السجين المنتصر

بقلم: محمد حسن آل حيدر من الأسئلة التي كثيرًا ما نواجهها حين نتعرض لحياة أي واحد من القادة العظماء الذين غيروا مجرى التاريخ: ما هو الدور الذي قام به لإحداث التغيير هذا التغيير؟ ومما لا يخفى على ذي لب أن إمامنا الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السلام) من أعظم القادة، فما هو دوره التغييري وما هي خطواته العملية للتغيير؟ حين ننظر لبداية إمامته والظروف المحيطة بها نجدها تتسم بقدر عالٍ من الخوف على شخص الإمام (عليه السلام) وعموم أتباعه من بطش السلطة العباسية الغاشمة التي قتلت أباه الصادق (عليه السلام) وعزمت على قطع هذه السلسة النبوية المباركة بقتل خليفته، فقد أرسل أبو جعفر "المنصور" إلى واليه على المدينة محمد بن سليمان بأن يأخذ من أوصى إليه الإمام الصادق (عليه السلام) ويقتله، فلما فتحوا وصيته (عليه السلام) وجدوا فيها خمسة أسماء (ابنه عبد الله الأفطح، ابنه موسى الكاظم (عليه السلام)، زوجته حميدة المصفاة، الخليفة أبو جعفر المنصور، والوالي محمد بن سليمان) فلم يكن من سبيل لقتل هؤلاء الأوصياء. حين نرى أن الإمام الصادق (عليه السلام) يستخدم هذا التكتيك لإخفاء الإمام من بعده، نعرف قدر الخطر الذي كان يحيط به وبخليفته (صلوات الله عليهما). وقد اعتمد الإمام (عليه السلام) على فهم بعض كبار أصحابه - كأبي حمزة الثمالي - لمقصده ومعرفتهم بأصول تنصيب الإمام، إذ اتجهوا مباشرة ووجهوا من عوام الشيعة تدريجيًا إلى الائتمام بالإمام الكاظم (عليه السلام)، فالخليفة لا يمكن أن يكون من غير السلالة الطاهرة من أبناء علي وفاطمة (صلى الله عليهما وآلهما) ولا يمكن أن يكون ظالمًا ولا امرأة ولا مصابًا بعاهة خَلقية كالفطح (وهو عرض في وسط الرأس والارنبة حتى تلتصق بالوجه كالثور الأفطح)، وتحيّر بعضهم فذهب إلى الأفطح الذي استغل الفرصة ليدّعي الإمامة لنفسه، فاختبروه ببعض المسائل الفقهية فوجدوه جاهلًا فأرسلوا إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) من يختبرونه فوجدوه بحرًا لا ينفد من العلم والتقوى وفيه علائم الإمامة كلها، ولكنه برغم كل ذلك كان (عليه السلام) لا يستطيع التصريح بإمامته حينذاك ويكتفي بالإشارة إليها بالكنايات. وبهذه الطريقة انتشرت إمامته شيئًا فشيئًا بين عموم الشيعة واستقرت في النفوس. هكذا ابتدأت إمامته (صلوات الله عليه)، ومنها ننتقل مباشرة إلى يوم شهادته وتشييعه في بغداد (أقوى عواصم التاريخ الإسلامي في زمن أقوى وأعتى حاكم عرفه المسلمون، العاصمة التي بنيت على جماجم الشيعة والعلويين) بالبكاء والعويل، وتعطيل سكك بغداد كلها في تشييعه، ثم دفنه في مقابر قريش (المقابر الرسمية للعائلة الحاكمة ولكبار شخصيات الدولة)! كيف صنع الإمام (عليه السلام) ذلك؟ أو بالأحرى: ماذا صنع في أعوام إمامته الخمس والثلاثين ليقلب ذلك الخوف إلى قوة؟ كيف جعل هارون (حاكم نصف الكرة الأرضية وأحد أقوى ملوك التاريخ) يخاف من أن يعرف الناس أنه سمّه فيدُخل عليه الناس ثلاثة أيام إلى السجن ليلتقوا به ويشهدوا على أنهم لم يروا فيه بأسًا؟ هل كان له جيش يخيف السلطة؟ هل كان له حراك سياسي (بالمعنى المتعارف عند طلّاب السلطة)؟ بالتأكيد لا.. فقد كان (عليه السلام) يقتصر على الافتاء وتعليم الناس دينهم بكل هدوء، ويقدّم للسلطان تطمينات كبرى تثبت له أنه أبعد ما يكون عن منازعته سلطانه. كان (عليه السلام) يقدّم أعلى أنموذج للتقية (دين آبائه وأجداده)، فصنع بها ما لم تصنعه سيوف إخوته وأبناء عمومته الثوّار، صنع كيانًا خاصًا للشيعة كمذهب مستقل فكرًا وعقيدة وفقهًا، بعد أن كان التشيع في نظر عموم المسلمين مجرد محبة لأهل البيت (عليهم السلام) وأنهم (صلوات الله عليهم) مجرد علماء كغيرهم من العلماء وأن خلافهم ومن تبعهم مع غيرهم وأتّباعهم مجرد خلاف علمي، حتى أن الحمالين الذين نادوا على جنازته (صلوات الله عليه) بالاستخفاف وصفوه بأنه إمام الرافضة، مما يشير بوضوح إلى أنهم كانوا يرون التشيع كمذهب مستقل. مع ملاحظة أنهم (صلوات الله عليهم) لم يفصلوا الشيعة عن المجتمع الإسلامي الكبير، فكان أشبه ما يكون بالانتشار دون ذوبان. وقد بنى (عليه السلام) -بما روي عنه من أحاديث شريفة- أسس ومبادئ هذا المذهب الذي أراد له الله تعالى البقاء والخلود لقرون دون تغيير في أسسه ومبادئه، وهذا أمر طال ما أثار استغراب المتتبعين للأديان والمذاهب (الدينية والفكرية) التي اجتمعت على أن تتغير مبانيها وأسسها مع تغير الزمان. وبهذه الطريقة (التقية) نجد ذلك السجين المحاصر المضطهد يقوّض أركان تلك الدولة الجبارة وذلك السلطان الذي يقول للسحابة: سيري فأينما تمطرين عاد إليّ خراجكِ. ومن هنا نعرف وجه تشنيع بعض المغرضين على التقية ومحاولة حرفها عن مسارها، لأنهم عرفوا أنها السلاح الأقوى للشيعة (اعزهم الله) الذي أورثه إياهم أئمتهم (عليهم صلوات الله). فالحذر كل الحذر من هذه الأصوات.

