دعيني أشم رائحة الجنة

بقلم: حنان الزيرجاوي اعتاد كل صباح أن يسلك هذا الطريق المؤدي إلى مكان دراسته، فالجامعة التي يدرس بها لا تبعد كثيرًا عن بيتهم، لذلك كان يستغلّ هذه الدقائق -التي لا تزيد على العشرين دقيقة- في مراجعة الآيات القرآنية التي حفظها ليلًا. نسيت أن أذكر لكم، فقد قرّر أن يحفظ ما يمكن أن يحفظه من القرآن الكريم، وقد وضع برنامجًا لذلك، فهو اعتاد على أن لا يهدر وقته إلا بما ينفعه، فكل دقيقة كان قد خطط لها بإتقان ليصل إلى هدفه الذي يصبو إليه، فهذه الدقائق ينتفع منها ويُسمع نفسه ما تم حفظه، وكذلك ليمارس هوايته في السير على قدميه كرياضة أحبها منذ زمن بعيد. وفي يوم شتاء بارد، وذرات مطر تتساقط بهدوء لترسم منظرًا مدهشًا، وهو يحمل بعض الكتيبات، ويمسك بيده تلك المظلة القديمة التي ورثها من أبيه، وكان يعتز بها رغم قدمها، لكن كانت تحمل رائحة أبيه فلا يقتني غيرها، رغم يسر الحال الذي كان هو فيه بما ورثه من أبيه هو وأخوته. نعم في ذلك اليوم لفت انتباهه شيء في طريقه، لم يكن اعتاد رؤيته، رغم أنه لا يحدق كثيرًا في الأرض، ليتجنب حالة الفضول التي قد تصيبه إن رأى أشياءً، فيشغل نفسه لمن هذه، ولمَ هي هنا، وكيف أتت وغيرها، فهمُّه أن لا ينشغل بما لا يعنيه. ولكن ما رآه لم يكن بالإمكان تجاهله، لأنه حدث يثير التساؤل بل يحرك الشعور بالإنسانية عند من يمتلكها، وخاصة إذا كان هذا الشعور مغلف بالدين وحسن الخلق. وقف وكأن شيئًا قيّد قدميه، دقّق النظر، وإذا بعجوز سبعينية العمر أو أقل قليلًا، ولكن لا يعرف هل هي فعلًا استوفت من هذه الدنيا سبعينها، أو ستينها، وقف وهو يحدث بنات أفكاره: مالي وعمرها، وكم أخذت من هذه الدنيا الفانية، أو الدنيا أخذت منها ثمن تلك السنين. أتعلمون لمَ شدّه الحدث، وتوقف عن الحركة؟! لأن منظر تلك المرأة غريب فعلًا، فقد افترشت الأرض والتحفت السماء في يوم لا تخرج فيه الناس إلا لضرورة عمل أو ضرورة أخرى. انحنى قليلًا، وحياها بتحية الإسلام، فردت عليه بصوت ضعيف مرتجف، والبرد يهز أجزاء جسدها المتهالك. أيتها الحاجة، لمَ أنت هنا في هذا الجو الممطر البارد؟ وأين أذهب يا بني؟ إلى بيتكِ! عندما سمعته فتحت عينيها، وهي تحدق به، وتطيل النظر إليه لتكسب دموع أحرقت حرارتها جلد وجهها المتجعد. بيتي! كان لي بيتٌ... كان لي بيتٌ جميل ببناء، لكنه خاوٍ من داخله. وأين أصبح الآن؟ هو موجود كما كان... إذن لماذا تركتيه وافترشتِ الأرض؟ لم أتركه، بل هو تركني! كيف تركك وهو حجر لا يفقه إلّا التسبيح. مَن بداخله أجبروه على أن يلفظني خارج أسواره! أولادي الذين حملتهم، وربيتهم وأطعمتهم، وأعطيتهم من كلي لجزئهم، قالوا: لا حاجة لنا بكِ، فقد أصبحت ثرثارة تؤذين زوجاتنا بطلباتكِ، فاخرجي لا نريد أن نراك هنا! كان كلامها كالصاعقة التي نزلت من السماء أو كَسهم أصاب قلبه العطوف. لم يصدق ما سمعه. هل من الممكن أن يوجد إنسان بهذه الوحشية؟! أفعلًا ما تقول هذه المرأة؟! وبين تلك التساؤلات أوقفه صوتها المرتعش: بني إن كنت تريد مساعدتي فاحملني إلى دار العجزة. فالتفت إليها: أ بهذا الحال؟ نعم بني، نعم. هل تسمحين لي بأن أصحبك إلى منزلنا لتحصلي على الدفء، وقليل من الطعام ثم أحملك إلى اي مكان تُريدين؟ أشكرك يا بني... إن كنت تريد المساعدة فاحملني إلى حيث أرغب. نهض مسرعًا، وأشار بيده إلى مركبة قريبة، وساعدها على النهوض وأوصلها إلى حيث تريد... وبما أنه تأخر كثيرًا عن موعد درسه، والحزن يلفُّه، قرر العودة إلى البيت وهو غير مصدق ما رأى. دخل مسرعًا إلى حجرة أمه فابتسمت بوجهه ابتسامة الرضا، وحدّقت بعينيها بنظرة استغراب، وهي ترى الحزن ظاهرًا على محياه وعودته مبكرًا. سلّم عليها وبدأ كعادته يقبّل يديها، وهي تقبل رأسه وتشمه، انحنى على قدميها ليقبلهما، وهو مستغرق بالبكاء... منعته وسحبت قدميها! ألحّ كثيرًا لتقبيلهما، وهي تأبى ذلك. رفع رأسه وناجاها بصوت رقيق مختلط بالدموع: حبيبتي دعيني أشم رائحة الجنة...

اخرى
منذ 4 سنوات
770

في حضرة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)

