بروايةِ صنم خُزَاعة!

بقلم: عبير المنظور كنتُ أكبرهم حجماً وأعلاهم شأناً وأرفعهم مقاماً، وضعني أتباعي على سطح الكعبة مع ثلاثمائة وتسعة وخمسين صنماً آخر على عدد أحياء العرب، وكان من اتخذوني إلهًا لهم يتضرعون إليّ لقضاء حوائجهم ويقدمون لي الهدايا والنذور، وكنت أشعر بالزهو والخيلاء حتى على بقية الأصنام، إلى أن أتى ذلك اليوم الذي غيّر كل شيء. إنه يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد ثلاثين عاماً من عام الفيل، جاءت امرأة من بني هاشم تُدعى: فاطمة بنت أسد، وقفتْ بإزاء الكعبة وقد أخذها الطلق، فرمت طرفها نحو السماء وتوجّهتْ بالدعاء: (ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وانه بنى البيت العتيق فبحق هذا الذي بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي)(١) فعجبتُ واستشطتُ غضباً، مَنْ هذا الرب الذي تدعوه فاطمة؟! ومَنْ يكون هذا الجنين لتدعو ربها بحقه؟! وفي هذه الأثناء رأيتُ أن جدار الكعبة قد انشّق، ودخلتْ فاطمة ثم التصق الجدار مرة أخرى وسط ذهول الجميع، وازددتُ عجباً لأنهم كلما حاولوا فتح باب الكعبة لم يُفتح، وبقيت فاطمةُ ثلاثة أيام داخل الكعبة، وكنتُ خلال هذه الايام الثلاثة أتأمل في سرّ هذه الحادثة العجيبة التي أصبحتْ حديث مكة، وكان يقطع تأملاتي صوت تهليل وتكبير منبعث من داخل الكعبة. وما زاد تعجبي واندهاشي أنّ شَقَّ جدار الكعبة ذاته قد فُتح مرة أخرى وخرجتْ فاطمة تحمل وليدها وقالت أشياء كثيرة، وذكرتْ نساءً لم أعرفهنّ كمريم وآسية، ولكن يبدو أن لهنّ شأناً عظيماً. منذ متى والنساء في الجاهلية لهن شأن؟! وعجبتُ أكثر عندما قالت: (فلما أردتُ أن أخرج وولدي على يدي هتف هاتف وقال: يا فاطمة سمّيه عليًّا، فأنا العلي الأعلى، وأني خلقته من قدرتي وعز جلالي وقسط عدلي، واشتققتُ اسمه من إسمي، وأدّبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، ووُلِدَ في بيتي، وهو أول من يؤذن فوق بيتي، ويكسر الأصنام ويرميها على وجهها، ويعظّمني ويمجّدني ويهلّلني، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي، محمد رسولي....)(٢) أوجستُ خيفة من قولها. أيعقل أن هذا المولود سيكسر جميع الاصنام؟! حتى أنا -صنم خزاعة- الموتد بأوتاد من الحديد؟! كيف يحطمني؟!. رغم أني لم اشك للحظة بصدق مقالها، لما رأيته من العجب في أمرها وأمر وليدها، مما جعلني أترقّب بخوف ذلك اليوم. ومرت الأيام والسنون، والخوف في داخلي يكبر من ذلك اليوم الذي سيحطمني فيه هذا المولود. وكَبُرَ عليٌّ، وكبر خوفي معه، فقد كانت فرائصي ترتعد خوفاً كلما جاء عليٌّ إلى الكعبة في صباه برفقة محمد المعروف في مكة بالصادق الأمين، مع زوجته خديجة بنت خويلد، ويؤدّون حركات لا أعرفها، كنتُ أسترق السمع إليهم، فسمعتهم يقولون أشياء كثيرة عن صلاة ودين جديد اسمه الاسلام، وأن محمداً هو رسول الله وخاتم النبيين، وكنت أرى أتباع محمد من المسلمين يتظاهرون حول الكعبة معلنين دين التوحيد، لا يخافون سطوة قريش رغم ما عانوا من التعذيب على إيمانهم برب واحد، ورأيتُ صحيفة مقاطعة قريش لهم على جدار الكعبة، وسمعتُ أنهم هاجروا من مكة إلى يثرب، عندها استعدتُ انفاسي قليلاً... فقد ابتعد عليٌّ عني، ورغم ذلك لا زال بعض الخوف يراودني في قرارة نفسي من أن يحطمني يوماً ما. وفي يوم الثامن من شهر رمضان من عام ٨ للهجرة، وقع ما كنتُ أخشاه، ورأيتُ محمداً وعلياً والمسلمين قادمين نحو الكعبة بعد أن فتحوا مكة، وقام محمد بتكسير جميع الأصنام في الكعبة وأخذ يطعنها بقضيب فيخرُّ كل صنم على وجهه ولم يبقَ من الأصنام إلا أنا. فاضطربت وخفق قلبي بشدة، وإذا بي أرى محمداً يرفع علياً على منكبيه، ويأمره بتحطيمي وهو يقول: (إيه إيه، جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)(٣) (٤). عندما أحسستُ بقبضة عليٍّ تحاول أن تزعزع كياني، حاولتُ جاهداً أن أقاومه، لكن عبثاً ضاعت محاولاتي في أن أتمسـّك بأوتاد الحديد، ولكن يبدو أن قوة قبضة علي أقوى من الحديد كثيراً، حتى تمكن مني وقذفني من أعلى الكعبة. وأنا أهوي إلى الأرض سمعتهم يهلّلون ويكبّرون، فعاد بي الزمن لواحد وثلاثين عاماً خلتْ، حينما سمعت ذات التهليل والتكبير يوم ولادة علي! فقصتي مع وليد الكعبة بدأتْ بالتهليل والتكبير وانتهتْ بالتهليل والتكبير أيضاً. إنها قصة برواية صنم خزاعة! _____________________ (١) بحار الانوار، ج٣٥، ص٨. (٢) امالي الطوسي، ج٢ ، ص٧٠٦. (٣) سورة الاسراء/ ٨١. (٤) انظر السيرة الحلبية ، ج٣، ص١٢٤.