اخرى
منذ 4 سنوات
468

أريج التوبة مع الإمام الكاظم (عليه السلام) (١)

بقلم: عبير المنظور قارورة عطر... في دكان للعطور، كنتُ مع رفيقاتي القوارير أنتظرُ من يشتريني... وفي أحد الأيام اشتراني شاب من أثرى أثرياء بغداد... وكان يبدو عليه الاضطراب، وطيّبَ بعطري ورقة كان مكتوبًا عليها: اسم الله تعالى، وهو يقول (سيدي اسمك ها هنا ملقىً على الأرض؟!)... فعلمتُ أنه وجد هذه الورقة على الأرض، ثم شاهدته وهو يدفن الورقة في إحدى فتحات بيته كي لا تكون في معرض التدنيس مرة أخرى، فعجبتُ من أمر ذلك الشاب المعروف بسوء السمعة والسلوك. وازداد تعجبي أكثر، حينما رأيته في نفس تلك الليلة وقد أخبره قائل في منامه (يا بشر بن الحارث رفعتَ اسمنا عن الطريق وطيّبته، لأُطيّبنَّ اسمك في الدنيا والاخرة)... فصرتُ أترّقب كيف يطيّبُ الله اسم شاب معروف باللهو والفجور وارتكاب المحرمات؟! ومرّت الأيام وهذا الشاب العابث يلهو كعادته بين الغانيات والخمر والقمار وآلات الطرب والمعازف... وفي إحدى لياليه الحمراء، استبطأ جارية له خرجت لترمي النفايات، وسألها عن علّة تأخرها، فأجابت: رأيت رجلًا سألني سؤالا غريبا عنك سيدي، قال لي: سيدك حرٌ أم عبد؟! فعجبتُ لأمره كيف لا يعرفكَ، فقلت له: بل حر. قال لي: (صدقتِ لو كان عبداً لخاف من مولاه). وهنا رأيته قد تغيّر لونه وانتفض راكضاً وراء ذلك الرجل الذي عرفه بِشْر، وعرفته أنا أيضاً من طيب موعظته... إنه الإمام الكاظم (عليه السلام)، فعرفتُ أنه هو الطبيب الرباني الذي حَبَا الله به بِشرا، بأن جعل الإمام الكاظم سبباً لهدايته.... عاش بِشر لحظة الثورة على الذات والانقلاب الروحي بتأمل بسيط بكلمات الإمام، فسمع الموعظة بقلبه فأحيته بلحظة حاسمة ومصيرية، غيّرتْ مسار وواقع حياته، فاتخذ قراره بسرعة وخرج حافياً ليلحق بالإمام ويعلن توبته على يديه الكريمتين تاركًا وراءه غر الشباب وغفلته وثروته وجاهه... وتفرغ للعبادة وأصبح جليساً للعلماء، حتى أصبح بِشر الحافي من كبار الزهّاد والعّباد في عصره... وفعلًا شهدتُ كيف طيّبَ الله اسم بشر في الدنيا قبل الآخرة، حتى توفي في بغداد عام ٢٢٦ للهجرة عن عمر ٧٥ عامًا. نعم أيّها الإنسان... إنه بِشر الحافي الذي طيّبَ اسم الله في الدنيا فطيّب الله ذكره في الدنيا والآخرة، تلك هي المعادلة التي قلبت حياة بِشر. حياة بِشر كحياة العديد من الشباب قبل الكبار، يعيشون الغفلة والابتعاد عن الله، فلا تيأس من رحمة الله وتُبْ، فقد يكون لك عمل خير خالص لوجهه تعالى، يغير مجرى حياتك بتوفيق ذلك العمل وأثره الوضعي في الدنيا. كُنْ كبِشر الحافي... واتخذ في حياتك قارورة عطر معنوي... وطّيب بها نيّتك وأخلاقك وسلوكك وعبادتك مع خالقك وتعاملك مع الخلق خالصاً لله تعالى... وطيّبْ بها صورة دين الله في زمن اختلطت فيه القيم والمعايير وأصبح الإلحاد أقرب إلى الناس من الإيمان... وسترى كيف يطّيبُ الله حياتك في الدنيا قبل الآخرة... فحياتك ومصيرك يحددها ما تختار من قارورة عطر!

اخرى
منذ 4 سنوات
1450

نور من وسط الظلام...

بقلم: ريحانة المهدي كيف أبدأ وماذا أكتب؟ وقد عجز قلمي عن الكتابة! تاهت الكلمات والعبارات... غصت في بحر المآسي والزفرات... تألمت على ما جرى لإمامٍ وقائد عظيم صابرًا على تلك الطامورة الظلماء… تلك الطامورة التي لا يعرف ليلها من نهارها... رغم أني –أنا الطامورة- كنت ظلامًا بلا فائدة ولا امتنان... كان نور يسطع... والإمام يسجد ويركع لم يكن لي تأثير ووجود…والإمام ذائب في حب المعبود …في صلاة طويلة وركوع وسجود... كانت عبادة ذات تأثير تبكي العيون... تنير ظلمة القلوب الشديدة... فأصبحت حزينًا... لأنه ليس لي تأثير... فبدأت أُفكر وأستنير… فقد كان نور الإمام له تأثير… وبدأ العشق في قلبي يسير… لإمام السجود الطويل والدعاء ذي الكلمات سريعة التأثير... ونوره الذي أضحى يغطي ظلمتي البائسة... في تلك الليالي الحالكة رغم أنه كان في السجن المظلم ومقيدًا بالقضبان... لكنه حول ذلك السجن والظلام إلى صلاة ودعاء.... لم يضيع تلك السنين هباء... كان يشق بصبره حتى الظلام... وينبعث من نوره الإيمان.. ويرتل بصوته الشجي آيات القرآن... (كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك...) فهل يا ترى نحن مثل هذا الإمام ، الذي حوّل الحزن والألم والظلام إلى نور وإيمان وتقرب للرحمن... واعتبر السجن أفضل مكان... ليتفرغ لرب الأكوان، ويحمد الله ويثني عليه رغم تلك القيود والأحزان... هذا هو الإمام طويل السجود موسى بن جعفر (عليه السلام)

