المكاسب المعنوية ودورها في بناء الإنسان

إن الإنسان وفق الثقافة الدينية الإسلامية هو موجود له جنبتان: جنبة مادية ترتبط بتكوينه الترابي الأرضي، كما في قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}.(١) وجنبة معنوية ترتبط بكونه نفحة من روح الله سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي...}.(٢) ولكي يعيش هذا الإنسان حياة متزنة وسليمة عليه أن يحرص على تغذية هاتين الجنبتين كلاً بما يناسبها. وأن لا يُركز على جنبة ويهمل الأخرى فيكون صحيح البدن عليل الروح، أو العكس. مع أن الإنسان هو موجود سماوي بالأصل وما يبقى منه ولا يفنى هي روحه التي هي مرتبطة بعالم الغيب فهي الأهم والتي ستبقى، لذا فإهمال هذه الجنبة وعدم الحرص على تنميتها يجعل من هذا الإنسان موجوداً فاقداً لقيمته الحقيقية... فالجنبة المادية ما هي إلّا [مرْكَب] -كما يعبرون- أما الجنبة المعنوية فهي [القائد] التي تقود هذا الموجود للحياة الطيبة. ولنا أن نتخيل إذا كان دور هذا [القائد] غائباً أو مهملاً مغيباً، فمن سيقود هذا البدن؟! وإلى أي وجهة صاحبه متوجه؟ وبالتالي إلى أين ممكن أن يصل؟ هذا يوصلنا إلى أن نعرف أين تكمن أهمية التغذية المعنوية واكتساب حالة النمو الروحي الدائم، وذلك لكي يبقى هذا الفرد حيّاً بالحياة الإنسانية المطلوبة منه كخليفة الله تعالى في ارضه. فالمكتسبات المعنوية هي طاقة روحية تعطي الإنسان حالة من البهجة والسعادة والحيوية، فهي التي تقوي إرادة الإنسان للقيام بأي عمل. فالخمول والكسل والملل الذي يعيشه البعض يكون نتيجة لنقص في الحالة المعنوية فيهم. فالروح الإنسانية إذا فُعّلت ونمت؛ الإنسان يصبح شعلة متقدة تنير وتنفع وتبدع في المجتمع الإنساني. أي يصبح ذا قيم ومبادئ إلهية وإرادة تدفعه نحو كل خير ونبذ التفكير النفعي والمادي الشخصي المحض الذي تفرضه عليه الحياة المادية. كيفية تحصيل المكاسب المعنوية؟ هناك عدة مصادر منها: المصدر الأول: هو الثقلان، فأول منابع المكاسب المعنوية هو كتاب الله وأهل البيت (عليهم السلام)، فهم وسائط نزول فيض الله تعالى على عباده، فمن لا يأتي بوعائه ليُملأ من هذا النبع الأصيل فلن يحصل على شيء! وسيبقى فقيراً معنوياً، حيث قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (3) فالشفاء هنا من الأسقام المادية، وكذلك المعنوية بتطهير القلب من الأمراض وتصحيح الفكر من الشبهات. ولأهل البيت (عليهم السلام) هذان الدوران في حياة الإنسان لكونهم ترجمان آيات الله سبحانه، فهم القرآن الناطق كما أن آيات الله التدوينية هي القرآن الصامت. ومن هنا فمن الوفاء أن لا نغفل عن وجود أمامنا الحي الغائب (عجل الله فرجه) فهو تجلي الثقلين على الأرض وهو المصدر الذي علينا أن نسعى لبلوغ القرب منه والارتباط به لنحيا حياة معنوية طيبة في ضل رعايته ورحمته ودعائه وتسديده لنا. المصدر الثاني: مواسم الطاعة، كما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبداً" (٤). فهذه المواسم من شأنها رفع الطاقة المعنوية في الإنسان، ومن التفاتات اللطيفة لأحد الأفاضل أنه قال: "إن قيمة هذه النفحات ليس ببقائها فهي لا محال تزول، بل ببقاء أثرها ومقدار انتفاعنا منها... من قوة إرادة اكتسبناها؛ وقرار للتغيير في جانب من حياتنا قد اتخذناه وثبتنا عليه". المصدر الثالث: الأماكن التي فيها طابع روحاني وبركة كمراقد الأئمة (عليهم السلام) والأولياء والمساجد فهي مناسبة جداً ليكتسب الإنسان شيئاً جديداً يُضفي على روحه البهجة والنماء. المصدر الرابع: الرفقاء الصُلحاء ومتابعة ارشاد وتوجيه العلماء العرفاء فهم خير زاد ومعين. الاخطار التي تواجهها مكاسبنا المعنوية؟ أولاً: ضعف إيمان الإنسان بالجانب الغيبي وحصر نظرته على الحياة الدنيوية (المادية) فهذا من أشد الأخطار على الإنسان، فعندما يغفل عن جانبه المعنوي ويهمله فإنه يموت موتاً معنوياً، وإن كان حياً يمشي على هذه الأرض. ثانياً: عدم تعظيم شعائر الله، ونقصد هنا: كل شيء دال على عظمة الله سبحانه وكل شيء يُراد منه أن يلتفت الإنسان لغاية وجوده في هذه الحياة الوقتية، فعدم الالتفات لذلك من شأنه أن يميت قلب الإنسان فيفقد تقواه أي يصبح غير محصن من أن تدخله كل شاردة وواردة حتى يصبح مغلفاً مختوماً عليه ومقفلاً -كما ورد من تعابير قرآنية- ثم إذا مات القلب يصبح -كما تعبر بعض الروايات- "كالإناء المنكوس" مهما كان الفيض النازل كثيراً فلن يدخل شيء فيه لأن قلبه (وعاءه) غير قادر على استقباله والاحتفاظ به فيبقى بلا حياة... ثالثاً: عدم مراقبة النفس وتهذيبها وتطهيرها وتزكيتها من كل شيء فيه شبهة أو حرام، فالرزق الحرام يجعل النفس لا تتفاعل مع المكاسب المعنوية بشكل صحيح، وإن اكتسبتها إلا أن ترتيب الأثر يكون قليلاً ومعدوماً أحياناً. رابعاً: اتباع خطوات الشيطان من الأنس والجن فقد يكون الإنسان ذا مكاسب معنوية طيبة لكنه باتباع أهل الهوى والشيطان يفقد مكاسبه شيئاً فشيئاً. كيف نحافظ على المكاسب المعنوية؟ من خلال الحرص على عدم ترك المصادر التي ذكرناها آنفاً: ١- الاتصال الدائم بالأمام (عجل الله تعالى فرجه) الذي قلنا إنه وسيط الفيض الإلهي، واستمداد العون منه من خلال ترسيخ فكرة أننا دائماً بحالة حاجة وافتقار للمدد الإلهي المتمثل بالإمام (صلوات الله عليه). ٢- عدم هجر كتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً بما فيه. ٣- مراقبة النفس ومحاسبتها من خلال خلوة مع الله تعالى، وهناك مثال جميل لا بئس بذكره لأحد علمائنا (ادام الله ظلهم جميعاً) يقول: " كما أن بدنك يتسخ خلال اليوم ويحتاج إلى الاغتسال والملبس النظيف والتعطر، كذلك الروح تتسخ وتتعب خلال الاحتكاك اليومي بالناس لذا تحتاج أن تطهر بخلوة مع الرب بسجدة ودمعة تطهرك، وباستغفار يعطرك". ٤- تَذكُر الموت فهو خير واعظ ومحيي للقلب ليبقى على اتصال بعالم الغيب. ٥- الانتفاع من مواسم الطاعة والمناسبات والأماكن التي فيها نزول الرحمة والبركة. ٦- عدم هجر الرفقاء الصالحين، والحرص على عدم هجر أماكن الوعظ والإرشاد. ٧- الحرص على [عدم الالتفات القلبي] بالنظر أو السماع أو عند التواجد في أماكن لا يسودها جو الإيمان إلى الأمور التي من شأنها أن تفقدنا شيئاً من مكاسبنا الروحية. نسال الله ان يوفقنا جميعاً ويرزقنا الاستقامة في السير إليه. ________ (1)السجدة :7. (2)الحجر: 29. (3)الإسراء:82، (4) كنز العمال: 21324 ،21325. فاطمة الركابي

