (9) الكهف: 87. (10) زينب الكبرى (عليها السلام) من المهد الى اللحد: للسيد محمد كاظم القزويني، ص401. (11) محمد: 7. (12) النساء: 59. اللهم عجّل فرجه، وأيّده بالنصر، وانصر ناصريه، واخذل خاذليه، ودمدم على من نصب له، وكذَّب به.
العقائدبقلم: علوية الحسيني إنّ العلم كمال، وكل كمال لابد له من مسلك يعرج إليه، وسبيل العروج إلى تحصيل العلم ورسوخه في الذهن يتمحور ضمن مراحل من خلالها يتم تأسيس قواعد رصينة تفيد في ترسيخ، وسهولة حفظ، وتدبر العلم، نسرد بعض منها: 1- الغذاء لابد من تغذية الروح أولاً؛ إذ للنفس اقبالٌ وادبار، وتطبّع بالآثار، فقد تتراجع نفس الطالب نتيجة تأثرها بالابتعاد عن الله تعالى، أو بحسد الآخرين، أو بكثرة مراقبته لدرجات زملائه، مما يعطّل عليه عملية تحصيل العلم ورسوخها في الذهن. فلا بد من الارتباط الروحي الوثيق بالله سبحانه وتعالى؛ من خلال الدعاء، وأداء الصلاة، والتقرّب إليه بالوسيلة. ومن الأدعية المجربة التي تساعد على الحفظ ما روي عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): إذا أردت أن تــحفظ كل ما تسمع وتقرأ فادع بهذا الدعاء في دبر كل صلاة، وهو (سبحان من لا يعتدي على أهل مملكته، سبحان من لا يأخذ أهل الأرض بألوان العذاب، سبحان الرؤف الرحيم، اللهم اجعل لي في قلبي نورا وبصرا وفهما وعلما إنك على كل شيء قدير)(2). كما لابد من تغذية الجسد أيضًا بالغذاء الصحي؛ لتنشيط الذاكرة، وكتب الأطعمة كفيلة ببيان نوع الأغذية ذات الفيتامينات المساعدة على تنشيط الذاكرة، والحفاظ على حيوية الخلايا. 2- الكتابة. أي تقرير الدرس في دفترٍ خاص بأسلوب الطالب، على أن لا يخرج عن المفاهيم العلمية، مستعينًا بشرح الاستاذ، أو معتمدًا على كتب اخرى. وكثيرًا ما نجد الروايات تؤكد على كتابة العلم؛ حفاظًا على المعلومات من الفرار والنسيان؛ روي عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله): "قيّدوا العلم. قيل: وما تقييده؟ قال كتابته"(2)، فالتقييد إنما هو لأجل المنع من فرار المعلومة. ولا بد من الإشارة إلى ضرورة اطلاع استاذ المادة على كتابة الطالب –تقريره-؛ للتصحيح والتدقيق بصورةٍ دورية؛ حفاظًا على قلم الطالب من الخروج عن صلب الموضوع، أو خلط المطالب. 3- المباحثة وتتحقق باجتماع مجموعة من الطلاب، وقيام أحدهم بدور الأستاذ، فيشرح لهم الدرس، ويصغي إليه زملاؤه. ولهذه الوسيلة دور كبير في بث روح التعاون، ونبذ البخل العلمي؛ وتبادل المعلومات بين الطلبة، واستغلال الوقت بما هو نافع لهم كطلبة، وبناء شخصيتهم العلمية؛ حيث تؤهلهم للتدريس مستقبلاً، خصوصًا فيما إذا كان الطلاب قد قرروا درسهم؛ فيكون ما يشرحه لهم زميلهم مراجعةً لكن بطريقةٍ حتمًا مختلفة. 4- الدراسة. وهي أن يتولى الطالب دراسة كتابه بنفسه -بعد شرح الاستاذ، والتباحث فيها-، وقد تكون الدراسة شفوية -وذلك بقراءة الموضوع أكثر من مرّة-، وقد تكون تحريرية -بكتابة النقاط والتعريفات في مسودة لغرض الحفظ-. نعم، لابد من تهيئة ظروف مناسبة للدراسة تساعد الطالب على التركيز، وعدم التفكير بشيء سوى درسه، والوعد ببعض الهدايا التي تناسب مقامه وعمره، على أن لا تخرج عن حد النفع والحلال. 