اخرى
منذ 4 سنوات
2119

خطوات وقيود

بقلم: سراج الموسوي نحث الخطى، لنلثم أعتابك سيدي تقبيلا؛ تتطاير حبات الرمل وذرات التراب من بين الأقدام معلنة أن المحب قادم، نطوي المسافات رغم أنوف الحاقدين، نسير على الرؤوس لا الأقدام إجلالًا وإكبارًا للمطهر من الدنس تطهيرًا، تلهج الألسن باسمك سيدي، يا باب الحوائج الى الله، نتعلم منك الصبر، وكظم الغيظ، والثورة على الطغيان، بسجدةٍ طويلةٍ نبلُّ بها تربة السجود… نسير وتتراءى لنا القيود التي هدّت عرش الظالم، كل خطوة تحضنها عَبرة وعِبرة… عَبرة على مظلومٍ لم يطوِ بين حناياه إلّا الخير لكل البشر، وعِبرة لكل ظالم بأنّ جبروته لا يدوم، ويبقى أبد الدهر ملعونًا. سجن وقيود وسُمّ، أهذا الجزاء لأسياد الدنيا وأُمرائها، وخير شباب الآخرة ومالكي جنانها؟! لا خير في دنيا أهانت سيدًا وأمّرت ْ هارونًا... أيا بن الشرفاء، علّمت أسياد الدنيا وملوكها أن المُلك مُلك القلوب لا ملك العروش، وأن الطاعة إنما هي طوعية لا جبرية، أفهمْتَ الدنيا يا بن الطيبين، أن طاعة الله لا يحدّها مكان أو زمان ، أو رخاء أو شدة، لقد جعلت السجن واحة غنّاء بطاعة الرحمن رغم القيود، وجعلت الطامورة الظلماء نورًا يشع إلى عنان السماء بسجدة خاشعة. سلامي لك سيدي وأنت ساجد بأثقال من حديد، تشكر بها ربك أن استجاب دعاءك في أن تتفرغ لعبادته، سلامي لك سيدي وأنت محمول على رؤوس لم تضمر سوى الغدر والضغينة لكل خير…سلامي لك مسمومًا قطعت أحشاءك يدٌ مغلولة إلى عنقها... سلامي لك موصولًا ما دامت الدنيا، وأزهرت الآخرة لوصولك إليها، والسلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا.

اخرى
منذ 4 سنوات
2635

ندمٌ متأخر

بقلم: حنان الزيرجاوي هو جمادٌ... نعم، ولكنْ في صمت الجماد كثير من الكلام... كان عليه أن يسبّحَ تسبيحة الزهراء (عليها السلام) علّه يفقه الحياة، أتى حانيًا عنقه من الذل والهوان، حتمًا سيُدار عليه الحُسبان، هو بيد مَن كان وبظهر مَن يلوّع كان، يا لَجرمي! يا ليت ما كان لم يكن! يتقلّبُ كذبيحةٍ على دكّة الذبح من فرط تفكيره، يحاول أن يُلقي معاذيره، تعب أخدعه من النظر إلى الباب التي كانت وراءها فاطمة البتول، ماذا يقول الآن وهو بين يدي الله والرسول. تعالوا نسأل الخيوط والسلاسل، تعالوا نسأل يومًا فيه تهدمت المنازل، تعالوا لساعة فيها العيون ذوابل. نعم، هكذا سمع النذير يقول، فماذا يجيب الرسول؟! أخذ يتلعثم ويقول بتهدّج: لولد فاطمة أقدم الاعتذار، لأنني مأمورٌ بيد الذي اغتر بالحياة أيما اغترار، ضربت فاطمة فهاجت وماجت البحار. لفاطمة كنت شاهدًا على ظلمها من الأشرار، أسقطوا محسنها وليس له من يُجار، "وا محمداه" كان نداؤها سيدة الوقار، وكادت السماء أن تنهار. ضَربْتُ فاطمة ضربة، كادت بنفسي أن تموت حسرة، كنتُ أتلوّى عليها ضربًا وهي تناولني بيدها الرؤوم، رؤوفة حتى هنا يا سيدتي، وا خجلتي وا خجلتي، وأخذ السوط بنفسه يلوم... ثم نادى النذير: النار، علّها تقول شيئًا لبضعة المختار، فلما رأتها أكبرتها والدمع تحجر في عينيها، فقالت لها بنت الرسول فاطمة: أو هل تعرفين معناي؟ أنا المفطومة عن الخلق، أنا المفطومة ووُلدي عنكِ قد قال الله مولاي، أنا بنت من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا بنت رسول الملك الديان، أنا التي عجز عن وصفها البيان... أتعلمينَ أي دار ستحرقين؟ أتعلمين الآن أي جسد ستلهبين؟ تصاعدت النيران بلظاها، كأن لهيبها أيدٍ تلطم بنفسها وتستغيث مولاها... وهي تردد: اقتحمت الدار ولا علم لي، صدقيني، هؤلاء الأوغاد هم من أوقدوني، صدقيني يا سيدة نساء العالمين، وبعد ما سمعتكِ تستغيثين، صرخت (اللهم اجعلني بردا وسلاما على فاطم كما جعلتني بردا وسلاما على إبراهيم) فضجت النيران بالعويل والصراخ، وراحت تتمرغ بالتراب لتطفئ نفسها، علّ التراب يطهر جرمها...