اخرى
منذ 5 سنوات
4601

العيوب عند الزوجين...إضاءة وحلول

بقلم: منتهى محسن محمد من المتعارف عليه أن أول برمجة نتلقاها جميعا هي برمجة الأهل والأسرة فهي التي تؤسس لنا متبنياتنا الأولية في الفكر والسلوك ، وهي ليست صعبة التغيير إذا ما وجدت الإرادة والوعي لذلك. فقد يعيب الزوج على زوجته ضعف اهتمامها بالتنظيف ويدقق في هذه المسألة كثيرًا، وذلك لأنه تلقى قدرا مبالغا في هذا الجانب من خلال برمجته الأولى، ولما وجد الفرق بين البرمجة الاولى والواقع المعاش اهتزت الصورة لديه وأعرب عن انزعاجه وتذمّره خاصة بعدما يجد ان هنالك من يضع له الحلول الجاهزة كمحاولة للخلاص من مشكلته الخطيرة جدا ؟! ومن تلك الحلول الجاهزة الزواج من امرأة ثانية حيث تتيح له هذه الفرصة قدرا اكبر من تحقيق مطالبه بذلك الجانب المفقود لدى الزوجة الاولى ، وسواء جاءت الامور على ما يريد ام لا ، فالأمر سيان فربما لا ينعم بالهدوء والاستقرار مطلقا بعد ذلك ، وستكون له جملة من المشاكل الجديدة التي يثقل حملها . والملفت: أن صانعي هذا الحل يعتقدون بان ذلك الموقف يجبر الزوجة على الانصياع والانتباه إلى ما يريده زوجها من مستوى النظافة –مثلًا- الذي يطمحه، وهذه الطريقة بمثابة ورقة تهديد وإنذار لها، لعل لبَّها يعود اليها . وبالرغم من ان الزوجين قد تلقيا البرمجة في النواة الأولى المتمثلة بالأسرة باختلاف طريقة المعاطاة فإننا نجد أنهم قد تنافرا بالرؤى فأصبح الزوج يدقق أكثر وظلت الزوجة غير مكترثة بالأمر . فهل يحق لسين او صاد من الناس ان يوجهوا عناية الزوج نحو تحقيق رغباته بالزواج من ثانية؟ والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو : ماذا لو انعكست الصورة وعاشت الزوجة مع زوج غير مكترث في جزئية من الحياة؛ كان لم يشبعها عاطفة ولم يسمعها كلمات الحب والمجاملة ولم يشعرها بأنوثتها! اغلب الظن أن الكلام سيتجه الى مصبٍّ واحد متفق عليه من قبل الجميع: ( تحملي واصبري. هذا زوجك وأبو أولادك ..والرجل لا عيب فيه.. وهل ستخسرين أسرتك وأولادك لأجل هذا المطالب التافهة؟!) وبالرغم من أن مسألة احترام الذات وتوقيرها وإبداء المحبة والاهتمام بالآخر من أهم سبل العيش بالسلام الداخلي والاستقرار العاطفي ، إلا انه لا يمثل شيئًا ذا أهمية في أعين الناس ، متناسين ان هذه الجزئية تعد كيان المرأة ومصدر سعادتها وطاقاتها، ولأنه لا بدائل للمرأة، صار عليها لزامًا أن تتجرع ذلك الإهمال وترتوي من جفاف عاطفة الرجل حتى نهاية العمر إن لزم . ولهذا نشير بان التفكير في الأخر يوجب علينا تفعيل مبدأ العدالة والإنصاف، فالنواقص موجودة وليس هنالك كمال الا للخالق جل جلاله، وعليه فلا بد من تقبّل الآخر بوضع خصاله الإيجابية قبل السلبية ونتعامل معه على ذلك الاساس، ولا داعي لان نكبر مساحة الحطام بإشعال النار من جانب اخر ! وهنا ثمة حلول اجدها ذات منفعة لكلا الطرفين : 1- ان يتقبل الرجل زوجته ويتحمل هذه الجزئية التي لا تلبي طموحاته؛ في الوقت الذي يلاطفها لكي تتحسن في ادائها، وقد حثت السنة على ذلك كثيرا . 2- لأنها انسانة كرمها الله مثله فعليه ان لا يتهمها ويوبخها دائما بذلك؛ وأن يكون حلو المعشر معها ليكسب ودها ثم تقوم بما يريد، لان من يعشق يذوب في محبوبه . 3- على الزوج تلمس جوانب الزوجة الجيدة، فلها بالتأكيد خصائص جميلة عليه ان يكافأها عليها تحفيزًا لتعديل السلوك. 4-لينظر الى نفسه في مرآة الحياة؛ هل هو خالٍ من العيوب؟ هل هو كامل ومثالي ولا ينقصه عيب او شائبة؟ وليحاسب نفسه ويتصور ان هنالك من يقرعه باستمرار لواحد من العيوب، وليشعر بالأزمة ذاتها التي تشعر بها زوجته عنما يؤنّبها باستمرار حول ما يريد. 5- ولابد من الإشارة إلى أن الزوجة لو شعرت بالحنو من زوجها والاهتمام المطلوب والتوجيه الواعي الرصين فلربما نهضت بمسؤولياتها على أتم وأحسن وجه . 6- على الزوج أن يشارك زوجته العمل المنزلي –قدر إمكانه وكلما أتيحت له الفرصة- ويتخلى عن الأنا الذكورية التي تقولب عليها جراء ما أمْلته عليه التقاليد والعرف البالي... 7- ان يزج نفسه وزوجته في متابعة محاضرات تختص بتنمية العلاقة الأسرية ،كأن تكون على الشبكة العنكبوتية او في دورات التنمية البشرية واقتناء بعض الكتب المفيدة بهذا المجال. 8- ان يصبر الزوج على زوجته ويستعين بالله في تسهيل الأمور وتوفير الجو الآمن لسعادته وسعادة اسرته؛ لا ان يسمع تلقين إحداهن بتركها، ولا أن يستجيب لها فلعله يخرج من مأزق ليقع في مأزق أخر اكبر وأوسع . 9- إذا لم يجد في كل ذلك عونا له فليبحث في دائرة معارفه على شخصية نسوية لها علاقة طيبة مع زوجته ويحاول ان يلقنها ما يطمح أن يراه من زوجته، عبر رسائل ودودة ومحترمة خالية من التجريح والاهانة لعله يحدث تغييرا غير مباشر بإذن الله . وكما قال الله تعالى :( لعل الله يحدث بعد ذلك امرا) 10- على الزوج أيضا التأسيس للأبناء المشاركة في عمل البيتي كأمر ثابت -ذكورا كانوا ام إناثًا- فالجميع مسؤول على النظافة وليس من العدالة أن يتكل الكل على مهارة الأم بذلك، وإنما جميع الأفراد يتعاونون في ذلك، ليس في هذه الحالة فحسب وانما بشكل مطلق، لان المرأة أيضا لها تطلعاتها، وإذا تمّ تقسيم العمل على الأفراد سنجد حيزا من تحقيق ذلك التطلع، إضافة إلى انه أسلوب راقي في التربية يعلّم الأبناء على تحمّل المسؤولية واتباع النظام والتقيد به. وبعد هذه النقاط من الحلول تبقى الامنيات والدعوات ترفرف على شُرف كل البيوت في أن يغمرهم الله بدفء المشاعر ويسود التفاهم والاهتمام والحب بين الزوجين ..... والله ولي التوفيق

اخرى
منذ 5 سنوات
1113

الإمام الجواد (عليه السلام) شبيه الانبياء (عليهم السلام)