بقلم: دعاء الربيعي من بين جدران الزنزانات الهارونية التي كانت تفوح منها رائحة الحقد على محمد وعترته الطاهرة، كان هناك صوت حق ينبعث على وقع رنات القيود يخطف أسماع العالم أجمع، صوت يصدح بالحق ويجهر بحمد الله وذكره، حطم ذلك الصوت أسوار الباطل، وتحدى جدران القصور العباسية العالية، وقهر القلوب القاسية الجاحدة لفضل الرسول وآله، لقد شكّل صوت الصدق هذا خطرًا محدقًا على العرش الهاروني المتهاوي الذي بنى مجده وأسس دعائمه من دماء المظلومين المضطهدين، وكان لا بد أن تُكتم أنفاس هذا الصوت الشجي، وتُخمد صرخة الحقيقة التي أعلنت تصديها للباطل وأهله مهما كلف الثمن ومهما كانت النتائج، فتركت تلك النفس الأبية زخرف الدنيا وزبرجها ورضت بغياهب السجون وظلم هارون وبعدت عن الموالين المحبين، من أجل تثبيت أركان التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب والأفكار الضالة المنحرفة التي تطال مذهب التشيع، فتصدى لها الإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليه) وحاور تيارات الإلحاد والزندقة ليثبت أركان التوحيد ويبطال زيف أهل البدع التي أخذت بالانتشار في ذلك الزمان، وبحواره وأدلته المقنعة اثبت للمجتمع أحقيته في التصدي للخلافة الإلهية، وأنه امتداد لرسول الإنسانية محمد وعترته الطاهرة الذين استخلفهم الله في أرضه وجعلهم حججًا على عباده. احتار هارون في هذه الشخصية العظيمة وأراد التخلص منها بأي شكل من الأشكال، فلم يجد غير السجون حلًا لهذه المشكلة، فراح ينقل الإمام من سجن لآخر كي يطفئ شعلته ويخمد نوره الوضاء الذي اجتاح العالم أجمع وأسر قلوب الملايين من المحبين المخلصين لهذا الإمام المعصوم. ولم يكد هارون يقر له قرار حتى نقل الإمام موسى بن جعفر من سجن البصرة إلى سجن بغداد ليضل تحت عينه ويشدد الرقابة عليه واختار له مجموعة من السجّانين ومنهم السندي بن شاهك هذه الشخصية التي توصف بأنها اسوأ عنصر في البلاط العباسي، وكان حريصًا على ظلم واستئصال معارضي النظام العباسي ولا سيما الموالين لمذهب محمد وآله، فقد تولى سجن الإمام (روحي فداه) في أحلك الظروف وأشدها قسوة على الشيعة، وقد نصب السندي العداء للإمام الكاظم (عليه السلام) وأظهر من الحقد والقساوة ما لم يظهره السجانون قبله. فيروي لنا التاريخ أن سجّاني الإمام الكاظم اظهروا تعاطفًا واحترامًا واضحًا لمنزلة الإمام ولجميل ما رأوا منه، أمثال عيسى بن أبي جعفر الذي طلب من هارون إعفاءه عن سجن الإمام وكان نص رسالته (أن خذه مني وسلمه إلى من شئت، وإلا خليت سبيله فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة، فما أقدر على ذلك، حتى أني لأستمع عليه إذا دعا، لعله يدعوا عليّ أو عليك فما أسمعه يدعوا إلا لنفسه، يسال الرحمة والمغفرة). وكذلك فعل الفضل بن ربيع والفضل بن يحيى فقد اعتذروا من سجن الإمام وإلحاق الأذى به فقد طلب إليهم هارون قتله مرارًا وتكرارًا إلّا أنهم أبوا أن يقدموا على هذا الأمر. فكّر هارون (عليه لعائن الله) بسجان ذي قلب قاس يكره آل البيت ويحب الحاق الأذى بهم فاختار تلك الشخصية اللعينة التي أودت بحياة كاظم الغيظ (عليه سلام الله)، ومن الجدير بالذكر أن هناك الكثير من الشخصيات التي تعاطفت مع الإمام الكاظم وأذعنت لشخصه العظيم ومقامه الرفيع ومنزلته العالية لدى الباري (عز وجل) ومن تلك الشخصيات هي أخت السندي بن شاهك، هذه المرأة التي صدحت بصوت الحق وهتفت باسم الإنسانية قائلة: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل، فقد روى لنا المؤرخون أن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) حُبس عند السندي، فسألته أخته أن تتولى حبسه وكانت تتدين ففعل، فكانت تلي خدمته فحكي أنها قالت: كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلي الصبح ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة فكان هذا دأبه ، فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل. كما أن زبيدة زوجة هارون العباسي التي كانت مطّلعة وعن قرب على حياة الإمام الكاظم وعلى زهده في الدنيا ورغبته في الآخرة فيروى أن لزبيدة مجموعة من الجواري والغلمان ينقلون لها سيرة الإمام وهو في سجن هارون فتأثرت بالإمام وأقتحم قلبها حبُّه واتضحت لها أحقيته في الإمامة وأنه خليفة الله على أرضه، وقال عنها الشيخ الصدوق في المجالس: (أنها-أي زبيدة - كانت من الشيعة). كذلك جارية هارون التي ادخلت على زنزانة موسى بن جعفر، فهي أيضًا ممن أُصبن بالذهول والتعجب من حال الإمام وعبادته، حيثه يروى أن هارون انفذ إلى الإمام موسى بن جعفر جارية خصيفه لها جمال لا يوصف لتخدمه في السجن، فقالت له: يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليكِ، وأراها روضة مزهرة ليس لها حد فيها مجالس مفروشة وحور لم ترَ مثلهم من قبل وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام، فلما رأت ذلك خرت ساجدة خاشعة ترتعد وترتجف من عظيم منزلة هذا السجين المظلوم المضطهد فأذعنت لخالقها وتابت لله وصارت من المؤمنات الطاهرات التي شهد لهن التاريخ بالحق فهن اهتدين للحق على يد الإمام موسى بن جعفر وقد تأثرن بحياة هذا الرجل العبادية فاعتنقن مذهب الشيعة الإمامية وصرن من المواليات المؤمنات بإمامة الأئمة الهداة من ذرية محمد (صلى الله عليه وآله)... وما جرى لتلك المؤمنات هو خير دليل على إن سيرة الإمام الكاظم وحياته المؤلمة هي محطة ضياء لكثير من الأحرار ومنها يستلهم الخلق والدروس والعبر وبهم يحصّنون أنفسهم من نيران جنهم ، فهنيئاً لمن اتخذت من سيرة الإمام الكاظم شعلة تنير بها دروب الحياة المدلهمة. فحري بنا نحن شيعة الإمام موسى (عليه السلام) ومحبيه أن نقتدي بهذه الشخصية العظيمة التي واجهت المحن والصعاب بكل قوة ورباطة جأش ولم تذعن وتستسلم للطغاة الذي يحاولون النيل من المقدسات والمعتقدات الدينية فعلينا أن نحتذي بمولانا الكاظم (عليه السلام) الذي اتخذ من قيوده وسلاسله مشعلًا ليتحرر من ظلم طاغوت عصره هارون العباسي، فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.