اخرى
منذ 4 سنوات
804

قاعة التعارف

بقلم: غيداء عبد الأمير ذات يوم من الايام جاءتني دعوة من أحد الاصدقاء لحضور حفل يضم العديد من الشخصيات المهمة التي سوف تدلي بسيرتها الذاتية، لم أكن متحمسة جدًا لتلبية تلك الدعوة إلا انني من باب الفضول ارتأيت أن أحضر... رأيت القاعة مكتظة بالحضور، إلا انه ومن حسن حظي فقد حصلت على مقعد في الصف الأول، وقلت في قرارة نفسي: سيكون حظي الأوفر في رؤية من حضر من هذه الشخصيات. بدأت أتطلع وأجول بناظري في مسرح القاعة، حيث وُضعت عليه منضدة خشبية فخمة، عليها باقة من الورد كبيرة الحجم وذات ألوان جميلة، ووضعت أيضا ثلاثة كراسي فاستنتجت أن المشاركين ثلاثة... بعد مرور برهه قصيرة من الزمن وبعد أن أخذ كل واحد من الحضور موقعه، ساد القاعة هدوءٌ، ودخل المشاركون، وكلٌّ اخذ موقعه... انتابني شعور رهيب من الخوف لشدة هيبة المشاركين الحاضرين، فنظرت للأول فإذا به يلبس لباسًا عسكريًأ وكان ذا ملامح حادة، إلا أنه كان مكللًأ بهالة من الوقار الشديد، أما الضيف الآخر فكان وجهه مفعمًا بالطاقة، وتجلله هالة من نور عرفت لاحقًا انها من كثرة الدعاء له، أما الضيف الثالث فكان بشوش الوجه، وترتسم على وجهه ابتسامة كانت تدخل في النفوس، يفيض كثيرًا من التفاؤل والراحة حيث رأيت حتى باقة الزهور الكبيرة الموضوعة على المنضدة الخشبية تهفو وتميل إليه.. هنا بدأ عريف الحفل بافتتاح الحفل بأي من الذكر الحكيم وكان صوت القارئ يتسم بالخشوع حيث تلى آيات من سورة المدثر وشدّت سمعي تلك الآية الكريمة: (( ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ (31) حيث جلت بناظري إلى الضيوف الحضور وأصابتني رعشة، وبدأت كل اعضائي ترتجف في تلك اللحظة، وبدأ قلبي يخفق سريعًا، فقلت في نفسي: تمالكي أعصابك فلم تري بعد ما يخبئه المشاركون من أسرار. استجمعت قواي واكمل القارئ الآيات الكريمة وعند انتهائه رجع إلى مكانه ،وبدأ عريف الحفل يرحب بالمشاركين مجددًا وأنا متشوقة لمعرفة من هم؟ وماذا سيقولون من أسرار؟ فبدأ بالترحيب بالأول وطلب منه ارتقاء المنصة والتعريف عن نفسه وكانت البدلة العسكرية قد رسمت مبدئيًا صورة عن شخصية هذا الضيف، ارتقى المنصة وساد القاعة هدوء بحيث لو وقعت إبرة على الأرض لسُمع صوتها، بدأ المشارك الأول بالتعريف عن نفسه فقال: اسمي (مطر)! قلت في قرارة نفسي: مطر! انطباعي عن المطر انطباع كل شخص، وهو ذلك الماء النازل من السماء، لم أتوقع هذا الاسم لهذا الضيف، إلا أنني كنت مخطئة جدًا بسبب عدم إلمامي بما يحمله هذا الاسم من معنى، فعندما أكمل حديثة انكشفت الحقائق المخفية ومما قاله: أنا جندي من جنود الله، مطيع ومنفذ لأمر خالقي جل وعلا، وزادني شرفًا أنني ذُكرت في كتابه المنزل ،وأشار إلّي في قرآنه الذي لا ريب فيه في عدة مواضع ومنها: ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)) (٨٤) سورة الاعراف ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ))(٨٢) سورة هود ((أو كصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ))(١٩)سورة البقرة ألا ترون أنني كنت ذلك العذاب لكل من سولت له نفسه أن يقف بوجه أوامر خالقه؟! نعم أنا ذلك الجندي، صوري متعددة، فتارة أكون حجارة، ومرة أكون (صيّبًا) (١) ، الا ان النتيجة واحدة وهي: دمار من حكم على نفسه بالدمار لان الله سيدي وخالقي ليس بظلام للعبيد. رجع الضيف وكله وقار وكل الحضور انتابهم ذلك الشعور من الذهول لمعرفة تلك الحقائق التي ربما يعرفها البعض، الا أن الدنيا لا تبقي لصاحب لب بالتفكر... ورأيت في وجوه من كان بقربي نظرات الانكسار وطأطأت الرؤوس والرجوع الى النفس ومحاسبتها على التقصير بحق نفسها وبحق الله جل وعلا ذكره، ولسان حالهم يقول لأتدارك نفسي قبل أن اكون مصداق الآية (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56))سورة الزمر). شكر عريف الحفل الضيف وطلب من الضيف الآخر ارتقاء المنصة، قام الضيف الآخر وكما ذكرت لكم فقد كان وجهه مليئًا بالطاقة، بدأ بالحديث : انا اسمي (ماء) وانا ايضا جندي من جنود الله، الا أن عملي مرتبط بالمساعدة والإحياء لا الإهلاك... وأضاف: شرّفني خالقي وسيدي جل وعلا بذكري في عدة مواضع من القرآن الكريم منها: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (٢٢)سورة البقرة ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (٥٧) سورة الاعراف ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ))(١٠)سورة النحل (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فاتت اكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطلّ والله بما تعملون بصير) ٢٦٥سورة البقرة. فأنا اسمي مرتبط بخروج الثمر وإحياء الأرض فأنا الماء وانا (الوابل) (٢) وانا (الطل) (٣) وكلي عرفان لكل الموجودات التي تنتفع مني، لأنها لا تفتأ تحوطني بدعائها لي، وهذا من نعم الله عز وجل عليّ، والتي كما قال الإمام الحسين صلوات الله عليه ( "اعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَلَا تَمَلُّوا النِّعَمَ فَتَتَحَوَّلَ إِلَى غَيْرِكُم )(٥) لكن ليس دومًا يكون عملي المساعدة، فأنا كما اخبرتكم جندي، والجندي لا يكون الا طوع أمر مولاه، فأنا ذلك الماء الذي يُسقى به أهل جهنم جزاء أعمالهم جزاء بما كانوا يكسبون، وهو قول الله عز وجل : قوله عز وجل((مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ))(١٦)سورة إبراهيم ختم الضيف حديثه بالدعاء للجميع بالتوفيق لقضاء حوائج الناس والنجاة من النار والفوز بالجنة، شكر عريف الحفل الضيف وطلب من الضيف الأخير التعريف عن نفسه، ولفت انتباهي أن باقة الورد قد مالت مع أول حركته وقيامه من مكانه، فكأنّ لسان حالها يقول: خذني معك فأنا أريد أن أكون في المكان الذي تكون فيه! ارتقى الضيف المنصة وبدأ بالتعريف عن نفسه : انا اسمي (غيث) وأنا أيضا جندي من جنود الحق تعالى وطوع أوامره، واسمي تشدو به كل أرض عطشى وقد ذكرني العليم القدير في محكم كتابه في عدة مواضع ومنها: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))(٣٤)سورة السجدة. ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)) (٢٨)سورة الشورى ثم تبسم ابتسامة جميلة والتي لم تفارق محياه، ابتسامة تذكرني بصفات المؤمنين، حيث إن من صفات المؤمن أن بشره في وجهه، ثم وجه شكره للجميع ورجع إلى مكانه... لقد رأيت أرضًا جرداء من الشباك قد ارتعشت لرؤيته ولسان حالها/ أنا بحاجة إليك. قام عريف الحفل باختتام الحفل وشكر الضيوف المشاركين والحضور، وكانت هذه أصعب لحظة مررت بها، فقد علمت أنها لحظة الفراق، لكنني في نفس الوقت كنت ممتنة لأني قد حضرت هذا الحفل، فقد تعلمت منه الكثير. 1-الصيب: المطر نزل من السماء في حال ظلمات )تفسير ابن كثير. ٢-الوابل: المطر الشديد الوقع.مجمع البيان ج٢ ص١٨٣) 3-الوابل: مطر عظيم القطر مجمع البيان ج٢ ص١٨٤ ٣-الطل: المطر الصغار،)مجمع البيان ج٢ ص١٨٦ 4-(طل) أي: مطر لين( مجمع البيان ج٢) ٥-بحار الأنوار/ العلامة المجلسي/ج ٧٥/ ص ١٢٧