بقلم: فاطمة الركابي قال أبو عبد الله (عليه السلام): "من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن ".(١) يقال: إن المقصود بالتنكب هو" تجنب الوقوع بالفتن"، لذا فإن معرفة مقامات الأئمة (عليهم السلام) مطلوب وهو جزء مهم في عقيدة كل مؤمن يقر بولايتهم، ويسعى أن يكون عارفاً بحقهم. إن القرآن الكريم لم يصرح بأسمائهم، ولعل من الاسباب الظاهرة لنا هو ان ذلك جزء من اختبارنا بهم، ولعل من الاسباب هو "أن المُعرَّف لا يحتاج الى تعريف" كما يقال. وعندما عندما يقول النبي(صل الله عليه واله) أنه هو وهم من نور واحد -كما ورد عن جابر بن يزيد، قال: قال لي أبو جعفر(عليه السلام):" يا جابر إن الله أول ما خلق، خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله..."(٢)، فهذا يعني أن ما للنبي من مقامات هي لهم، وهي منطبقة عليهم مع علو مقام النبي(صل الله عليه واله) بلا شك فهو سيد الخلق. ولكن بالنتيجة فإن مقاماتهم مقارنة مع من هم أقل درجة من النبي الخاتم (صل الله عليه واله) هي أعلى وارفع، فلهم ما للأنبياء والاولياء وما يزيد على ذلك. لذا فقول الامام الرضا (عليه السلام) في مولد امامنا الجواد (عليه السلام): "قد وُلِد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم،..."(٣) إشاره وتثبيت لهذه الحقيقة أي وجود مقامات الائمة وعظم شأنهم. بعض مصاديق أوجه الشبه بين الامام الجواد(عليه السلام) والنبيين موسى وعيسى(عليهما السلام): - كون ولادته فيها قرة للعيون. في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ﴾ إذ عبرت السيدة آسيا عن نبي الله موسى(عليه السلام) بأنه قرت عين لهم، وفي قول اخر قال كتاب الله : ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا...﴾، بالنتيجة وصفه كتاب الله بأنه قرة للعيون. كذلك امامنا الجواد (عليه السلام) كما ورد في حديث طويل أنه قال جابر: "أشهد بالله أني لما دخلت على أمك فاطمة (عليه السلام) في حياة رسول الله(صل الله عليه واله) أهنيها بولادة الحسين (عليه السلام) فرأيت في يدها لوحا أخضر ...الى ان وصل لما فيه ذكر لإمامنا الجواد انه عز وجل قال في شأنه:" حق القول مني لأقرن عينه (أي امامنا الرضا) بمحمد ابنه وخليفته من بعده، فهو وارث علمي،..."(٤) - المولود المبارك ويصف كتاب الله عيسى (عليه السلام) بالمبارك، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ... ﴾ (مريم:31)، والامام الجواد (عليه السلام) كذلك، فعن أبي يحيى الصنعاني قال:" كنت عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فجيء بابنه أبي جعفر(عليه السلام) وهو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه" (٥). - مقام الاصطفاء والاجتباء قال تعالى:{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس} (الأعراف: 144)، وقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا...وَمُوسَى وَعِيسَى...اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء...}(الشورى: 13)، والامام الجواد (عليه السلام) بلغ هذين المقامين كما بين امامنا الهادي(عليه السلام)في الزيارة الجامعة الكبيرة بوصف الائمة: "اصْطَفاكُمْ بِعِلْمِهِ"، و "وَاجْتَباكُمْ بِقُدْرَتِهِ".(٦) - كلمة الحق والفيصل بين أهل الباطل والحق قال تعالى:﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾(مريم: 34)، والامام الرضا (عليه السلام) شبّه وليده المبارك بموسى فالق البحر (عليهما وعلى نبي الله السلام)، فكما قال تعالى في محكم كتابه :﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(○)وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(○)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ (آل عمران:٦٣-٦٥). ويبدوا أن الغاية من معجزة نبي الله موسى (عليه السلام)لما فلق البحر، كانت أنها برهان لأحقيته ورسالته، فنجّى بها من ثبت على إيمانه بصدق حجية نبي الله موسى (عليه السلام)، وإغراق من جحد واستكبر على رسل رب السماء. وكذلك مولد امامنا الجواد(عليه السلام) كان بمثابة الفيصل الذي بولادته نجى واستقام من كانوا يؤمنون بإمامة ابيه الرضا، وكانت مهلكة لأهل الانحراف والتشكيك فغرقوا في ظلمات شكهم وضلالهم. فقد ورد عن ابن قياما الواسطي قال:" دخلت على علي بن موسى عليهما السلام ...الى ان قال - ولم يكن ولد له أبو جعفر(عليه السلام) بعد - فقال لي: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله، ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر(ع)...".(٧) - الوجاهة قال تعالى: ﴿...عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ (آل عمران :45)، وقوله تعالى:﴿... وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ (الأحزاب: 69)، والامام الجواد(عليه السلام) من القابه أنه" باب للمراد"(٨)، وكما بين امامنا الهادي (عليه السلام)في الزيارة الجامعة الكبيرة بوصف إياهم : "وَمَنْ قَصَدَهُ (اي سبحانه وتعالى) تَوَجَّهَ بِكُمْ". (٦) - ظهور المعجزات قال تعالى: ﴿...يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً... وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي...﴾(المائدة: 110)، ولعل -كما يبدو- أن وجه الشبه في هذا الامر مع نبي الله موسى (عليه السلام) في مسألة فلق البحر -كما خص الامام الرضا (عليه السلام) بذكرها في الرواية انفاً- أنها كانت معجزة وشيئًا خارج القوانين الطبيعية، قد أتى بها نبي الله موسى(عليه السلام) ايضاً، وبالمقابل فإن الامام الرضا (عليه السلام) صرّح بأن مقام الإتيان بالمعجزات هو حاصل للإمام الجواد بنص رواية نأخذ الشاهد منها: عن السيدة حكيمه انها قالت لما ولد امامنا الجواد (عليه السلام) قال لها امامنا الرضا (عليه السلام): " يا حكيمة الزمي مهده، قالت: فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ثم قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. فقمت ذعرة فزعة! فأتيت أبا الحسن عليه السلام، فقلت: سمعت من هذا الصبي عجباً. فقال: وما ذاك؟، فأخبرته الخبر. فقال: يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر(٩). واوجه الشبه كثيرة للمتأمل والمتدبر، فهو صلوات الله عليه ترجمان كتاب الله تعالى، فله في كل آية نصيب، بل وهو منها المقصد الاعلى والاعظم. -------- (١) تفسير العياشي :ج ١ ص ١٣، نقلاً عن: بحار الأنوار ، ج ٨٩، ص ١١٥. (٢) بحار الأنوار: ج ٥٤، ص ١٩٧. (٣) الامام الجواد من المهد الى اللحد: ص٣٨. (٤) غاية المرام: ج ٢، ص ١٦٦. (٥) الكافي:ج1،ص321. (٦) مفاتيح الجنان: ص ٦٣٣-٣٣٨. (٧) الكافي: ج١، ص ٣٢٢. (٨) دلائل الإمامة :ص ٢٠٩. (٩) بحار الأنوار: ج ٥٠، ص ١٠.