اخرى
منذ 5 سنوات
5787

قطرات بلا سحاب

بقلم: حنان الزيرجاوي بعد أن أتمَّ صلاة الليل، كعادته فتح كتاب الله؛ ليقرأ بعض الآيات الكريمة بصوته الشجيّ الذي ما أن تسمعهُ إلا ويقشعرُّ بدنك لعظمة خالق هذا الكون ورحمته وعطفه على عباده، ويُشعركَ بأنّكَ تُبحرُ في ذلك العالم المتلاطم الأمواج الذي تتقاذفه الأهواء. نعم، هكذا اعتاد أن يفعل. وقبلَ أذان الفجر بقليل خرج إلى باحة داره وهو ينظر إلى السماء ويفكر في هذا الخلق غير المتناهي، وإبداع صانعه وقدرة خالقه... ثم تأخذُه التفاتةٌ إلى قمرِ تلك الليلة المنير. نعم، إنّها ليلة الثالث عشر من الشهر القمريّ ونور القمر يُبهرُ الناظرين، وبين تلك الالتفاتة وسحر الانبهار، تذكر أنها ليلة استشهاد الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين وبضعة المصطفى وحليلة المرتضى وأم السبطين. جلس وهو يجر آهات حزنه. جلس وهو يتذكر ما عانت من آلام جلس وهو خائر القوى. وبين ذلك الجلوس وتلك التساؤلات أحسَّ بقطرةِ ماءٍ نزلت عليه من السماء. نظر إلى الأعلى لم يجد سحابة ينفذُ منها المطر. طأطأ رأسه فانهالت عليه قطرات أخريات. رفع رأسه فلم يجد شيئاً وبين تساؤلاته وحيرته وإذا بصوتٍ حزينٍ يشقُّ جدار ذلك الصمت الرهيب. إلى أين تنظرُ إلى أين؟ نظر َيمينًا شمالًا فلم يجد أحدًا. هل أنا في حلم؟ وقبل أن يكمل... أنا... أنا... نعم أنا أنظر إلى أعلى. أنا الذي أكلمكَ... نعم، أنا القمر الذي أشاح بوجهه في مثل هذا الوقت في غابر الزمان. أشاحَ بوجهه عن الدنيا. وهذه القطرات هي دموعي التي انسكبت مني عنوةً بعد أن حاولتُ أن أحبسها حتى لا تفضحني، ولكنها انسكبت... أتدري لماذا؟ في مثل هذا الوقت وفي تلك الليلة وقُرَيب الفجر كما نحن الآن رأيت نعشًا يُحملُ فوق أكتاف رجال قلة، ومن خلفهم صبيان لم يكن المشيعون إلا أقل من عدد الأصابع. التفتُ لمن حولي وأنا في ذهول أتساءل: أين تلكمُ الأمة ذهبت، فلا أرى من يسير خلف هذه الجنازة إلا هؤلاء؟ تساؤلات وتساؤلات وأنا التفتُ من هنا ومن هناك. وإذا بصوتٍ من كوكبٍ حزين. أتدري جنازة مَن هذه؟ كلا.. كلا.. آه... آه... إنّها جنازة بنت نبي هذه الأمة. عجبًا! عجبًا! بنت نبي هذه الأمة! نعم... نعم... هنا بقيتُ أراقب، فإذا بذلك الرجل الذي خبرته وصاحبته ليلًا؛ لأنه صديقي في الليل، وقد اعتدت سماع مناجاته، ولكن ما أدهشني هو أن قواهُ منهارة. نعم، وإذا به يبقى وحيدًا معها يحفر قبرها، ينزلها في ملحودتها، يُهيل التراب عليها. يجلسُ يخطُّ تراب القبر بأنامله، يرثيها بأجمل الكلمات. نعم، وأنا أسمعُ وأرى كلّ ذلك الحنين. ولكن ما جعلني أنهار وأُمطرُ الدنيا بدموعي عندما حانت مني التفاتة إلى تلك الطفلة الصغيرة وهي تندب أمها. هنا انقطع الصوت؛ لأنّ ذلك الرجل أُغميَ عليه. فبلَّلَهُ القمرُ من دموعه حتى أفاق.

اخرى
منذ 4 سنوات
500

دور علماء الحوزة العلمية في الحفاظ على اللغة العربية من التتريك المجدد الكبير نموذجًا (الحلقة الأولى)