5- الـسؤال. بعض المطالب العلمية قد لا يرتفع الغموض عنها بمجرد شرح الاستاذ، إذ قد تنقدح في ذهن الطالب أسئلة لم يجد جوابًا لها بعد أن كتب درسه، وتباحث به، ودرسه، فيأتي دور السؤال ليحصل على جوابٍ يكون بمثابة المفتاح لفتح قفل المسألة الغامضة، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "إن هذا العلم عليه قفل، ومفتاحه السؤال" (3). ولابد أن يكون السؤال تعلّمًا، لا لمجرّد السؤال، أو لإحراج الاستاذ، إذ ليس من أخلاقيات الإسلام ذلك. كما ويجب أن يوجّه الطالب سؤاله للأستاذ في الوقت المناسب، وهو بعد الانتهاء من شرح الدرس؛ فمن غير اللائق مقاطعة الاستاذ؛ فلعل جواب السؤال يأتيه آخر شرح الدرس، فلينتبه لذلك، وليحترم مقام استاذه. _______________________ (1) بحار الأنوار: 83/ 9. (2) منية المريد: 340. (3) بحار الأنوار: 1/ 198. وفق الله تعالى طلبتنا وطالباتنا للنجاح الباهر
اخرىبقلم: علوية الحسيني إمهالٌ لا إهمال إنّ المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أنّ الله تعالى يمهل بعض أهل الباطل، وأخرى يعجّل لهم العقاب، وليس ذلك بتناقضٍ؛ لحكمته تعالى. فكل آيةٍ يفهم منها إمهال الله تعالى لعباده، نجدها مقرونة محددة بإطار زمني محدد لذلك الإمهال. وفي قبال ذلك لا توجد آية واحدة تنص على إهمــال الله تعالى لأهل الزيغ والبطلان؛ إذ ذلك منافٍ لحكمته. وسوف تضيء وتحيي لنا النهجَ الآياتُ القرآنية، من خلال النقاط التالية: ■النقطة الأولى: قواعد كليّة إنّ المتأمل في الآيات القرآنية التي تطرقت إلى الإمهال يستخلص منها قواعد كليّة، منها: 1- الإمهال مذكور لفظًا أو بما يرادفه. 2- الإمهال يعطيه الله تعالى لأهل الباطل. 3- الإمهال مؤطر بفترةٍ زمنية محدودة. 4- الإمهال لا ينافي عدل الله سبحانه وتعالى وحكمته. ■النقطة الثانية: تطبيقاتٌ جزئية إنّ المتأمل في الآيات الكريمة يجد أنّ الله تعالى عبّر عن لفظ الإمهال بنفس اللفظ، واخرى بلفظٍ مغاير، وهو لفظ (الذر: أي الترك)، وجميع تلك الآيات تنطبق عليها القواعد الكليّة الأربع أعلاه، نتبرّك ببعض منها ضمن النقاط التالية: •أولاً: قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}(1)، وكقوله تعالى{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا}(2)، ونستنتج من هاتين الآيتين: 1- الإمهال واضح بيانه في سياق الآيتين. 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل، ومصداقهم حسب سياق الآيات هم المكذِّبون والكافرون. 3- الإمهال محدد بسقفٍ زمنيٍ محدد، لم تشخصه الآية، فنجدها عبّرت عنها بالقليل. فالرويد: أي "القليل"(3)، فيكون معنى أمهلهم رويدًا، كمهِّلهم قليلا. وهذه القلّة الزمنية محددة بمشيئة الله تعالى؛ إذ متى شاء أنزل على اولئك العقاب، وأنهى مدّة الإمهال. 4- إنّ إمهال الله تعالى لأولئك المكذِّبين والكافرين لا ينافي عدله وحكمته تعالى؛ إذ ليس معنى الإمهال الإهمال، بـل لرحمته بعباده يمهلهم فترة، ويحلم عليهم، لعلّهم يتوبون، فإذا لم يتوبوا جرى حكمه عليهم. •ثانياً: قوله تعالى {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُون} (4)، ونستنتج من هذه الآية: 1- الإمهال جاء بلفظ مغاير، إلاّ أنّه يؤدي نفس معناه، حيث جاء في تفسير هذه الآية: "أمر برفع اليد عنهم وتركهم وما هم فيه من الباطل وهو كناية عن النهى عن الجدال معهم والاحتجاج عليهم"(5). 