اخرى
منذ 5 سنوات
6105

أين الرجبيون؟

بقلم: دعاء الربيعي افتتحت زهراء حديثها من زميلتها صفاء بقولها: (خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلّا لك) غاليتي صفاء، تلتمسين العذر مني ولا تلتمسيه من الله ونحن في شهر الرحمة رجب؟! صفاء: أجل منك أطلب المعذرة لأنني أخطأت في حقك وأسأت الأدب معك. زهراء: سامحتك، ولكن اطلبي العفو من الله لأن الباري (جل وعلا) أحق بالرضا مني، وارجعي لنفسك وانظري إلى ما اقترفتِ من ذنوب وخطايا، حملتِ بها نفسك المسكينة وأثقلتِ عليها، وسوف يطول وقوفها بين يدي الله في عرصات القيامة، صدّقيني أُخيّتي، جُلُّ ما أطلبه هو رضا الباري عنك، فنحن في أيام شهر رجب، وليس من الجميل أن يكون العبد غارقًا في الموبقات والمحرمات بدل أن يشغل نفسه في طاعة الله ورضاه. صفاء: جميل ما تحدثتِ به، لكنه ليس سهلا أبدًا، فمن أين أبدأ ومن أي ذنب أتوب وكيف يلهج لساني بالاستغفار والدعاء وقد تعوّد على قول المنكر من الحديث؟ فشهر رجب هذا إنما هو للطائعين العابدين لله وليس للمذنبين امثالي! زهراء: ومن قال ذلك؟! بل العكس تمامًا، أمَا سمعتِ هذه الآية المباركة التي فيها بشرى لكل عبد موحد لله (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.) وكذلك أحاديث الرسول وآل بيته (صلوات الله عليهم) فقد روي عنه أنه قال في فضل شهر رجب هو الشهر الأصب: يصب فيه الرحمة على من عبده إلا عبدا مشركًا. (وفي حديث آخر عن أحد الصالحين أنه قال لأحد عباد الله المذنبين: يا عبد الله، رجب ليس للعرفاء... رجب للغرقى، أما العرفاء فكل عامهم رجب) صفاء: حسنًا، ولكن من أي الأعمال أبدأ وأي المستحبات أؤدي؟ وكما تعلمين أن وقتي محدود ولدي التزامات كثيرة. زهراء: أولًا هناك الكثير من المستحبات الرجبية الخفيفة فعلاً والكثيرة أجراً، وثانيًا لابد لك عزيزتي أن تهيئي بعضًا من الوقت لكسب مرضاة الله وطلب مغفرته، فمشاغل الحياة لا تنتهي، لكن العمر ينقضي وساعات الحياة في نقصان، كما يقول الإمام الحسين (عليه السلام) (يا ابن ادم إنما أنت أيام، كلما مضى يوم ذهب بعضك) وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى ضرورة أن يجِدَّ الإنسان ويجتهد لنيل الأجر الأخروي الباقي ويترك الأجر الدنيوي الفاني بجملة من الأحاديث منها: (أنك مخلوق للآخرة فاعمل لها، إنك لم تخلق للدنيا فازهد فيها، استفرغ جهدك لمعادك تصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، من جعل كل همه لآخرته ظفر بالمأمول). فعليك اختاه أن تلتزمي بذلك إذا أردتِ التوبة حقًا. أما سؤالك عن أعمال شهر رجب فهي كثيرة أهمها الاستغفار فعن الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رجب شهر الاستغفار لأمتي فأكثروا فيه من الاستغفار)، والاستغفار عزيزتي لا يحتاج إلى بذل جهد فباستطاعتك أن تلهجي به في كل الأحوال. والعمل الآخر هو الدعاء، فهناك الكثير من الأدعية في بطون الكتب المعتبرة المذكور فيها خصوصية الدعاء في شهر رجب، كذلك الصلاة والصيام، فلِأيام شهر رجب صلوات خاصة ولكل صلاة كيفية وأجر عظيم لامثيل له، وللصيام أجر يفوق كل الأجور، فعن رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله) قال: (ألا فمن صام يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر وابتعد عنه غضب الله، وأغلق عنه باب من أبواب النار) كما أن للصدقة ثوابًا جزيلًا في هذا الشهر المبارك، وهناك الكثير من الأعمال المندوبة في هذا الشهر يمكنك مراجعتها في الكتب الخاصة، اسأل الله أن يوفقك لمرضاته. صفاء: لا اعرف كيف اشكرك عزيزتي (زهراء) على كل ما قدمتيه لي من نصائح وتوجيهات تنقذني من بحور الغفلة التي كنت غارقة فيها، هنيئاً لك هذا الاخلاص لله، وهنيئاً لي هذه الصحبة، سبحان مسبب الأسباب، اليوم قرأت منشوراً عن الصحبة وكان فيه حديث لم افهم معناه ولم احط بمبتغاه وهو (خير إخوانك من دلّك على هدى وأكسبك تقى وصدك عن اتباع الهوى) وها أنا الآن فهمت المراد. زهراء: الشكر لله وحده، لأنه أتاح لي الفرصة للحديث معك وإرشادك إلى سبيل الحق، ما أجمل أن تكون صحبتنا لله وفي الله. اسأل الله أن يجعلنا ممن تُقبل تَوبتهم وتُستجاب دعوتهم وتُغفر خطيئتهم ويُنادى بهم يوم القيامة من بطنان العرش... أين الرجبيون؟

اخرى
منذ 5 سنوات
1583

على ضفاف عهدي

بقلم: علوية أم مهدي وأم محمد جاسم انتهت دعاء من صلاتها وجلست تحدث نفسها قائلة: سنوات وأنا أقرأ أدعية وسور القرآن الكريم وأفرح عندما أتمكن من حفظ بعضها وأعدّ نفسي من الموالين الحقيقيين، لكن اليوم استوقفتني عبارات في دعاء العهد، وكأنني لأول مره أقرأها! "... اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهدًا، وعقدًا، وبيعة له في عنقي..." (1) وكأني لأول مرة أعيها! فهل حقًا أعاهد مولاي الحجة (عجل الله تعالى فرجه) بهذه البيعة؟ كنت أعتبر نفسي وحيدة، بينما أنا أعيش في ظل ولاية مولاي الإمام المنتظر، ولكن ما حالي؟ أقريبة أنا منه (عجل الله فرجه)؟ وهل حالي مثل السفراء البررة والصالحين؟ أو أنني أسير إلى سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً؟! هل أكون كحال الأشعث الكندي؟! الذي كان يجدّد البيعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وبمجرد تعرضه للامتحان فشل ونكص وكان رأس المنافقين وزعيمهم في الكوفة! أعوذ بك يا اللهي من مثل هذا المصير، ورحمتك أنزلها علي، وخذ بيدي إلى سبل الأمان. وتحدرت دموعها، وأجهشت بالبكاء قائلة: رحماك يا رب أرني الحق حقًا حتى اتبعه، واستغفرت وعادت لتكمل فقرات الدعاء .." اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه الممتثلين لأوامره والمحامين عنه والسابقين إلى إرادته، والمستشهدين بين يديه..." (2) أين أنا من كل هذه المراتب؟ وفي أي مرحلة؟ وهل أنا أسير في درب المنتظرين هل وصلت؟ إنني ما زلت في بداية الطريق والعمر يمضي "... فإذا كان عمري مرتعًا للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يستحكم غضبك علي.." (3) تمتمت: عملي لا يرقى إلى أن يقدم بين يدي مولاي الحجة ابن الحسن (عليه السلام)... هزّها البكاء وهي مازالت في مصلاها، مسحت دموعها، فالله واسع الرحمة، سجدت سجدتي الشكر، وتمتمت: مولاي وإلهي، وربي، وجّهت كلامها إلى إمام الزمان: مولاي خذ بيدي... لأكون في الدرجة العليا مع الشهداء... سوف ابتدئ عهدًا جديدًا... فأعني. وحسمت أمرها واتخذت عهدًا أن تكون في طاعة الله... لفت إحرامها وطوت سجادتها، وسألت الله والإمام القوة والعون. _______________ 1) دعاء العهد 2) دعاء العهد 3) دعاء مكارم الأخلاق