بقلم: دينا فؤاد المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الغر الميامين. أما بعد ... تعتبر اللغة العربية ظاهرة مجتمعية إنسانية، وقد بحث الكثير من الكتّاب والباحثين عن تاريخها وكل ما يتعلق في وصفها وتفسيرها من المناهج والنظريات اللغوية والتربوية، وقد حاول البعض كشف السر في اتقانها واعجازها، ولكن كل ما تم كتابته لا يكشف السر الحقيقي لهذا الاعجاز والاتقان. ولقد تعرضت اللغة العربية وما زالت تتعرض لحد الآن إلى أشرس هجوم موجه نحوها سواء أكان من أعدائها أو من نفس أبنائها بعدم مبالاتهم بقواعدها وأساسياتها، ولو فرضنا أن هناك لغة قد تعرضت لما تعرضت له هذه اللغة العظيمة لضاعت واندثرت منذ زمن طويل، ولكن شاء الله أن يحافظ على هذه اللغة ويجعلها خالدة وصامدة في وجه كل من يهاجمها. ومحور بحثنا يدور حول الهجمة التي تعرضت لها لغتنا الأصيلة في ظل الحقبة المظلمة للحكم العثماني ومحاولة الحفاظ عليها بعد أن حاول البعض تبديلها باللغة التركية، فشهد التاريخ آنذاك نهضة علمية وفكرية وقفت ضد هذه الهجمة وردّها، لتكون درساً قاسياً بوجه كل من يحاول العبث بلغتنا الأم، لغة القرآن الكريم. ومن أبرز المحافظين على لغتنا العربية السيد المجدد الكبير محمد حسن الشيرازي، لقد ضم التاريخ في صفحاته الخالدة شخصية عظيمة، وهي شخصية المجدد الكبير الذي عد بحق نموذجاً رائعاً، حيث كان لدوره على مسرح الأحداث السياسية والفكرية والاجتماعية صدى كبير، ولهذا كان البحث بعنوان: دور الحوزة العلمية في الحفاظ على اللغة العربية من التتريك السيد المجدد الكبير نموذجاً. وقد يثار تساؤل حول السبب في جعل المجدد الكبير (الشيرازي) نموذجاً في الحفاظ على اللغة العربية وبالتالي الحفاظ على الهوية العربية مع انه لم يكن حياً آنذاك في وقت سياسية التتريك؟ والجواب: أولاً: وإن كانت سياسة التتريك كمصطلح رسمي ـــ وهو مصطلح يطلق على عملية تحويل اشخاص ومناطق جغرافية من ثقافتها الاصلية الى التركية بطريقة قسرية اي بالإكراه أو الاجبار والقهر غالبا ـــ للسياسة العثمانية تجاه العرب، ولكن المتأمل في الفترة التي حكم فيها العثمانيون والتي سبقت ظهور هذا المصطلح يجد الممارسات العثمانية في التتريك ولو لم تكن على مستوى الإكراه ولكن كان معمولا بها. وقد يرد اعتراض من قبل بعض الباحثين بعدم قبول مثل هذا القول ويدعي أن العثمانيين يحبون العربية، نقول: هذا صحيح ولكن حصوله كان بعد سيطرة جمعية الاتحاد والترقي. ثانياً: من المعروف أن الذي يبتكر طريقة في الحفاظ على الهوية العربية أو اللغة العربية، ويسير عليها تلامذته من بعده ويطبقونها يعتبر هو صاحب الفضل والدور الريادي له، فهو صاحب النظرية والابداع حتى وإن لم يعلم بحصول هذه السياسة فيما بعد. ثالثاً: بل ربما الارهاصات التي سبقت مرحلة سياسة التتريك وقراءة الواقع قراءة واعية فسوف تكون سببا للتفكير الجاد في وضع خطط في مواجهة المستقبل المحتمل. التمهيد مفهوم دور علماء الحوزة العلمية في اللغة والاصطلاح الدور لغة: (دور (أسم): الجمع: أدوار. الدور الاجتماعي: السلوك المتوقع من الفرد في الجماعة، أو النمط الثقافي المحدد لسلوك الفرد الذي يشغل مكانة معينة). (١) والدور اصطلاحاً: (هو مجموعة من الأنشطة المرتبطة والأطر السلوكية التي تحقق ما هو متوقع في مواقف معينة). (٢) الحوزة في اللغة: (حوزة: اسم، والجمع: حوزات، حوزة الرجل: ما في ملكه، حوزة الإسلام: حدوده ونواهيهه، حوزة الشيخ: مجلسه الذي يلقي على مريديه فيه العلم). (٣) وأما الحوزة إصطلاحاً فلا يمكن تحديد المعنى الدقيق لهذه المفردة إلا بعد إضافتها، فإذا أضيفت لها العلمية للتعبير عن معناها الاصطلاحي، فهي المكان الذي يحاز فيه العلم. (٤) والحوزة العلمية في الاصطلاح: (هي كيان علمي وبشري يؤهل للاجتهاد في علوم الشريعة الإسلامية، ويتحمل مسؤولية تبليغ الأمة وقيادتها). (٥) وعرفت أيضاً: (مركز التعليم الديني الذي يتبع في طريقه تعليمه النهج الذي تربى عليه الفقهاء السابقون منذ عصور الإسلام الزاهرة وحتى العصر الحاضر). (٦) اللغة: (اللغة: اللسنُ .. وأصلها لغوة على وزن فُعلة من لغا إذا تكلم، ولغوت إذا تكلمت، والجمع لغات ولغون، والنسبة: لغوي) (٧) واللغة اصطلاحاً: (هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). (٨) وأما اللغة العربية: (فيضاف لها أنها لسان الإسلام ووحيه المعجز والتي ضمن لها القرآن الخلود الذي أراده الله لهذا القرآن والحفظ الذي ضمنه الله تعالى لهذا الذكر الحكيم). (٩) التتريك لغة: (ترك ـــ تتريكا، تركه: جعله يتخلق بأخلاق الأتراك ويأخذ عاداتهم ويتكلم بلغتهم). (١٠) والتتريك اصطلاحاً: (هو مفهوم يطلق على عملية تحويل أشخاص ومناطق جغرافية من ثقافاتها الأصلية إلى التركية بطريقة قسرية أي بالإكراه أو الاجبار والقهر غالباً). (١١) المبحث الأول: الحوزة العلمية والحكم العثماني لمحة عن تاريخ الحوزة العلمية تعتبر الحوزة العلمية هي مؤسسة عظيمة أسسها الشيخ الطوسي في النجف، وقد هاجر إليها أثر حوادث العنف التي حدثت في بغداد عام 448هـ، فوجد فيها حركة علمية فسعى إلى إنماء هذه الحركة (١٢)، فاختار النجف لتأسيس (ترسانتها) الحوزة العلمية (١٣)، فكانت هذه الهجرة التي تولتها العناية الإلهية هي البداية لتأسيس أكبر وأهم وأقوى الحوزات الدينية على الاطلاق. وقد ظهرت الحوزة العلمية للشيعة وانبثقت أهميتها بالمرجعية الدينية العليا، والذي يتولى زعامتها هو من شاء الله لأن يكون نائباً عامًا عن الإمام المنتظر الغائب (عجل الله فرجه الشريف)، بمعنى أنها: (الصلة الشرعية القائمة على الاجتهاد في غياب الإمام المعصوم) (١٤). ويتمتع المرجع الديني بشخصية قوية تبرز مكانته الاجتماعية في عموم المجتمع، والتي تقوم من خلال اهتمامه بالإحاطة بمصالح الأمة وحمايتها، الأمر الذي يعكس ابعاد التفكير وسعة الصدر وحدة العقل لهذه الشخصية. أهمية الحوزة العلمية للأمة مما لا شك فيه أن هناك أهمية بالغة للحوزة العلمية تظهر آثارها على أوساط الأمة الإسلامية بصورة عامة والأمة الشيعية بصورة خاصة، وذلك من خلال الوجود العميق للحوزة الحاصل بتأثر الأمة، وهذا الوجود أوجده الامتداد المرتبط من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الباب الأول لمدينة العلم وينبوع الحكمة وصولاً إلى الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن (عليه السلام). وقد جاءت النصوص الشريفة من أهل البيت (عليهم السلام) بالرجوع إلى أهل العلم من علماء الأمة في معرفة أحكام الله ونواهيه وحدوده، والاقتداء بهم، فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام): "ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على ايدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه" (١٥)، ومنها أيضاً قول الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف): "وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". (١٦) كل هذه التوصيات من قبل الأئمة الأطهار وغيرها أدت إلى انصياع الشيعة الامامية للحوزة العلمية وعلمائها، والذين هم بدورهم قد ساهموا في نشر وحفظ علوم أهل البيت (عليهم السلام)، وأيضاً كان لهم الدور الكبير في حماية القواعد الإسلامية ومواجهة الانحرافات المختلفة والتي تصب في غاية واحدة وهي تشويه قيم ومبادئ الدين الإسلامي والقضاء عليه. قوة المرجعية لا شك في ان المرجعية تمتلك قوة كبيرة وعظيمة والتي كان لها الأثر الواضح في بسط هيبتها على ساحة المذهب الإمامي، ومرجع هذا يعود لهيبتها القدسية في نفوس الموالين لآل البيت (عليهم السلام)؛ باعتبارها امتداد لمقام المعصوم (عليه السلام)، فالمرجع الأعلى يمثل دور النائب العام للإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، ومما ساعد على اكتساب القدسية وجود عاملين مهمين، وهما: الإحاطة بمعارف أهل البيت (عليهم السلام)، والتقوى. (١٧) ولأجل ذلك كانت الكلمة الأولى والأخيرة وما زالت هي للمرجعية العليا، وبذلك أصبحت هي المالكة لزمام قيادة أبناء المذهب الإمامي، وقد حافظت على هذا المنصب الكبير بدون أي منازعة تذكر، لأن امتلاكها هذه السلطة العظيمة لم يكن بخلافة ولا انتخاب أو اخضاع أبنائها بالقوة العسكرية، ولم يكن من خلال كسب الأصوات بالإغراءات المالية، وهذا ما أدى إلى زيادة الحقد والكراهية من قبل المعادين لمذهب الإمامية للمرجعية، فعمدوا إلى إثارة الفتن والشبهات، وحياكة المكائد والمؤامرات من أجل اسقاط الهيبة القدسية لتلك المؤسسة العظيمة، ولكنها بائت جميعها بالفشل بفضل العناية الإلهية. وبذلك أصبحت المرجعية تحتل القوة الاجتماعية والسياسية الكبيرة في المجتمع العراقي، والتي بدورها قلبت الموازين في وسط الساحة، وغيرت مجرى الأحداث فيها، وعلى هذا الأساس تم التحول الملحوظ في تاريخ العراق في السنوات التي أعقبت تأسيس هذه المؤسسة العظيمة. (١٨) ________________________ 1 ـ العطية، مروان، معجم المعاني الجامع، مادة دور. 2 ـ لورنس برفين، علم نفس الشخصية، ص58. 3 ـ العطية، مصدر سابق، مادة حوزة. 4 ـ ينظر، علاء الدين محمد تقي سعيد الحكيم، حركة التجديد في الحوزة العلمية في العراق إبان الحكم العثماني المباشر (1831م ـ 1918م)، رسالة دكتوراه، جامعة الكوفة، كلية الآداب، ص6. 5 ـ البهادلي، علي أحمد، الحوزة العلمية في النجف معالمها وحركتها الإصلاحية، ص94. 6 ـ محمد عبد الهادي الحكيم، حوزة النجف الأشرف، ص20. 7 ـ ابن منظور، لسان العرب، م5، مادة لغة. 8 ـ إبراهيم مصطفى وأحمد حسن الزيات، المعجم الوسيط، ج2، ص831. 9 ـ محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، ص10. 10 ـ ن.م، مادة ترك. 11 ـ ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، HTTPS//AR.M.WIKIPEDIA.ORG. 12 ـ ينظر، حسن الحكيم، الشيخ الطوسي (رسالة ماجستير)، جامعة بغداد، كلية الآداب، 1975م، ص58. 13 ـ ينظر، سامي البدري، النجف المعاصرة وحجر الزاوية في المستقبل المشرق الموعود، نشرة فجر عاشوراء، ص3. 14 ـ النجف الأشرف إسهامات في الحضارة الإنسانية، وقائع الندوة العلمية التي عقدها مركز كربلاء للبحوث والدراسات، ص536. 15 ـ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص80. 16 ـ ينظر، الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، كتاب القضاء، ص101، ح9. 17 ـ ينظر، الخباز، منير، معالم المرجعية الرشيدة، ص7. 18 ـ ينظر، صلاح عبد الرزاق، الحوزة العلمية في النجف الأشرف ودورها الجهادي، ص23.