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل، فمن يكن تفكيره ومنطقه محددًا بحدود ما يأكل، وما يتمتع به من ملذات الحياة الدنيا، ويعش في عالم الآمال، دون سعيٍ حثيثٍ منه لأن يطابق ما يقوم به مع الشرع القويم، فهو من أهل الباطل؛ إذ تفكيره قريب من التفكير البهيمي، وأبعد عن التفكير الإنساني، فيكون الجدال معه عقيمًا، وتركه حلاً سليما؛ ولهذا أعرض الله تعالى عنهم وأمـهلهم، لعلّهم يرجعون إلى طريق الحق. 3- الإمهال محدد بسقفٍ زمنيٍ محدد؛ فأكلهم، وتمتعهم، وأمانيّهم، محــدود بـحياتهم، فما إن دقت ساعة صفر حياتهم، وفارقوا عالم دنياهم، انتهت فترة إمــهالهم التي أمهلهم الله تعالى. 4- إنّ قوله الله تعالى في ذيَّل الآية (فسوف يـعلمون؛ يدلَّ على عدله وحكمته سبحانه، وهذا يعني أنّ اولئك إذا لم يرجعوا للطريق القويم في حياتهم فسوف يدركون أحقية الطريق الذي نبذوه، وبطلان ما سلكوه، إذ من عدله تعالى أن يعاقب المسيء، ويثيب المطيع، وعقابه تعالى لهم إما في الدنيا والبرزخ والآخرة، أو في البرزخ والآخرة، فظهور الآية لا يعطينا تحديد الوقت الذي ينزل الله تعالى غضبه على اولئك، وعندها نقف. •ثالثًا: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُون}(6) نستنتج من هذه الآية: 1- الإمهال جاء بلفظ مغاير، إلاّ أنّه يؤدي نفس معناه، حيث جاء في تفسير هذه الآية:" أمر بمعنى اتركهم"(7) 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل؛ لأنه وحسب ظاهر الآية الكريمة أنّ الممهَلين كانوا يستهزؤون بيوم المعاد. 3- الإمهال محدد بسقفٍ زمنيٍ محدد، وهو ما أشار إليه الله تعالى بكلمة (يومهم) 4- عدالة الله تعالى واضحةٌ جليّة بتنفيذ العقاب بحق أولئك؛ بقرينةٍ لفظيةٍ ادرجت في ذيل الآية (فيه يصعقون)، "والمراد باليوم الذي فيه يصعقون يوم نفخ الصور الذي يصعق فيه من في السماوات والأرض وهو من أشراط الساعة قال تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض"(8). فيوم صعقهم هو يوم موتهم، وبعد موتهم يتجلّى لهم العدل الإلهي، فبعد أن أمهلهم ولم يستجيبوا آن أوان عقابهم؛ نتيجة استهانتهم واستهزائهم بما أُمروا. •رابعًا: قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون}(9) نستنتج من هذه الآية: 1- الإمهال جاء بلفظ مغاير، إلاّ أنّه يؤدي نفس معناه، فالذر هو الترك. 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل؛ لأنّ من يكون عدوًا للأنبياء (عليهم السلام) فهو شيطان إنسيًا كان أو جنيّا. 3- جزمًا أنّ إمهالهم محدد بفترة زمنية محددة، وإن لم تشر الآية إلى ذلك، فعقلاً، وبمقتضى حكمته تعالى أنّه يمهل الضالين مدّة محددة ثم يعاقبهم. 4- عدالة الله تعالى أيضًا مجزوم بتحققها عقلاً، حيث وعد الله سبحانه المضلين بالعقاب، ولن يخلف الله وعده؛ لأنّ خلف الوعد قبيح، والقبيح لا يفعله الله (جلّ جلاله) •خامسًا: قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ۚ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون}(10) ونستنتج من هذه الآية: 1- الإمهال جاء بلفظ مغاير، إلاّ أنّه يؤدي نفس معناه، فيذرهم بمعنى يتركهم، يمهلهم. 