اخرى
منذ 4 سنوات
1357

الغَيبة والامتحان الإلهي

بقلم: العلوية سهام جواد محمد قال الله تعالى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)) سورة (طه) هناك امتحان وتمحيص في هذه الدنيا سواء أكان هذا الامتحان على مستوى الفرد أو على مستوى أمة كاملة، فتارةً يمتحن الله الفرد وحده أما بفقدان أولاده أو صحته أو ماله أو غيرها من الأمور الدنيوية، وقد يمتحن الله العبد بدينه، وهذه هي المصيبة العظمى التي لا سبيل إلى النجاة منها ما لم يدرك العبد خطورة هذا الامتحان، وإلى ماذا يؤدي به من مهالك عظمى تردي به إلى الهاوية، من دون أن يشعر به، بل ويظن أنه يسير في الطريق الصحيح، وتارة يكون الامتحان على مستوى أمة كاملة كما حصل لقوم النبي موسى (عليه السلام) فبعد أن وضع لهم النبي موسى (عليه السلام) القواعد ودلّهم على طريق الهداية والصواب وقد عاهدوه (أن لا إله إلا الله) وبعد أن أنقذهم من فرعون وغطرسته. فماذا فعلوا؟ ولماذا ضلوا؟ لمجرد غيبة موسى (عليه السلام) عنهم أربعين ليلة! مع أنه (عليه السلام) قد ترك وصيه ووزيره هارون، اتخذوا من عجل مصنوع من الذهب إلهًا لهم بمجرد غيابه عنهم أربعين ليلة، وإذا بستمائة ألف يرتدون عن دينهم ولم يبق إلّا أثنا عشر ألفًا على دين موسى (عليه السلام) فكان الامتحان الإلهي أن الله سبحانه وتعالى امتحنهم بالغيبة كما امتحن أمة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) غيبة إمام زمانهم لينظر ما هم صانعوا في غيبته (عجل الله فرجه)، بعد أن وضع لهم الرسول (صلى الله عليه وآله) قواعد هذه الأمة وركائزها وأكد على ضرورة التمسك بعترته الطاهرة في عدة مواضع وأكد أن الأرض لا تخلو من حجة، فهم الأمان لأهل الأرض، وهم الحبل الممدود بين السماء والأرض، فماذا صنعت الأمة في غيبته (عجل الله فرجه)؟ قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((أما والله ليغيبنَّ عنكم مهديكم حتى يأتي الجاهل منكم: فيقول ما لله في آل محمد حاجه فيأتي كالشهاب الثاقب فيملأها عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا)) فأي سامري هذا الذي أضلنا؟ ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه واله): "إن القرآن وأهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليَ الحوض" فهل طال عليكم الأمد؟ وما هذا الذي نراه من أمةِ محمد (صلى الله عليه وآله)؟ هل هو إنكار لوجوده؟ أم اليأس من ظهوره؟ أم عدم مبالاة؟ أم ماذا؟ ألا ترون يا أولي الألباب يا أصحاب العقول، إننا بهذه الغيبة ما نحنُ إلّا في قاعةِ امتحان ننتظر الوقت الحاسم لنرى النتيجة، فهل نحن مستعدون لتلقي السؤال؟ وهل نحن متأهبون للإجابةِ الصحيحة؟ وكيف ستكون الإِجابة يا ترى؟ هل هي مقنعة؟ هل استطيع أن أواجه بها إمام الزمان (عجل الله فرجه)؟ إذا سألني: لماذا لم تشعروا بوجودي؟ مع أني موجود معكم وبينكم؟ ماذا سأقول؟ وكيف ستكون حالي؟ هل أقول: أضلني السامري؟ أم أقول: حجبتك عني ذنوبي ومعاصيّ؟ أم سأكون مستعدًا للإجابة؟ مولاي اعذرني إذا كنا السبب في أن نزيد من همومك وآلامك، سامحنا إذا كنا شركاء في لوعة مصابك، ولم نكن أهلًا لنصرتك وإجابتك، ولم نستطع أن نزيل مآسيك ولم نكن من المواسين لك حين مزقت قلبكَ أعمالُ أمة جدك محمد (صل الله عليه وآله) ولم نكن مستعدين ليوم يصبح فيه ما بالقوة بالفعل، وهو ظهورك المبارك بيننا، ونسينا أو تناسينا أننا نعيش في هذا الكون وتدار أعمالنا ببركة دعائك ووجودك، فما هو دور المؤمنين في غيبة إمامهم؟ هو الثبات والتمسك بنهج محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) وعلى الشريعة التي خطها لنا (صلى الله عليه وآله)، لأعمالنا وسلوكنا في المجتمع. وفي جميع أخلاقياتنا دعونا نشعر دائمًا أننا مراقبون من قبل صاحب أمرنا وسيدنا صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وأن نستعد لذلك اللقاء المبارك ونحن نحمل له نتائج هذا الامتحان الصعب/ نتائج تثلج قلبه المليء بالآهات ونضعها بين يديه فيفتخر أننا من شيعته وأعوانه ونتباهى نحنُ بوجوده بيننا ونكحل أعيننا برؤيته وطلعته البهية.

اخرى
منذ 4 سنوات
1828

مذكراتُ كأسِ الخليفة!