اخرى
منذ 4 سنوات
1465

منتهى الثبات...

بقلم: كاردينيا ياس كم لك أن تصبر... وتصبر... ثم تصبر لكن يأتي اليك موقف مع صغرِهِ... إلّا أنه كإبرة تضرب بالونًا... فإذا بك تنفجر... وتفقد كل ما دَأبتَ على أن لا تفقده... لكن... مولاتي... تجرعت من الغصص ما تجرعتِ... و على خريطة المصاب كانت... تخطو بثباتٍ فما تسرَعت... ورأت بأيامها... ما لو أُخذ منه يوماً... وعلى الجبال الراسيات وضِع لتصدّعت... ومع هذا... كان لها ما كان... و عند دخولها... على يزيد وحوله الأعوان... خَطَت بخطىً فاطمية... وعليها الإباء والنصر بأن... إلى هنا هي على خيرٍ وقد يتشارك معها إنسان... لكن... حين جاءت إبرة الطاغية على هيأة سؤال شمتان: (كيف رأيتِ صُنعَ الله فيكِ..؟) قالها وانتظر منها ضعفاً وهوانا... هنا كانت مطاولة الصبر... مزيةٌ تفردتْ عندها بِإتقان... حين أجابت من فِيهِ المصطفى والمرتضى... مؤيداً من لَدُن الحنّان المنّان... (ما رأيتُ إلاّ جميلا) فَتجلّى بِصرحِ الطُغاة المظلمِ... نورُ الثبات... وحلاوةُ الإيمان... لتكون َ مولاتي روحي لها الفداء أنموذجاً... لا للثبات فحسب... بل لِمنتهى الثبات.

اخرى
منذ 5 سنوات
632

السلاسل الحزينة

بقلم: ريحانة المهدي بكاء وأنين... صراخ وعويل أجساد مطروحة... رؤوس مقطوعة قلوب مفجوعة... عيون باكية... أجسام منهكة... جائعة... أتعبها العطش... نساء مخدرات تلوذ إحداهن بالأخرى من شدة الحياء.... إمامٌ... بقي النور يسطع من وجنتيه... بجسم نحيل وعيون دامعة...قد أخذ المرض والألم منه مأخذه... فبالكاد يستطيع الوقوف... سيدة جليلة ذات وقار وخمار... لم تتخل عن حجابها حتى وهي وسط تلك النار .... نار الحرب الدامية، نار عاشوراء التي كانت تشبه النار التي أشعلوها في دار أمها… قطعوا قلبها بقتل إخوتها وأولادها وأبناء عمومتها وعشيرتها… أحرقوا خيامها… ضربوها بالسياط… ولكنها... كانت كالجبل الشامخ، رغم حالها وما جرى عليها... تجمع الأطفال من بين الخيام والنار... تلوذ النساء بها... لأنها الحامي من بعد أخوتها ... معينة لابن أخيها السجاد (عليه السلام) تسانده وتؤازره... ورغم كل مصابها كانت تقول "اللهم تقبل منا هذا القربان" سيدةٌ... وهل بالوجود مثلها... بعزها ومكانتها... تلك هي.... زينب... رأت بأُم عينها كيف أن الشمر قد حز رأس الحسين وقطع الأوداج من الوتين... وبعد سويعة انتهى كل شيْ... بقيت وحيدة... تجمع العيال والأطفال بقلب مفجوع وعيون أتعب جفونها الأنين... قد جعلوا الرؤوس أمامها تسير، ليقطعوا نياط قلبها الحزين هذا ما رأيت –أنا تلك السلسلة- في يوم عاشوراء... كنت مذهولًا وحزينًا... رغم أني ليس لي ذنب بما جرى... تمنيت أن لم أكن موجودًا في ذلك الزمان… لقد شاركتُ أعداءهم... يا ويلي... ربطوني بأيدي سادتي فأقرحتها... وسالت الدماء من أرجلهم، فليتها أذابتني كما أذابت قلبي... كنت متألمًا... وحزينًا... وما كان يؤلمني أكثر هو دموع سيدة الصبر والشموخ، التي كانت تتساقط بصمت ، وزفرات وحنين... حزنت وتمنيت أني لم اُخلق، وليتني كنت نسيًا منسيًا... عن أن أسير وثقلي معهم يسير... عذّبتُهم... وما عذّبتُ إلا نفسي... سرت معهم... وليتني لم أسر إلى ذلك المجلس الذي ما فارق اللهو والخمرا... فعذرًا منكم يا آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) فأنا من حديد ولم يبق لي تاريخ مجيد فحريٌ بمن يراني أن يتذكر زينب الصبر والخلود ... تلك التي... وقف الزمان أمامها متحيرًا... والصبر من صبر العقيلة يعجبُ هي سيدة الوجود بعد أمها الزهراء (عليها السلام) تلك هي زينب...