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل؛ لأنّ مَن يكون ضالًا فهو من أهل الباطل. 3- مدّة الإمهال محددة أيضًا؛ فطغيان اولئك الضالين، وعدم امتثالهم لأحكام الله تعالى، وجحودهم به سبحانه إنّما يكون محدودًا في عالم الدنيا فقط، فالدنيا لم تدم للمستقيمين، فكيف تدوم للضالين ؟! وما تمديده لمدّة امهالهم إلاّ لـحكمة هو سبحانه أعلم بها. 4- عدالة الله تعالى متحققة رغم امهاله لأولئك الضالين المدّة، للسبب أعلاه في النقطة الرابعة. •سادسًا: قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون}(11) 1- الإمهال جاء بلفظ مغاير، إلاّ أنّه يؤدي نفس معناه، فيذرهم بمعنى يتركهم، يمهلهم. 2- الإمهال كان متعلقًا بأهل الباطل، فمن تعرض عليه الحجّة ويخوض في الجدال بأحقيتها، ويتخذ من الحياة الدنيا لعب ولهو، فهو من أهل الباطل. 3- مدّة الإمهال محددة أيضًا، فاليوم الذي يوعدون به هو يوم القيامة، وهو سقف زمني محدود، ولحكمته تعالى يمهلهم. 4- عدالة الله تعالى متحققة رغم امهاله لأولئك اللاهين المجادلين المدّة، للسبب أعلاه في النقطة الرابعة السالفة الذكر. ■النقطة الثالثة: لماذا الإمهال؟ من خلال صفات الله تعالى –كالرحمة والحكمة- يمكن أن يُجاب عن هذا السؤال، فيقال: يــمهل أهل الباطل رحمةً منه بهم، ويمنحهم بذلك فرصةً اخرى لـيتوبوا ، وكأنه تعالى يخاطبهم فردًا فردًا: يا عبدي سآخذ بيديك المتعبتَين والملوثتَين بالذنوب، وأكسيك بثياب العفو والمغفرة. يا عبدي: قم وادخل مع كل الأمل من باب التوبة، وضع قدميك في مدينة الاستغفار، واغسل بدنك في كوثر الدموع من خوف الله تعالى والشوق له، عندها ستنعم بأشعة العفو الذهبية، وستتذوق طعم حلاوة المناجاة الخشوعية. ولا شك في عظم الحكمة في ذلك، فأن يفعل الله تعالى بالعبد العاصي ما يرجعه إلى الطريق القويم لهو أمر حكيم. والأثر بعد التوبة يعود بالنفع إلى العاصي لا إلى الله تعالى؛ إذ هو الغني عن توبة عباده، إلاّ أنّه لرحمته بهم يريد لهم الكمال، "روي عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عَلَيهِ السَّلام) يَقُولُ: إِذَا تَابَ الْعَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ الله فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَقُلْتُ وَكَيْفَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ يُنـــْسِي مَلَكَيْهِ مَا كَتَبَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُوحِي إِلَى جَوَارِحِهِ اكْتـــُمِي عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ وَيُوحِي إِلَى بِقَاعِ الأرْضِ اكْـــتُمِي مَا كَانَ يَعْمَلُ عَلَيْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فَيَلْقَى الله حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ"(12) ■النقطة الرابعة: التفاتة عقائدية بعد الإمهال لو تاب العبد، وستر الله تعالى عليه ذنوبه، نواجه روايات تقول: إنّ الله تعالى يفرح بتوبة عبده، حيث روى "عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عَلَيهِ السَّلام) يَقُولُ: إِنَّ الله تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا، فَالله أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا"(13). فكيف يفرح الله تعالى؟ وهل يفرح كفرحنا؟ أم يجب تأويل هذه الكلمة؛ لتنزيه الله سبحانه عن أن تكون له حالات نفسانية يفرح ويحزن ويغضب ويرضى بها؟ الجواب: تعتقد الشيعة الامامية أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، ليس جسمًا حتى تطرأ عليه هذه الانفعالات؛ لأنّ ذلك يلزم منه تغيّر ذاته سبحانه، والمتغيِّر محتاج، والمحتاج مخلوق، والله جلّ جلاله خالق وليس بمخلوق، ولا يجري على نفسه ما أجراه على مخلوقاته. إذًا فالانفعالات النفسية –ومنها الرضا، أو الفرح- تطرأ على المخلوقات، وحاشا الله سبحانه من الاتصاف بها. روي "عن هشام بن الحكم أن رجلا سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الله تبارك وتعالى له رضا وسخط؟ فقال: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أن الرضا والغضب دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال، معتمَل[منفعل يتأثر من الأشياء، وتقدير الكلام: لأن المخلوق معتمل]، مركب، للأشياء فيه مدخل وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه، واحد، أحدي الذات، وأحدي المعنى، فرضاه ثـوابه، وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال، فإن ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى القوي العزيز الذي لا حاجة به إلى شيء مما خلق، وخلقه جميعا محتاجون إليه..."(12). إذًا بقول الإمام الصادق (عليه السلام) عن أجداده محمد وآله (عليهم السلام) نهجت وتنهج الشيعة الامامية في عقيدتها بالله تعالى، وحيث أنّ الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بلفظة (رضا الله، أو فرح الله) على ظاهرها، وإنّما تم تأويلها إلى (ثواب الله عزّ وجل)؛ حفاظًا على توحيده سبحانه، فكانت هذه هي عقيدتنا. وهذه التفاتة عقائدية مهمة أضاءت للعبّاد طريقا، وأحيت في النفوس توحيدًا صادقا. __________________________ (1) المزمل: 11. (2) الطارق: 17. (3) الميزان في تفسير القرآن: للعلاّمة الطباطبائي، ج20، ص261. (4) الحجر: 3. (5) مصدر سابق، ج12، ص97. (6) الطور: 45. (7) مصدر سابق، ج19، ص23. (8) المصدر نفسه. (9) الأنعام: 112. (10) الأعراف: 186. (11) الزخرف: 83. (12) التوحيد: للشيخ الصدوق، ب26، ص169-170، ح3. (12) الكافي: للشيخ الكليني، ج2، باب التوبة، ح1. (13) المصدر نفسه، ح8. إلَهِي فَقَدْ ظَاهَرْتَ الْحُجَجَ، وَأَبْلَيْتَ الاعْذَارَ، وَقَـدْ تَقَدَّمْتَ بِـالْوَعِيْـدِ وَتَلَطَّفْتَ فِي التَّرْغِيْبِ، وَضَرَبْتَ الامْثَالَ، وَأَطَلْتَ الاِمْهَالَ، وَأَخَّرْتَ وَأَنْتَ مُسْتَطِيعٌ لِلْمُعَاجَلَةِ، وَتَأَنَّيْتَ وَأَنْتَ مَليءٌ بِالْمُبَادَرَةِ، لَمْ تَكُنْ أَنَاتُكَ عَجْزاً، وَلا إمْهَالُكَ وَهْناً، وَلاَ إمْسَاكُكَ غَفْلَةً، وَلاَ انْتِظَارُكَ مُدَارَاةً، بَلْ لِتَكُونَ حُجَّتُكَ أَبْلَغَ، وَكَرَمُكَ أكمَلَ، وَإحْسَانُكَ أَوْفَى وَنِعْمَتُكَ أَتَمَّ، فَلَكَ الحَمْدُ حَمْدَ الشّاكِرِيْن.
النكات العلمية في القرآن الكريم