بقلم: عبير المنظور شفاف أنا كقطرات الندى، وجميل المنظر وجيد الصنع، مما جعلني المفضل لدى مَلِكٍ ادّعى لنفسه أنّه خليفة المسلمين، يجالسني دائماً ويشاركني لحظات فرحه ومرحه، كنت أسقيه وأرويه كثيراً، وكان نهماً لا يرتوي من شراب أسقيه إياه، كنت لا أفارق يده ابداً حتى انه كان ينام وهو ممسك بيدي! يا لَسعادتي الغامرة، فأنا من ندماء الملك وسمّاره المقربين، والذي لا يتخلى عني أبداً. كان يحبني ويرشفني كثيراً وكنت أحبه ايضاً، ولملازمتي إياه عرفت كثيراً من أسراره وجميع ما يدور حوله، ما يفكر، ما يقرر، كل شيء حتى أنفاسه بتُّ أستطيع عدها. وفي يوم من أيام ملازمتي له، غضب من أحد أعدائه، وكان يبغضه كثيراً ويحاول أن ينقص من قدره مهما استطاع الى ذلك سبيلاً، وكان يتحيّن له الفرص أو يلفّق له بعض التهم لأذيته وأذية أصحابه ومن والاه وقتلهم بأبشع الطرق لمجرد شكّه أنهم من أتباعه، حقيقة لم أكن أعرف شخص عدوه ولكنني كنت أسمع حديث الملك عنه، بأن هذا الرجل ينازعه ملكه على عرش قلوب الناس وكرسي خلافتهم، كنت أسمع ذمه من خلال الجنود الأتراك الذين استولوا على سدّة الحكم، وباتوا متحكّمين في كل مفاصل الدولة، حتى سمعتُ الملك ذات مرة وهو يستشيط غضباً بأن يحضروا له عدوه على الحال الذي يجدونه عليه؛ لأنه يدبر له المكائد والمؤامرات، وأنه يجمع المال والسلاح في بيته ليثور ضده... وانتظرت وصول عدوه لأراه عن قرب، من هذا الذي يشغل بال الملك ويمنعه من الرقاد؟ وبينما كان الملك في مجلس لهوه يحملني ويشرب بي الخمر، واذا بجماعة من الرجال يخبرونه بوصول عدوه وأنه وجدوه في بيته جالساً على الرمل والحصى يتلو القران وأنهم لم يجدوا في بيته غير مصحف القران، فأذن له بالدخول... مرّتْ لحظات وكأنها ساعات عليّ لأرى من يكون هذا الرجل، جاؤوا به، رمقته من بعيد فاضطربت أحوالي وتسارعتْ نبضات فؤادي! فلم أجد الصورة التي كنت أرسمها له في مخيلتي، وجدته رجلاً عليه سيماء الصالحين، بهيّ الطلعة، تشع الأنوار من محيّاه الكريم إضافة إلى دقة وبلاغة منطقه، وكان يلبس مدرعة من صوف، احترت في أمره، ترى أي رجل يكون؟ وأي سر يجذبني إليه؟ قطعَ صوت الملك سلسلة أفكاري الشاردة حينما أمره أن يشرب الخمر، ولكن الرجل امتنع عن ذلك قائلاً: (وَاللهِ مَا خَامَرَ لَحْمِي ‌وَدَمِي قَط ، فَاعْفِنِي) فأعفاه، ثم أمره أن ينشده شعراً فقال: (أنا قليل الرواية للشعر)، فأرغمه الملك على ذلك، فقام الرجل وسط ذلك المجلس بكل هيبة وإجلال قائلاً: باتوا على قللِ الاجبـال تحرسُهـم *** غُلْبُ الرجالِ فلم تنفعهمُ القُلـلُ و استنزلوا بعد عزّ عـن معاقلهـم *** و أودعوا حفراً يا بئس مـا نزلـوا ناداهمُ صارخٌ من بعد مـا قبـروا *** أين الاسرّةُ و التيجـانُ و الحلـلُ أين الوجوه التـي كانـتْ منعمـةً *** من دونها تُضربُ الأستارُ و الكللُ فافصـحَ القبـرُ عنهم حيـن ساءلـهـم *** تلك الوجوه عليهـا الـدودُ يقتتـلُ قد طالما أكلوا دهراً و ما شربـوا *** فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا كنتُ أستمع مدهوشاً لبلاغة ذلك الرجل وفصاحته، شعر وعظ به الملك اللاهي العابث بأبيات تتكلم عن غرور الحكام الظالمين وتغطرسهم في مجلس الملك وفي نشوة سكره... هنا حلّ صمت مطبق على الجميع ،وكأن على رؤوسهم الطير، لا أعلم ان كان للاعتبار من الموت أو للتفكير في مصير هذا الرجل الصالح بعد هذه الموعظة... وانا كنت أفكر بالأمرين معاً، حتى قطع هذا الصمت بكاء الخليفة المتوكل، والرجل لا زال يكمل أبياته : و طالما عمّـروا دوراً لتُحصنهـم *** ففارقوا الدورَ و الأهلينَ و ارتحلوا و طالما كنزوا الأموال و ادّخروا *** فخلّفوها على الأعـداء و انتقلـوا أضحت منازلُهـم قفـراً معطلـةً *** و ساكنوها الى الاجداث قد رحلوا سـل الخليفـةَ إذ وافـت منيتـهُ *** أين الحماة و أين الخيلُ و الخـولُ اين الرماةُ أمـا تُحمـى بأسهمِهـمْ لمّا أتتـك سهـامُ المـوتِ تنتقـلُ أين الكماةُ أما حاموا أما اغتضبوا *** أين الجيوش التي تُحمى بها الدولُ هيهات ما نفعوا شيئاً و ما دفعـوا عنك المنية إن وافى بهـا الأجـلُ فكيف يرجو دوامَ العيش متصـلاً *** من روحه بجبالِ المـوتِ تتصـلُ لم أسمع سوى بكاء الخليفة وجميع الحاضرين، تساءلتُ في نفسي: بماذا سيعاقب الملك هذا الرجل؟ فقد تعلقت به كثيراً، فنظرتُ للملك الذي ابتلّتْ لحيته من الدموع وأمر بإطلاق سراح الرجل، ثم نظر إليّ نظرة غريبة ورماني على الارض وبقي يومه متعكر المزاج... ومنذ تلك اللحظة بتُّ أكره الملك وتعلّقتُ بالرجل الذي كان يدعى: الإمام علي الهادي إمام الرافضة... لحظة قلبت الموازين عندي أنا الجماد، فكيف بالبشر؟! كنت أتمنى أن يرميني الملك فعلاً وأبتعد عن لعبه ولهوه، لم أكن أعرف ان هناك من يمتلك هذا النور الساطع والهيمنة على القلوب والارواح على البشر والجمادات، عرفت حينها ان لهذا الرجل سرًا مع الله، وانتظرتُ عقاب الله للمتوكل على ما فعله من انتقاص لقدر هذا الرجل المقدس والتنكيل بشيعته، ولم يطلْ انتظاري كثيراً حتى رأيت ذلك اليوم بعيني، كنتُ حينها بيد الملك [الخليفة] المتوكل في مجلس لهو وسكر كالعادة مع وزيره الفتح بن خاقان وعساكر الاتراك يحيطون به من كل جانب لحمايته، واذا بابن الملك: المنتصر بالله، وبالتآمر مع بعض القادة الاتراك دخلوا عنوة وقتلوا المتوكل والفتح بن خاقان وتناوشوهما بسيوفهم، فسقطتُ من يد المتوكل وتحرّرتُ من كابوسه المرعب، ولكنني بدأت بالتهشّم من جميع أجزائي وأحسستُ بقرب أجلي فتذكرتُ موعظة الامام علي الهادي (عليه السلام) في هذا المجلس قبل فترة وكم أثرّتْ موعظته فيّ أنا كأس الخليفة... وعجبتُ لقلوب هؤلاء البشر كيف لم تتأثر بأنوار ذلك الرجل العظيم؟!