اخرى
منذ 5 سنوات
1884

زينب (عليها السلام) آيات للعابرين

بقلم: منتهى محسن لم تكن كبيرة لتتحمل ألم الفراق، ولم تكن ناضجة لترتق شق الفقدان، فما زالت غضة تسبقها دموعها كلما اشتاقت لأمها، وهالة الفقد ترتسم على سيماء وجهها الطفولي الجميل، جُل ما كانت تستطيع فعله أن تجلس بحجر أبيها، تتلمس بقايا لمسات أمها البتول، او تتصفح وجهي أخويها لعلها تروي ضمأها الشديد نحو تلك الطلة النورانية الراحلة . _ اشتقت لعطرك الملكوتي أمي، ودفء حجرك، وتناسيم صوتك في الدعاء، وهمهمتك وتهجدك في الصلاة، وأنفاسك الزكية العبقة بعطر الجنان. _ أماه.. هل تسمعينني، أنا بنيتك "زينب"، أطارح الليل الطويل ودموعي تملأ وسادتي حنينًا اليك . _ بالله عليك، هلا أخبرتني من سرقك مني؟ ومن أوجعني على صغري بحرماني وفقدي إياك ؟! هكذا غُيبت شمس النهار واستحال الكون ظلامًا في حياة تلك الطفلة الصغيرة التي أذاقتها الدنيا طعم المر على نعومة أظفارها، ولم تكن تلك المأساة أول الصدمات وآخرها، فلطالما توجع قلبها مرارا وتكرارا . _ أبتاه يا سندي، كلما اشتقت لوجه أمي النوراني حدّقت بوجهك فيصلني قبس نورك، فمالي أراك تنعى نفسك في هذه الليلة؟ وتجيبني : "يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل".. فهل ينفع البكاء والعويل ؟! _ أبتاه .. حتى الإوزة أبت رحيلك فخرجت وراءك تستبقيك، ورفرفت بجناحيها تناديك، وصاحت بوجهك تثنيك! _ حتى الباب شد وثاقك وهاله خروجك الأخير، فأَمسك بمئزرك لا يود فراقك، كأنه هو الآخر يحاول ثنيك عن الخروج هذه الساعة ويخشى ابتعادك، ورحت ترفعه وتشده من جديد وأنت تردد : أشـدد حيازيمك للموت *** فإن المـوت لا قيكـا ولا تجـزع من الموت *** إذا حــل بنـاديكـا كما أضحكـك الـدهر *** كذاك الدهـر يبكيكـا _ أبتاه ..لما فقدتُ أمي البتول، كنتَ أنت عكازي الذي اتكأ عليه، ومرفأي الذي ألوذ اليه، والظل الذي احتمي فيه، فمن لي بعد انطفاء نورك ورحيلك؟ لقد آن لذلك القلب أن يتجرع الحزن مرات طوالًا، وأن تنهال عليه الهموم باستمرار ، ليتجلد ويتقوى ويتهيأ لفاجعة مهولة قادمة بمشيئة الله، وبصدور حرى، وقلوب عبرى، جرى القدر وفاضت روح الأب المغوار، وصار الفقد عظيمًا والمصاب جسيمًا، والحزن عميقًا، فلم يبق قربها الا أخواها الحسنان (عليهما السلام) يؤنسانها ويكفكفان دموعها ويخففان عنها ألم الحرمان . _ أخي حسن، يا أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله ) خلقاً وخُلقاً وهدياً وسؤدداً، هل ستغادرني أنت أيضًا وتتركني أقاسي فراقك الموجع؟، يا لِلوعة قلبي المنفطر وقد تقطع كبدك اثر ذلك السم اللعين، ويا لحنانك الأخّاذ وأنت تأمر بإخفاء الطشت الذي تلفظت به كبدك رحمة بي وإشفاقا! واغربتي بعدك يا ابن الأكرمين ؟! وتستمر المواجع تنهال على ذلك القلب الصبور، وكل محنة تهدّ الجبال الراسيات، وتظل تلك الروح تتجرع الآهات والصدمات كل حين، والضربات تتوالى دون توقف أو نفاد. ومضت السنين تخطف الأحباب واحدًا تلوى الأخر، تاركة الندبات في شغاف القلوب الذابلات، لترتمي زهرة الحياة مياسة تتدلى ذابلة بعد ان أدمتها النوائب والفاجعات ، وأشدها وقعًا ومصابًا فاجعة كربلاء. فلقد ذوى قمر بني هاشم على رمضاء كربلاء بعدما استبسل لجلب الماء لعيال الحسين، وقد قطع الأوغاد كلتا يديه بكل لؤم وخبث، فلما سقط صريعا انهارت اخر محطات الوفاء والإخلاص. _ الآن انكسر ظهري وشمت عدوي وقلة حيلتي . _ « وأخاه ، وا عباساه ، وا ضيعتنا بعدك » تشظى صراخ العقيلة في صحراء كربلاء، وقد رمتها الدنيا بسهم الغدر من جديد، وهذه المرة بأخيها قمر بني هاشم، فتلظت تحترق على جمر الصبر والاحتساب . ولم يبق لها في الوجود الا ذلك المصدر الوهاج، عشقها الوحيد وملاذها الفريد، وتوأم روحها وشقيق فكرها ومهجة قلبها، فلقد كانت تبصر من عينيه شجاعة أبيها، وصبر أمها، وحلم أخيها، وبهاء جدها رسول الأنام (صلى الله عليه وآله) . _ ألا من ناصر ينصرنا ، ألا من موحد يخاف الله فينا؟! تعالت داعية الحسين على رمضاء كربلاء نذيرًا حزينًا، بعد أن تساقط الأصحاب والإخوان وفلذات الأكباد صرعى على وجه الثرى، وزينب (عليها السلام) تتجرع كأس المنون . _ أي أخت تقدم لأخيها جواد المنية؟ وا غربتنا بعدك يا أخي ؟ وا ضيعتنا بعدك يا عزيز أمي الزهراء ؟ _ وا أخاه ، واسيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، وليت الجبال تدكدكت على السهل. _ يا عدو الله ويلك! أما علمت أنّ هذا الصدر تربى على صدر رسول الله، وصدر فاطمة الزهراء؟! ويحك ! هذا الذي ناغاه جبرئيل ، وهز مهده ميكائيل!! لم تقف الحكاية الى هذا الحد من الظلم والإقصاء، ولم يكتفِ حفنة الأوغاد من شن همجيتهم على اشرف بيوت الإسلام، بل تمادوا أكثر وسجلوا أبشع المواقف وأخزى الأحداث؛ أحداث يندى لها جبين الإسلام . حتى أهالوا الأطفال والنساء ومارسوا عنجهيتهم بكل إتقان، وأمروا بحرق الخيام وروعوا حرائر بيت رسول الله، فتعالى الصراخ وزاد الهلع والخوف ببنات الرسالة أمام لهب النيران، فلم يبق يومئذ من الأشراف إلا زين العباد (عليه السلام) _ يا ابن أخي : ما لي أرى الكون قد تغير؟ والشمس انكسفت ؟ والأرض ترجف ؟! _ لقد قتل أبي الحسين ، قُتل أسد الله الباسل ، قتل ابن سيد الأوصياء ، قتل ابن فاطمة الزهراء . سقط أرضا باقي العترة الاطهار وقد غشي عليه مكبوباً على وجهه، تلقفته سليلة المجد والفخر بارتجاف يديها وبقلبها الكبير ومحبتها الفائقة، لتنظّم سيناريوهات الحقد وقعاتها المدوية على ذلك القلب الصابر المجاهد بأشد ما يكون. _ يا بقية الماضين وثمال الباقين، واغربتاه ! وا أخاه ! وا حسيناه ! وا عباساه ! وا رجالاه ! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله. عزفت السماء سمفونية العزاء وشاركت ملائكة السماء ذلك الرثاء، وشارك الكون النوح والبكاء، فأي فقد بعد فقد سيد الشهداء، وأي خطب حل بالأرض والسماء ، وأي ظليمة لحقت بالآل الأطهار؟! وكل تلك السلسلة من الأحداث المريرة والفقد العظيم حواه قلب واحد أبصر مختلف المحن والانتهاكات، وبهذا ذابت شمعتها بعد عام واحد من تلك الأحداث، ورحلت الى بارئها تشكو جور الظالمين القساة، رحلت بجسدها الفاني وخلدت بروحها السامية ومواقفها البطولية الرائدة التي أبهرت بها العدو قبل الصديق . رحلت مودعة أفق الحياة التي لم تُذِقها سوى الويلات، رحلت إلى جنة عالية قطوفها دانية حيث الروح والريحان ، لتجتمع في الفردوس الأعلى مع جدها رسول الله وأبيها حيدر الكرار وأمها سيدة النساء وأخوتها البواسل أجمعين، واولادها الذين تساقطوا نجوما على ارض كرب وبلاء، رحلت وظل حراكها وصبرها آيات للعابرين ابد الزمان .