اخرى
منذ 4 سنوات
891

الإمام موسى بن جعفر وجسر الرصافة بلسان الطبيب النصراني....

بقلم: رحاب سالم البهادلي كنت أمشي وصديقي في بغداد، فوصلنا جسر الرصافة وأخذت أنظر اليه مطولاً، فسألني: ما بك أيها الطبيب، لماذا وقفت هنا، دعنا نكمل طريقنا؟! فقلت: آه آه، أتعرف إمام الشيعة موسى بن جعفر؟ فأجاب نعم، لكن سمعت أنهُ قد مات. -(الطبيب) نعم قد قُتلَ مسموماً، دعني أخبرك ما حدث... في مثل هذا اليوم قبل سنين مضت وقفتُ على جسر الرصافة بغداد كما نقف اليوم، في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رجب، رأيت الناس تهرع والمنادي ينادي هذا أمام الرافضة. كانت هناك جنازة يحملها أربعة من جلاوزة بني العباس، بدأت الناس تتجمع وتقترب من الجنازة وهم يبكون، وُضعت الجنازة وسط الجسر، ثم نادى المنادي من البلاط العباسي: "هذا إمام الرافضة، وقد مات حتف أنفه، فليأت كل من يريد النظر اليه..." فكان الناس يتفرّسون في وجه الإمام استجابة لنداء البلاط وتأكيداً لمدّعاه بأن الإمام لم يمت مقتولاً، وكان من بين هؤلاء الناس؛ جمعٌ من فقهاء بغداد ووجهائها ليؤكدوا لهم بأن الإمام توفي بشكل طبيعي من دون تقصير من السلطات الحاكمة، وكنت أنا من بين هؤلاء... فنظروا ولم يجدوا أثراً لجراح أو خدش، وأشهدهم السندي بن شاهك، قاتل الإمام وصاحب السجن المعروف بظلمهِ للشيعة وإمامهم على أنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك. علماً أن هذا التضليل لم يُجدِ نفعًا. وبعد أن اقتربتُ أنا من جنازة الإمام الكاظم، بعد أن كثر التشكيك بين الناس، ونظرت في راحة كف الإمام فقلت للناس: إن هذا الرجل قُتل بالسمّ، فقولوا لعشيرته أن يطالبوا بدمه... قلت ما قلت بصوت خافت خوفًا من السلطات الظالمة... هنا انفجرت قنبلة مدوية بوجه هارون العباسي واتباعه، فتدارك الأمر وألقى بمسؤولية الجريمة على السندي بن شاهك، ثم أخذ يلعن الأخير ليبين للرأي العام براءته من الجريمة، فاستدعى سليمان بن أبي جعفر، وهو أحد أبرز السفاحين في حكومة هارون، وأمره بأن يكرم جنازة الإمام لامتصاص نقمة الجماهير، فأخذ الأخير بإظهار الحزن فنزل من قصره ورمى عمامته وشقّ جيبه وأمر غلمانه وشرطته بإبعاد السجانين من حول الجنازة، وأمر المنادي بأن ينادي: "من أراد أن ينظر إلى الطيب ابن الطيب، والطاهر ابن الطاهر، فليحضر جنازة موسى بن جعفر" مرت ثلاثة أيام وجنازة الإمام الكاظم (عليه السلام) على جسر بغداد، بهدف كسب تأييد الناس وعلمائهم ووجهائهم لما جرى للإمام، فقد وضع محضراً بالقرب من الجنازة يوقع فيه من يرى الجنازة على أن الإمام لم يقتل مسمومًا على يد هارون الرشيد. وهذه تمثل سابقة خطيرة في حينها لم تعهدها الأمة منذ واقعة كربلاء وما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) هذا الإمعان في الاضطهاد ومحاولة حجب شخصية أئمة الشيعة من حساب أفراد الأمة، لم يكن إلا عندما يتعاظم خطرهم على السلطة، ففي عهد الإمام الكاظم كان الشيعة قد أوجدوا "دولة داخل دولة" ونجحوا في اختراق البلاط العباسي، وكان العديد من أعوان هارون ينتمون على التيار الشيعي، ويؤدون أدواراً هامة ومصيرية ضمن توجيهات الإمام (عليه السلام) وكان ذلك يتم ضمن تنظيم دقيق وسرية تامة، ولعل الاسم البارز في التاريخ من هؤلاء؛ (علي بن يقطين) أحد أبرز الوزراء في بلاط هارون العباسي... فقال: أراك تعرف الكثير عن الشيعة وإمامهم! (الطبيب) نعم وكل ما عرفته عن الشيعة وما جرى عليهم من صديق مقرب شيعي فأنا صاحب رأي محايد، لكن لا أقبل الظلم، ونحن جميعاً نعرف أن الشيعة وأئمتهم تعرضوا للظلم لكنهم حاولوا دخول الدولة العباسية، وهذا ما استشعره الأخير وحاول الكشف عن خيوط هذا التنظيم وامساك أحدهم بالدليل القاطع. فلم يُفلح أبداً، لذا توسّل بالجواسيس والعيون، وأيضاً بشراء الذمم؛ تماماً كما فعل معاوية وابنه يزيد لمواجهة التيار الشيعي في عهد الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) وحتى هاتين المحاولتين لم تفلحا بالمرّة في تطويق انتشار التشيع وامتداد ولاية الإمام الكاظم بين الأمة، فكانت تجبى إليه الحقوق الشرعية من أقصى خراسان ومن الأمصار الأُخرى دون أن يتمكن هارون وأعوانه من فعل شيء. يا صديقي، المشكلة الكبرى أمام هارون العباسي، كما هي مشكلة أي حاكم مستبد؛ هي الشريحة المثقفة في المجتمع، التي كانت آنذاك متمثلة بالفقهاء والعلماء والشعراء وأيضاً المتكلّمين (الفلاسفة)، فكان لهؤلاء تأثير كبير على الرأي العام، الأمر الذي استدعى هارون لاستمالتهم والإغداق عليهم، وعلى وجه التحديد الشعراء. وكما تعلم يا صديقي أنا طبيب وأعرف الكثير من الشخصيات، عدد كبير من بينهم كان في البلاط، وكيف أنّ آلاف الدنانير والدراهم كانت تنثر للمتزلفين والمداحين، وإذا كان لهؤلاء تأثير على العواطف فإن للعلماء والفقهاء تأثيراً على القلوب والعقول، كما تأثرتُ أنا بشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) وبعده الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) نعم فتأثر قلبي بمحبة هذا الإمام المظلوم، لست أنا أول نصراني أتأثر، كان قبلي ذلك القس المسيحي، ولا يُنسى وهب منا نحن المسيح، لكنه التحق بالحسين (عليه السلام). يا صديقي، إنهم ليسوا للشيعة فقط، إنما هم لكل البشرية... يا صديقي إن ذكرى استشهاد موسى تُؤلم قلبي...