اخرى
منذ 5 سنوات
2371

الإمام الهادي (عليه السلام) يحل الاختلاف الفكري

بقلم: علوية الحسيني الاختلاف الذي حلّه الإمام (عليه السلام) كان اختلافًا عقديًا؛ حيث ساد عصره انحراف فكري بنشر الفرق المنحرفة عقائدهم، وبثهم للشبهات الموجهة نحو العقيدة الحقة؛ حيث سادت شبهات كثيرة من أهمها التجسيم، وخلق القرآن، والجبر. فروي عن بشر بن بشّار النيسابوريّ أنّه قال: كتبت إلى الرَّجل [يقصد الإمام الهادي] (عليه السلام): إنّ من قبلنا قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول: هو [الله سبحانه] جسم، ومنهم من يقول: هو [سبحانه] صورة. فكتب إليَّ: سبحان مَن لا يحدُّ ولا يوصف ولا يشبهه شيء وليس كمثله شيء وهو السميع البصير"(1) فنجد أنّ الإمام (عليه السلام) قد شحذ سيف توحيده، ولبس درع توكله، لم يخش ظلم الحاكم آنذاك والخوف من قمعه وتنكيله، وابتدأ جوابه بنقضٍ ضمني، ثم تصريح معرفي. *فقوله (عليه السلام): " سُـــبحانَ مَن" إشارة منه إلى تنزيه الله تعالى، فسبحان تعني تنزيه؛ بدليل ما روي أن هشام الجواليقي سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (سبحان الله) ما يعني به؟ قال: تنزيهه"(2). *وقوله (عليه السلام): "لا يحدُّ" إشارة منه إلى كونه تعالى موجودًا مطلقًا لا حد له في ذاته وصفاته وأفعاله، فهو الكمال المطلق الذي لا حدّ له، وهكذا هو تعالى (ولا يوصف) بالصفات المحدودة من صفات الممكنات. ويمكن التعبير عنه بأنه (عليه السلام) ينفي عن الباري جل وعلا الحد بالمعنى المنطقي والحد الزماني والمكاني. أما الحد التعريفي، فهو: مصطلح متعارف عند المناطقة يطلق على تعريف شيء بالحد أو بالرسم، فيقال حد الشيء، أو رسم أي تعريفه، "فالتعريف حدٌ ورسم"(3). والحد إما تام أو ناقص، فالحد التام: "هو التعريف بجميع ذاتيات المعرَّف (بالفتح) ويقع بالجنس والفصل القريبين لاشتمالهما على جميع ذاتيات المعرف فاذا قيل: ما الانسان؟ فيجوز أن تجيب أولاً بأنه: (حيوان ناطق)... ويجوز أن تجيب... بأنه: (جوهر قابل للأبعاد الثلاثة نام حساس متحرك بالإرادة ناطق)" (4). أما الحد الناقص: "هو التعريف ببعض ذاتيات المعرَّف (بالفتح) ولابد أن يشتمل على الفصل القريب على الاقل، ولذا سمي (ناقصاً). وهو يقع تارة بالجنس البعيد والفصل القريب وأخرى بالفصل وحده. مثال الأول: تقول لتحديد الانسان (جسم نام ... ناطق)، فقد نقصت من الحد التام المذکور في الجواب الثاني المتقدم صفة (حساس متحرك بالإرادة) وهي فصل الحيوان وقد وقع النقص مکان النقط بين جسم نام وبين ناطق فلم يکمل فيه مفهوم الانسان. ومثال الثاني تقول لتحديد الانسان أيضاً: (... ناطق) فقد نقصت من الحد التام الجنس القريب کله. فهو أکثر نقصاناً من الاول کما ترى"(5). ■تــوضيحٌ وتــصريح: 1- المراد من (الجنس) "هو تمام الحقيقة المشترکة بين الجزئيات المتکثرة بالحقيقة في جواب (ما هو؟)"(6). فالإنسان مثلاً جنسه (حيوان)، فجميع أفراد الإنسان من زيد وخالد مشتركون في حقيقة واحدة، فحينما نسأل عن حقيقة زيد ونقول: ما هو زيد؟ يقال: هو حيوان. وحينما نسأل عن حقيقة خالد: ما هو خالد؟ يقال: هو حيوان. وبالنسبة لله تعالى لا يمكن أن نسأل عن حقيقته وجنسه؛ لأنّه ليس نوعًا يشترك مع أنواع اخرى تشابهه في حقيقةٍ معينة؛ فــلو كان له تعالى جنسٌ لكانت له سبحانه حقيقة مشـتركة بينه وبين الموجودات، فالتالي باطل والمقدم مثله بالبطلان. - بيـان الملازمة: لو كان هناك موجود له حقيقة واجبية الوجود لوجب أن يشترك مع الله تعالى في هذه الحقيقة، فيكون ذلك الموجود وجوده نابع من ذاته، وأدلة التوحيد تنفي وجود واجب وجود ثانٍ كما ذُكر في محله. 2- والمراد من الفصل: "جزء من مفهوم الماهية ولکنه الجزء المختص بها الذي يميزها عن جميع ما عداها"(7). فالإنسان مثلاً له فصل يميزه عن غيره من الموجودات التي تشترك معه في حقيقة الحيوانية؛ فالإنسان حيوان، والحصان حيوان، لكن بالفصل يميّز الإنسان، فحينما نسأل: ما هو الإنسان؟ نقول: حيوان ناطق. وحينما نسأل: ما هو الحصان؟ يقال: حيوانٌ صاهل. والله سبحانه ليس له حقيقة يشترك بها مع الموجودات حتى نقول: إنه لابدّ له من فصل يميزه عما يشاركه حقيقةٍ ما، فاذا انتفى الجنس عنه انتفى الفصل من باب أولى. إذاً الحدّ التعريفي بــقسميه ممتنع على الله تعالى. *أمّا الحد الزماني والمكاني فممتنعٌ عليه تعالى أيضًا. فالحد الزماني: وهو أن يكون الله تعالى موجودًا في زمنٍ دون آخر، فممتنع؛ بمقتضى الآية الكريمة: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}(8). والحد المكاني: وهو أن يكون الله تعالى موجودًا في مكانٍ دون آخر، فممتنع؛ بمقتضى الآية الكريمة: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير}(9). على أن الحد الزماني والمكاني يلازم المادة، وبالتالي التركيب، وأدلة التوحيد تنفي المادة والتركيب عن واجب الوجود جل وعلا. نكتة ملكوتية: إنّ المتأمل في الآيتين اللتين تنفيان إحاطة الزمان والمكان بالله تعالى، يجد أنهما أشارتا إلى أنّه تعالى هـو المُحيط بها بـــعلمه؛ فالآية الاولى قالت: {وهو بــكل شيءٍ عـــليم}، والآية الثانية قالت: {والله بما تعملون بـــصير} وصفة البصر لله تعالى ليست بالعين الجارحة التي نبصر بها نحن المخلوقين، بـل كونه بصيرًا هو بمعنى أنه تعالى عالم بالمبصِرات والمبصَرات، فبعلمه أحاط بكل شيء زمانيًا ومكانيًا.... *وقوله (عليه السلام): "ولا يوصف" عطفٌ منه بالحكم بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له وصف إمكاني، كما تنزّه عن أن يكون له حد. فالوصف الإمكاني ممتنع عليه سبحانه؛ لأنه لم ولن تره العين حتى تصفه، وإلاّ كان تخيّلاً أو توهمًا، والحال أنّ جميع ذلك باطل. فكيف تصف الألسن شيئاً لم تره؟! •مثال توضيحي يدل على امتناع وصف الله تعالى: لو طلب منك أحد أن تصف له روحك، فلابد أن تراها أولاً ثم تصفها له، وحيث إنك لم تر الروح فإنك عاجز عن وصفها. فهكذا الكلام حول الله عزّ وجل. فالإمام الهادي (عليه السلام) نفى الوصفية -رؤيةً وتوهمًا-عن الله تعالى انتهاجًا منه لعقيدة أجداده (عليهم السلام)؛ حيث روي "عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الله عز وجل هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟! قلت: بلى. قال: أما تقرأ قوله عز وجل: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)؟ قلت: بلى. قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت: بلى. قال: وما هي؟ قلت: أبصار العيون. فقال: إن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام"(10). *وقوله (عليه السلام): "ولا يشبهه شيء وليس كمثله شيء" تنزيه لله تعالى عن الشبيه باستعمال (لا النافية)، ثم (ليس)، ولعله تأكيد منه على نفي الشبيه عن الله سبحانه. *وقوله (عليه السلام): "وهو السميع البصير" إشارة منه إلى نكتة مهمة جداً وهي: حيث إن صفتي السميع البصير عند الله تعالى هي عـــلمه بالمسموعات والمبصرات، فهذا ما يكشف عن حياطته سبحانه بالمحدودات والموصوفات والمتشابهات، مخلوقاته الممكنات، لا أن تحيط هي به؛ فالمحاط لا يحيط بالمحيط؛ بل المحيط يحيط بالمحاط. فالإمام الهادي (عليه السلام) بتلك المفردات أفهم ما يعزّ على عالمٍ افهامه، وما يصعب على أهل البلاغة بيانه. _________________________ (1) الكافي: للشيخ الكليني، ج1، باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى، ح5. (2) التوحيد: للشيخ الصدوق، باب معنى سبحان الله، ح3. (3) راجع الحاشية: ص50، وشرح الشمسية: ص78، وشرح المنظومة: ص30، وشرح المطالع: ص 100، والجوهر النضيد ، ص 194_188، 164، والإشارات وشرحه: ص95. (4) منطق المظفر: ج1، ص117. (5) المصدر نفسه، ص118. (6) المصدر نفسه، ص87. (7) المصدر نفسه، ص88. (8) الحديد:3. (9) الحديد: 4. (10) التوحيد: ب8، ح10. وسلامٌ على الولي الناصح، والطريق الواضح، والنجم اللائح، عليّ بن محمد الهادي ورحمة الله وبركاته.