اخرى
منذ 5 سنوات
3094

شكر وعرفان

بقلم: رضا الله غايتي كان الكثير من الناس يطوفون حول الكعبة ويتمسحون بي، ولا غرو في ذلك فقد كان شهر رجب الحرام، رافعين أيديهم بالدعاء تحثهم إلى ذلك الحاجة ويحدوهم الرجاء، كنت آنف تارةً وابتهج أخرى؛ فقد كانوا خليطا من المشركين الذين يتضرعون للأصنام والقلة من المؤمنين الذين يدعون الله الواحد العلام. كم كنت أتمنى ان لا يمسني إلا موحد، وأن لا يطرق مسامعي إلا التضرع إلى الله الواحد الأحد. وبينما أنا أتأمل أمنيتي وأتخيلها على صفحة مخيلتي، إذ شعرت باقتراب تحقق ذلك الحلم الجميل. فسُرّت لذلك نفسي، وانشرحت، وما زادها سرورا وانشراحًا تلك الدعوات الصادقة المخلصة التي ملأت أركان قلبي واستقرت بروحي "يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني الا ما يسرت عليَّ ولادتي" (1) حينها، شعرت بدنو ناصر دين التوحيد، فسُررتُ ووددتُ أن أحتضنه لولا أنني للذراعين فاقد. وأنا بهذا الحال إذ أمرني الرب المتعال بأن أنشق، عجبًا وأنى للحجر أن ينشق! ولكني امتثلت الأمر في الحال، وكيف لا؟ ومن يفلق بحرًا من البحار، هل يُعجزه شق الجدار؟ أم كيف أتردد؟ ومن أسر قلبي واستقر في فؤادي يروم الدخول عبري وهو في أحشاء أمه التقية النقية؟! وما أن دخلتْ تلك الحرة الطاهرة، حتى أمِرتُ بالالتئام، فالتأمت، وأُمِرت الأبواب بالعصيان عن الفتح، فامتثلتْ، فكم حاولوا فتحها ولكنها -طاعةً لأمر الإله- أبتْ. ولم يمضِ وقت طويل حتى أشرقت شمس الوليد في الكعبة، وكاد سنا نور وجهه البهي يخطف بصري. وامتلأت أعماقي سكونًا وخشوعًا حين سمعته يردد ساجدًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن علياً وصي محمد رسول الله، وبمحمد ختم الله النبوة، وبي تتم الوصية، وأنا أمير المؤمنين" (2) فعلمت أن المولود أميرٌ للمؤمنين، وحمدت الله حمدًا كثيرًا وشكرته شكرًا وفيرًا؛ لقرب تحقق أمنيتي، متنعمًا بنعمة وجودهما المقدس بقربي، وأنا أراهما يتنعّمان بالعناية الربانية التي أحاطتهما بهالة من التميّز، وخصّتهما دون العالمين من الأولين والآخرين بهذه الكرامة. وبعد مرور ثلاثة أيام، مرّت لشدة فرحي كلمح البصر، رأيت السيدة الطاهرة تحمل وليدها وهي تروم الخروج، فداخلني شيء من الحزن لفراقهما، الذي سرعان ما تبدد، بل تبدل إلى فرح وحبور عندما هتف هاتف: "يا فاطمة سمّيه عليًا فهو علي، والله العلي الاعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي، وأدّبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الذي يكسر الاصنام في بيتي، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدسني ويمجدني، فطوبى لمن أحبه وأطاعه، وويل لمن عصاه وأبغضه..."(3). وهكذا أمِرتُ ثانيةً بالانشقاق، فامتثلت. لكني بقيت أحنّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فينشرح صدري كلما رأيته. وتطمئن نفسي كلما سمعته. وأنا أترقبه بكل شوقٍ ليطوي سني طفولته ويكبر، كيما يحقق حلمي في إماتة الظلم، وللأصنام المقيتة يكسر، ولدين الله الاسلام ينصر.. وتمضي السنون، وتبدأ الدعوة إلى دين التوحيد. ولكنها سرعان ما جوبهت برفض عُبّاد الدنيا مظهرين عداءهم الشديد. متفنّنين في تعذيب المسلمين بالسياط والنار والحديد. حتى حلّ عام الحزن الذي خيّم فيه الحزن على الجميع، لاسيما قلب النبي الحبيب (صلى الله عليه وآله). وأيتم أميري لفقد أبيه أبي طالب، وأُيتمتُ لفقدي إياه وكل أحبتي. إذ أمر الله سبحانه المسلمين بالهجرة من مكة إلى المدينة، بعد أن عدموا الناصر والمحامي.والمعين ولكن، رغم حزني عليهم وحنيني إليهم، اللذين يزيدان يومًا فيومًا، إلا أني كنت أستشعر قرب النصر وازداد أملًا، حتى جاء ذلك اليوم الأسعد، الذي فُتحت فيه مكة المكرمة، وساد به دين الإسلام، وأضحى هو الدين الأوحد، وحُطِّمت به جميع الأصنام، وأُزيلت من على كاهلي، فتنفستُ الصعداء ورمتُ أن أشكر محطِّمها... فإذا به هو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)! منذ ذلك اليوم، وأنا أحمل آثار الانشقاق، أُزيّن به صدري، وأقدّم به لسيدي ومولاي عظيم عرفاني وجزيل شكري، ولأثبت به للقاصي والداني منقبته على مدى الدهر، بالرغم من محاولة الأعداء طمسه بتجديد البناء تارةً وبملئه بالفضة أخرى... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) بشارة المصطفى ج3 ص12 (2) روضة الواعظين ص79 (3) الأمالي للطوسي ج2 ص298

اخرى
منذ 4 سنوات
1315

زينة أبيها...