اخرى
منذ 4 سنوات
3945

جثمان الإمام الكاظم (عليه السلام) على الجِسر.

بقلم: علوية الحسيني 1/الأسباب المؤدية إلى اعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد أن أخذ هارون العباسي (عليه لعائن الله) على نفسه استئصال وجود كل علوي منذ بداية حكمه، آل به الأمر إلى استئصال وجود سيّد العلويين، الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، ليس كرهًا له وحسب؛ بل لما رآه من التفاف الناس حوله، وتناقل علومه ومآثره ومحاسن أخلاقه، فخشي هارون اللا رشيد من ترشيح الناس للإمام إلى منصب الحكم واستبعاده، فقرر اعتقال الإمام (عليه السلام). والذي يثير الأمر استغرابًا، أنّ هارون (عليه لعائن الله) كان قد اعتذر مسبقًا مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يحبس الإمام جعفر (عليه السلام)، حيث ردّد أثناء زيارته لقبر النبي (صلى الله عليه وآله): "بأبي أنت واُمي إني أعتذر اليك من أمر عزمتُ عليه، انّي اُريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه؛ لأني قد خشيت أن يلقي بين اُمتك حرباً يسفك بها دماءهم"(1). 2/ من أوجه المشابهة بين هارون العباسي والشيطان الرجيم لـعمري ما أشبه موقف الطاغية هارون بموقف الشيطان الرجيم؛ حينما أمره الله تعالى والملائكة بالسجود لآدم لكنه عصى تكبر بكلّ جرأة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين}(2). وحينما سأله الله تعالى {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}(3)، أجاب: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين}(4). فها هو هارون تلميذ من تلامذة ابليس، قد اقتفى منه أثرًا في: أ- أنه عصى أمر الله تعالى بوجوب طاعة الإمام موسى (عليه السلام)؛ إذ إنّه كان مطّلعًا على مكانة وفضيلة الإمام، وكونه منصّبًا بنصٍ من الله تعالى نقلًا عن آبائه عن جدّه النبي (عليهم السلام)، كما عصى إبليس أمر الله تعالى بوجوب السجود التكريمي لآدم. ب- حسد هارون للإمام، والشعور بكونه أفضل منه؛ إذ ينقل لنا التاريخ بعض الشواهد يمثل فيها هارون أنّه صاحب علمٍ، وبينةٍ، كـالإمام موسى (عليه السلام)، كــما شعر إبليس بأفضليته من آدم. 3/ مراحـل اعتقال الإمام الكاظم (عليه السلام) أ: قرر هارون أن يسجن الإمام (عليه السلام) عدّة مرّات، فحبسه في سجن عيسى وطلب من السجّان اغتيال الإمام، لكنه رفض؛ لما رآه من الإمام من عبادة وزهد وأخلاق. "فـقرر هارون نقل الإمام إلى بغداد، وحبسه في بيتٍ يعود للفضل بن يحيى، لكنه أشرف على مراقبته بنفسه"(5)، وانشغل الإمام بدعاء الله تعالى بأن يخلصه من سجن هارون، حتى استجاب الله تعالى له في غلس الليل المظلم، فأمر هارون بإطلاق سراح الإمام"(6). ب: وما إن خرج الإمام (عليه السلام) حتى رجع الناس والتفوا حوله، وتجمهروا، وتزايد عددهم، فأمر هارون (عليه لعائن الله) باعتقال الإمام ثانية في بيت الفضل بن يحيى، حيث طلب منه اعتقال الإمام، لكنه لـم يستجب لهارون. ج: بـعد ذلك أمر هارون بنقل الإمام إلى سجن "أحد الخبثاء، الذي ينصب لآل أبي طالب (عليهم السلام) العداء، فعامل الإمام في السجن بجفاءٍ وشقاء، واستجاب لأمر الطاغية هارون بتقييد الإمام بثلاثين رطلاً من الحديد، ولم يجعله يخرج إلاّ للوضوء، ذلك السجّـان يدعى بالـسندي"(7). 4/ الإمام الكاظم (عليه السلام) في ذمة الخلود. استجاب الرجس السندي لأمر الطاغية باعتقال الإمام واغتياله، حيث دسّ له السم في رطبٍ، فأكل منه الإمام، واضطرب حاله، فقام السندي (عليه لعنة الله) باستدعاء الأطباء؛ محاولاً تهربه من جرمه، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) أخبرهم بتمام الحقيقة. فاخضرّ واصفرّ لون الإمام، حتى انتشر السم في جسده الطاهر، وارتفعت روحه السماء. "إلاّ أنّ الرجس وجلاوزته جمعوا شيوخ المنطقة آنذاك وأخبروهم أنّ الإمام قد مات بلا سبب، فنظروا الى موسى بن جعفر وليس به أثر جراحة ولا خنق، وكان في رجله أثر الحناء"(8). 