اخرى
منذ 5 سنوات
3001

رجل في حضرة إمام القلوب وهاديها...

بقلم: فاطمة الركابي كان هناك رجل من اصفهان فقير الحال، ذا لسان كثير اللجاج، وذا جرأة لا يَهاب، فقدرت له الاقدار أن يُخرجه أهل مدينته على أثر ذلك من دياره في سنة من سني حياته، وقد أوقفته الاقدار في باب من ابواب من هم أشد أذى وطغيانًا، في باب طاغية زمانه المتوكل، ولكن كان يومها قد وقف وقفة المتظلمين الذين اتوا ليبدوا شكواهم إليه! وهكذا مرت أيام وهو لا زال على ذلك الباب واقفاً، فليس غريباً أن يطول وقوفه هناك، فقد أخطأ المقصد، وغفل عن الباب الذي عليه ان يَطرق، واليه يَلجأ. بلى! مَمن مِنهم تُطلب المطالب، وبهم الى الرب تكون المقاصد، بل هم من يَقصدون المحتاج قبل أن يَقصدهم، ويُعطون قبل أن يَسألهم المعوز. وبينما هو على هذا الحال واقفاً، وقفة الذليل على باب من هو في الذلة مرتكز، وبطغيانه لم يَكن بالله متوكلًا ومعتزًا، وإن كان اسمه المتوكل! إذ جاء مَن عِزة الله فيه قد تجلت، إذ خرج الأمر بإحضار علي بن محمد بن الرضا (عليه السلام)، فقال هذا الرجل لبعض من حضـر: من هذا الرجل الذي قد أُمر بإحضاره؟ فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته، ثم قال: ويقدر أن المتوكل يحضره للقتل! هنا يبدوا أن ذكر الإمام الهادي (عليه السلام) قد أوقد مصباح قلب ذلك الرجل المفتقر للنور قبل المال! حيث يُقال: إن الله تعالى لا يُخلي قلب أحد من نافذة ليَنفذ منها شعاع نوره متى ما حضر حامله ليُضيء لأمثال هؤلاء بعد أن عاشوا ظلمات الدنيا الغرور، بلى أنه ربنا صاحب اللطف الخفي، والرحمة التي وسعت كل شيء. وفي هذه اللحظات التي وصل شيء من شعاع نور الامام (عليه السلام) لقلبه -حصل الاتصال- فقال في نفسه: لا أبرح من ههنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو؟ فرأى الامام حيث: أقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها صفين ينظرون إليه - وعندها بلغ الوصل – حتى وقع حب الامام في قلبه، فأصبح يلهج بالدعاء اليه؛ بأن يدفع اللـه عنه شر المتوكل، كيف لا! أوليس هو وجه الله تعالى ونوره الهادي النقي؟! وهكذا أقبل الامام يَسير بين الناس وهو ينظر إلى عُرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة، وهو لا يزال مداوماً على الدعاء، فلما صار إليَّه أقبل الامام بوجهه إليَّه، وقال : استجاب اللـه دعاءك، وطَوّل عمرك ، وكثر مالك وولدك! نعم! هكذا قصده الامام قبل أن يقصده، وسمع مبتغاه قبل أن تنطق شفتاه، لأنه باب الله الذي لا يُغلق، وإمام القلوب الذي ما دخل حبه فيها حتى استغنت، ونالت العزة، عندها أخذته هيبة إمامه وشغله بهاه، وأخجله كرمه وتلطفه وحنانه، فأرتعد ووقع بين أصحابه فسألوه وهم يقولون: "ما شأنك ؟ فقال: خيرًا... وأسرّ الامر في نفسه وكأنه كان يُردد في نفسه: بل كل الخير، فقد نال نظرة ممن هو أصل كل خير. وهكذا قُدر له أن يكون مخرجه بتلك الصفة من مدينته سبباً لبلوغه لهدايته، وتغير حاله الى أحسن حالة، فقد اهتدى لإمام زمانه، ووجّه بوصلة قلبه نحو السبيل الذي فيه حصول ثباته، وتزود نوراً وعزاً ليَسير فيه بدنياه، وليُنير به ظلمة أخراه. وبهذا اليقين وهذه البصيرة أنصرف إلى أصفهان، ففتح اللـه عليّه وجوهاً من المال، حتى أنه كان يصف حاله أنه باليوم يغلق بابه على ما قيمته ألف ألف درهم،...، ورزق عشرة من الأولاد، وقد بلغ من عمره نيفاً وسبعين سنة وهو يقول بإمامة امامنا الهادي الذي علم ما في قلبه، واستجاب اللـه دعاءه فيه وإليه.. (١). ______________________ (1) بحار الانوار: ج49، ص( 141 - 142).

اخرى
منذ 5 سنوات
1598

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70393

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51503

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41498

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
36089

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
32915

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32263