بقلم: فاطمة الركابي إن من المعاني التي شُرح بها اسمها الشريف، والذي يُشير الى عمق وجمالية العلاقة بينها وبين الإمام علي (عليه السلام) كأب هو إن اسمها الشريف مشتق من: (زَين) و( أب) (١). وهو ما يعرف كلقب لها وهو "زينة أبيها". ولو بحثنا عن بعض مصاديق الزينة كثقافة قرآنية لوجدنا أن من مصاديقها: (البنون) كما في قوله تعالى:{...وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف:46)، وهي الزينة الظاهرية التي يَحصل عليها الإنسان. فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ...، إلى أن قال: أو ولد صالح يدعو له" (٢). بالنتيجة فإن البنين إن كانوا من أهل الصلاح والبِر، فهم زينة ظاهرية لكن باقية لا تزول بزوال الدنيا التي نُسبوا إليها كما في الآية. وعليه، فإن السيدة زينب (عليها السلام) وفق هذا المصداق هي ليست بقية صالحة وحسب، بل من أعلى مصاديق الباقيات الصالحات التي تركها أمير المؤمنين (عليه السلام)، لما لها من الشأن والعظمة عند الله سبحانه. وهناك مصداق قرآني آخر وهو: (الإيمان) كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}(الحجرات:7)، حيث تُبين هذه الآية أن هناك زينة حقيقية للإنسان، فالإيمان الذي يَحمله قلب العبد، هو الصبغة الإلهية التي تلون وجوده وتُنير قلبه، والنبي الأكرم (صل الله عليه وآله) وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الخندق بأنه الأيمان كله، حيث قال عنه: "برز الإيمان كله إلى الكفر كله" (٣). وفي هذا إشارة عظيمة لو حاولنا أن نربط بين ما يحمله الإمام من زينة وهي الإيمان الكامل، وبَين وصف السيدة (عليها السلام) بأنها "زينة أبيها"، فأي درجة من الإيمان تحمل السيدة؟ تعالى وحده يعلم! إن الإيمان - كما يقولون - "كالعشق تماماً، ينجذب الإنسان أمامه ثم يستوعب كل وجوده" نعم! هذه العبارة قد تلخص لنا حقيقة الإيمان ومراتب كماله، ولكن تخفي في طياتها تفاصيل كثيرة، وإنما لها أهلها، وهم النبي (صلى الله عليه وآله) وآل بيته (عليهم السلام)، فأهل البيت (عليهم السلام) بكلماتهم قد بينوا لنا أكمل درجات الإيمان وتجلى ذلك في سلوكهم وعملهم، فكما في الحديث "إن الايمان عمل كله" (٤) والسيدة زينب (عليها السلام) كسيدة علوية هاشمية مخدرة، عُرفت وتجلت أمامنا حقيقة كمال إيمانها من خلال مواقفها في مسيرها مع الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة الطف. فعن إمامنا الصادق (عليه السلام) أنه قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى في الله فقد كمل إيمانه" (٥). حيث إن أعظم مصاديق الحب في الله تعالى هو حب أولياء الله تعالى ومعاداة أعدائه، والسيدة بكل مواقفها وخطواتها وخطاباتها كانت مُظهرةً لحبها لولي أمرها وإمام زمانها سواء كان الإمام الحسين (عليه السلام)، أو الامام السجاد (عليه السلام) بعد استشهاد أبيه سيد الشهداء. أما في خصوص العطاء في الله سبحانه المذكور في الحديث، فهي (عليها السلام) أعطت أبناءها في كربلاء حتى قِيل إنه لم يذكر التاريخ أنها كانت تسأل عنهم أو تتفقدهم، بل سخرت كل وجودها في سبيل الله سبحانه. وورد أيضًا عنهم (صلوات الله عليهم): "ثلاثة من كُن فيه استكمل إيمانه: لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للأخرة آثر أمر الآخرة على أمر الدنيا" (٦). وهي (سلام الله عليها) قد كانت مصداقًا حقيقيًا لمن لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، ومِمَن يقول الحق وإن عز، وإن كان به قد تُفقد النفس، فقد صرحت بالحق حتى زلزلة عروش الظالمين حتى قيام يوم الدين، وللمتأمل في خطبها يجد أن العبارات كلها تشير إلى هذه الحقيقة. وبخصوص الصفة الثانية بهذا الحديث فهو متحقق بها أيضًا، فهي كانت في كنف زوجها عبد الله تعيش حياة كريمة مرفهة، فهو -كما ينقل التاريخ- كان ثريا جدًا، لكنها أعرضت عن زينة الدنيا ولازمت الإمام الحسين (عليه السلام)، ملبية دعوته كما قال: "من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح، والسلام" (٧)، فهي وإن لم تستشهد إلا أنها بلغت الفتح. وفي حديث آخر: "إن الله (عز وجل) وضع الإيمان على سبعة أسهم، على البر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الاسهم فهو الكامل" (٨). والسيدة (عليها السلام) قد جمعت هذه الأسهم السبع: السهم الأول: البِر. ومن مصادقه هو الانفاق المادي كالمال لأهل الاستحقاق، حيث كانت من ألقاب السيدة أنها تلقب "المرأة الكريمة" (٩)، وأم العواجز (١٠) حيث كانت تأوي وترعى وتنفق على العجزة وكبار السن والفقراء والمعوزين - وكما يُنقل- كانت تبني لهم دورًا بقرب دارها ليسهل عليها تفقدهم ورعايتهم. ومن مصاديقه هو الإنفاق المعنوي كالاهتمام بتعليم النسوة وحل مشكلاتهن الدينية والدنيوية. السهم الثاني: الصدق. فقد كانت (عليها السلام) من أهل الصدق، بل هي الصديقة الكبرى على كل النساء بعد أمها الزهراء (عليها السلام) فهي بالقياس بأمها فقط "صديقة صغرى"(١٠). السهم الثالث: اليقين. فالسيدة (عليها السلام) لما فقدت صاحب النهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، وحامل اللواء وكفيلها العباس (عليه السلام)، ولما تعرضت لسبي مع كونها فخر المخدرات، سارت في طرقات الكوفة والشام، ودخلت قصر أهل الجور والظلم، بقيت هي... هي زينب بنت علي (عليما السلام) لأنها لم تفقد رب السماء الذي بعين قلبها كانت تراه، فهي كانت ترى جميل صنعه، لا قبيح صنع خلقه فثبتت وواصلت. السهم الرابع: الرضا. هي (عليها السلام) لم تَكن من أهل الصبر فقط، بل من أهل الرضا بمكروه القضاء، فبلغت مرتبة الصبر الجميل حيث لما قيل لها "كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟ فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا،..."(١١)، وقولها: "اللهم تقبل منا هذا القربان"(١٢)، وكأنها تقول لنا: إنها ترتجي من كل ما أصابها بلوغ وتحقق القرب من مولاها، فكيف لا تكن راضية به؟! السهم الخامس: الوفاء. فمن القابها "أمينة الله" (١٢)، فهي الوفية بعهدها والأمينة على رسالتها ودورها الذي كلفت به من قبل إمام زمانها سيد الشهداء، فهي لم تنكسر بفقده بل واصلت المسير، وأدت رسالتها، فكانت لسفينة النجاة الشراع الذي أوصل نهضته إلى بر الأمان. فمن يرتبط بالله تعالى ويَكن تابعاً لدعاة الحق المرسلين من قبل الله تعالى، فإنه لا يتوقف بفقدهم عن مسعاه، بل تبقى رسالته حية في داخله، لأن رب الرسالة حي لا يموت. السهم الخامس والسادس: العلم والحلم. حيث قالوا في كلماتهم الطاهرة: "وعلما في حلم" (١٣)، فقد قرن الحلم بالعلم، فمن ثمار تحقق وجود العلم الإلهي في القلب هو وجود الحلم في حامله، والسيدة كانت من أهل الحلم لأنها من أهل العلم، كما وصفها إمامنا زين العابدين (عليه السلام) بأنها "عالمة غير معلمة" (١٤). فهذه محاولة واشارات عابرة حول تحقق كمال الإيمان في السيدة زينب (عليها السلام) التي كانت زينة لأبيها علي (عليه السلام). _____________________________ (١) زينب الكبرى من المهد الى اللحد: ص٢٦، نقلا عن كتاب القاموس. (٢) بحار الأنوار: ج٢، ص٢٣. (٣) بحار الأنوار: ج ٣٩، ص ١. (٤) الكافي للكليني: ج٢، ص٣٣. (٥) أصول الكافي: ج٢، ص٥١٠، ح١. (٦) تنبيه الخواطر: ج١، ص٥٦٢. (٧) كامل الزيارات، ابن قولويه: ص ١٥٧. (٨) اصول الكافي: ج٢، ص٤٥٢، ح١. (٩) زينب الكبرى من المهد الى اللحد: ص٢٧، نقلا عن كتاب لسان العرب. (١٠) المناقب لابن شهرآشوب: ج٤، ص١١٥. (١١) زينب الكبرى من المهد الى اللحد: ص٢٢٣. (١٢) مقتل المقرم: ص307. (١٣)بحار الأنوار: ج ٧٥، ص ٣٠. (١٤)بحار الأنوار:ج٤٥، ص١٦٢.

اخرى
منذ 5 سنوات
2187

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70053

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51090

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41263

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
35551

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
32503

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32173