5/ تجاسر الطغاة على الإمام الكاظم (عليه السلام). ضجت المدينة بخبر افتقادهم لسابع ذراري الرسول موسى الكاظم (عليه السلام)، فثار غضبًا الرجس السندي، والطاغية هارون، فوضعوا جثمان الإمام على جسر الرصافة؛ مستخفًا بكرامة الإمام (عليه السلام) وقد أحاطت الشرطة الجثمان الطاهر ، بل وتجاسروا (عليهم لعائـن الله) على الجثمان حيث كشفوا عن وجه الإمام! والله وبالله وتالله، ما هم إلاّ امتداد لأول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد (عليهم السلام)، وإلاّ فهل الإسلام أمرنا بانتهاك حرمة الموتى هكذا؟! ملّتنا بريئة منهم إلى قيام يوم الدّين. وبدأ الرجس السندي بتصاعد غضبه، فأمر جلاوزته أولاً بأن ينادوا نداءً مفاده: (هذا إمام الرافضة فاعرفوه، هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً). ليس ببعيد أن يكذب مستأصل الشأفة، فمن يتجاسر على ذرية رسول الله (صلوات الله عليهم) لا يتثاقل من ارتكاب الحرام كالكذب؛ حيث أسند بكلامه هذا شبهة بمذهب الشيعة الامامية، وهي أنّ الشيعة تعتقد بمهدوية وغيبة الإمام الكاظم (عليه السلام). نعم، "قالت الواقفية بذلك، والواقفية فرقةُ باطلة لا تمثل عقيدة الإمام وأتباعه؛ لأنهم يعتقدون أنّ الإمام موسى (عليه السلام) حي لم يمت، وأنه رفع الى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم"(9). ثــم أردف الرجس ذلك النداء الكاذب بــنداءٍ أشنع من سابقه، آمرًا جلاوزته بالقول: "ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج"(10). قاتله الله تعالى ما أقبحه وطاغيته، فتلك قلوب قاسية، ونفوس طاغية، وأجسام محشوة بسخط الله، ولعنة الرسول، قد عشش فيها الشيطان وفرّخ، فما الخبيث إلاّ الطاغية هارون وشرذمته، وعلى رأسهم أنت أيّها السندي، أسندك الله وطاغيتك إلى جدران جهنم. 6/ موقف أتباع الإمام الكاظم (عليه السلام) من الانتهاكات بحق إمامهم. إنّ أتباع الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) تصرفوا بحنكةٍ، وتعقلٍ، فكظموا غيظهم، وعلموا أنّ هذا الرجس يريد استفزازهم حتى يقوموا بأعمال ضد شرطة الطاغية، فيـزجهم في قعر السجون؛ امتثالاً للحقد الدفين الذي كان متفاقمًا، بــل ولازال إلى يومنا هذا. نسأل الله تعالى تعجيل فرج مولانا الإمام المؤتمن، الحجّة ابن الحسن، المنقذ الموعود، محمد المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف). __________________ (1) عيون أخبار الرضا: 73، ح 3. والغيبة للطوسي: 28. وعن العيون في بحار الأنوار: 48/213، ح 13. (2) البقرة: 34. (3) الأعراف: 12. (4) الأعراف: 12. (5) ظ: عيون أخبار الرضا : 1 / 95 ، وعنه في بحار الأنوار : 48 / 220. (6) ظ: عيون أخبار الرضا: 1/94 ح 13. وراجع المناقب : 4 / 330. (7) اختيار معرفة الرجال : 438، ح 827. (8) كمال الدين : 39، وعيون الأخبار : 1 / 105 ح 8 ، وعنهما في بحار الأنوار: 48/228 ح 31 . (9)المقالات والفرق: للقمي، ص93. (10) كمال الدين : 38، عيون الاخبار : 1 / 99 / ح5، وعنهما في بحار الأنوار : 48 / 227 ح29، والفصول المهمة : 54. وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، وحسبنا الله وكفى، سمع الله لمن شكى، والحمد لله ربّ العلا، وسلامٌ على محمدٍ وآله سادة الورى.

اخرى
منذ 4 سنوات
5200

رسائل حرية من خلف القضبان!

بقلم: رضا الله غايتي أنا ريشةٌ خلقني الله تعالى بمشيئته، ولم يدع أمر تسييري بيد خلقه، تمامًا كما لم يستأثر بي، تاركًا لابتلاء الناس حصته ولاختيارهم حظه، لا ضعفًا منه سبحانه ولكن قد شاءت بذلك حكمته. فأتحرك بهدوء وسرور طالما كانت اختيارات أهل الحق تسيّرني. وأختنق ألمًا وأتمزق أسىً إذا ما رياح الظالمين والكافرين عصفت بي. تراني ملآى بالشجن ثقيلة بالحزن، لكن لم ولن أتمرد يومًا على طاعة ربي. ولذا كنت أشرق على حياته كالشمس الدافئة حينًا، فأُلوّنها بمختلف الألوان، ولا غرو في ذلك فلقد كانت اختياراته للحق ميزانا، ولكن كنت أرغم زغبي على التواري في كثير من الأحيان إذا تفجر قلب ذلك الظالم بركانًا من الحقد والطغيان. ليس تواطؤًا مني معه، وأنّى لي ذلك وأنا أبرأُ منه في كل آن. ولكن هكذا اقتضت حكمته جل وعلا الحكيم الرحمن، ألا تقف في وجه إرادة الخلق إذا شاء سوى إرادته، وبذا يغشى الليل الأرجاء والأزمان، فلا تصطبغ أغلب سني عمره الشريف إلا بالعتمة خلف القضبان. ويغيب عن مفردات أحداث حياته الأمن والسلام، ولكنهما يملآن ذلك القلب المنشرح بذكر الله الواحد الديان، فأتسمّر لأتأمّل في ردود فعله، وأتعجب لرقي رضا نفسه التي رقت فوق الزمان والمكان، فلم تعد تتألم من سلاسل أو تتظلم من طامورة غاب فيها الدليل على الليل والنهار. لتعلو سحب حب الله تعالى يؤنسها ذكره ويملأها فرحًا وحبورًا، لتفرِّغها لعبادته والاختلاء بنور وجهه، فلا أكاد أرى في ذلك الليل الدامس سوى نورٍ ساطعٍ يفوق في بهائه وجماله البدر المنير في ليلة تمامه وكماله، فتأسر قلبي هيبة جلاله، وأقف له إكبارًا واعظامًا، وأزداد عجبًا، إذ كلما زادت الأحداث حوله عتمةً وظلامًا، كلما برز نورًا وازداد سلامًا، فأزداد به كل يومٍ عشقًا وهيامًا.. لذا كان حظي من بين رفيقاتي هو الأوفر، فقد كنت ريشةً أرسم بمشيئة الله سبحانه أحداث حياةٍ، نورًا من القمر المنير هو الأنور... ذلك هو الإمام الكاظم (عليه السلام)... وتلك أنا الريشة التي تسجل أحداث قصته الخالدة... وكم كنت أود أن أكون به ألطف وعليه أرأف، ولكن لا حيلة لي فأنا مسيّرة، فقد قضت حكمة الله تعالى أن أرسم الأحداث بإرادته سبحانه وإرادة الناس لما قضى أن تكون إرادتهم في حدود سلطانه مخيّرة. وتمضي السنون، ويشاء الله أن أكون في خير الأمكنة، بطون كتبٍ تناولت سير أهل البيت عليهم السلام، تحديدًا سيرة حبيبي الإمام الكاظم (عليه السلام) الحرّ المسجون، يقلبني بكل شوق وسرور حينًا الموالون، وفي كثير من الأحيان بقلوبهم التي تملأها الأحزان والشجون، ولكم أحرقت أحرفي حرارة دموع تلك العيون، ولكني كنت أُسرُّ لأني أشُدُهم الى حب راهب من رهبان آل محمد عليه وعليهم أفضل التحايا وأزكى السلام، ولطالما كنت بلسمًا للجراحات، وأملًا لمن بلغ مشارف اليأس لشدة ما لاقى من معاناة، وقوة وصبرًا للتغلب على تقلبات الحياة.. فقد أحال ابتلاء أحدهم حياته إلى سوادِ؛ لم يبصر فيها جمالًا أو نورًا، لا، بل ولا حتى لونًا رماديا، لم يشهد قلبه سوى المواطن المخيفة، ولم تُعِد ذاكرته سوى المواقف الكئيبة، فغدت حياته بصبغة الألم والحزن مصطبغة، فهي على ذلك الحال لا تغيّر فيها بل كانت جدُّ رتيبة، لكنه ما إن طالعني حتى غاص في بحر من الأنوار، مستخرجًا لؤلؤةً من لآلئ راهب أهل البيت الأطهار، وإذا بها تقلبُ حياته رأسًا على عقب، إذ أضاءت فيها كل جانب إيجابي مغيّب، فأبصر من نعيم ربه الذي يتنعم به عجبًا وحمد الله شكرًا، أذكر أن اللؤلؤة التي أحالت ظلام حياته إلى نور، هي قوله المشهور، الذي أطلقه وهو في قعر السجون: « اللهم إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت ، فلك الحمد »(1) وكان آخر قد أعياه كلام الناس، فقد كانت تحبط عزيمته أدنى كلمة حاقد، وتمزّق فؤاده أتفه كلمة حاسد، قد أفنى عمره في تقديم الأعذار والتبرير، وأحرق شمعة حياته محاولًا إرضاءهم ولكن الأمر جدُّ عسير، حتى عثر على درةٍ من درره (عليه السلام) فاخرة، ما إن وضعها موضع التنفيذ حتى صيّرت حياته جنة زاهرة، بالسلام والاطمئنان زاخرة؛ كانت وصيته إلى صاحبه هشام: «يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ»(2) وكم من معتقد بحقٍ أو مطالبٍ به، وفقًا لشرع الله تعالى المبين، لم يكن جزاؤه سوى الظلم والجور أو السجن والتعذيب على أيدي الطغاة الظالمين، حتى كاد أن يضعف أمامهم أو يهين، أو بأيٍ من حاشيتهم يستعين، لولا أنه تذكر قول إمامه السجين حين قيل له عليه السلام وهو في الحبس: لو كتبت إلى فلان يكلّم فيك الرشيد ؟ فقال عليه السلام: «حدّثني أبي عن آبائه : أن الله عزّ وجلّ أوحى إلى داود : يا داود، إنّه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ... إلّا وقطعت عنه أسباب السماء ، وأسخت الأرض من تحته» (۳). فعاد إلى صموده وثباته معتصمًا بحبل الله تعالى المتين.. وكم من مظلومٍ قد اضطهِدَ، يقضي ليله مسهدًا، ونهاره مشردًا، حتى كاد أن ينهار، وأن يختار طريق اليأس من روح الله تعالى، لولا أن سمع برسالة كاظم أهل البيت الأبرار، التي بعثها إلى هارون لما طال سجنه: « إنه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» (4) تلك هي بعض جواهره التي لا يمكن أن تقيّم بقيمة أو تقدّر بثمن، قد قلبت موازين حياة من تمسك بها، إنما هي رسائل على مر الزمن، تؤكد أنما القيد الحقيقي هو قيد الفكر لا قيد الأجساد. وإنما الأغلال الواقعية هي ليست تلك التي تُفرض على الجسم بل هي أغلال الاعتقاد، هي رسائلُ تستهدف تحرير العباد، من حرٍ عاش حرًا ومات حرًا خلف قضبان السجن!! فالسلام عليك يا مولاي الإمام الكاظم أبا الحسن.. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الإرشاد ٢ : ٢٤٠ ، الفصول المهمة : ٢٢٠. (2) تحف العقول 387 (3) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤. (4) البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧

اخرى
منذ 4 سنوات
1937

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
69423

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
50369

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41069

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
34915

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32056

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
31657