اخرى
منذ 5 سنوات
3729

حب النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) لفاطمة الزهراء (عليها السلام)

الحب هو انجذاب قلب الحبيب الى المحبوب ، وهو شعور ينبع من الفطرة التي اودعها الله في الانسان بسبب كمالات يملكها المحبوب. وكلما كانت هذه الكمالات أعلى كان الحب اكبر وأعظم لدى الحبيب نحو محبوبه. وحينما نصل الى الحب الذي كان يكنّه النبي الأكرم لفاطمة الزهراء نصبح عاجزين عن الوصول الى تمام حقيقته وماهيته ولسنا نغالي إنْ قلنا إنه خارج عن قدرة القلم واللسان والتحليل والبيان. لأنَّ كمالات وفضائل المحبوب ـ وهي السيدة الزهراء ـ لا يمكن حصرها ولا حتى بلوغ غاية حقيقتها ، حب النبي الاكرم للزهراء (عليها السلام) لم يكن حبَّ أبٍ لابنته فقط بل كان حباً ممزوجاً بالتعظيم والتقديس والفناء فيها صلوات الله عليها. إنَّ الزهراء (عليها السلام) بلغت في قلب النبي الأكرم مبلغاً الى الحد الذي جعله يصرح مراراً وتكراراَ "فداها أبوها" (1). فأية منزلة عظمة ودرجة سامية تلك التي بلغتها (عليها السلام) ليفتديها خير خلق الله بنفسه وصرح بذلك في اكثر من مناسبة. وهنا يمكننا ان نستعرض القليل من كمالات السيدة العظيمة فاطمة الزهراء علناً بذلك نصل الى درجة من فهم ومعرفة هذا الحب العظيم. رضا فاطمة رضا الله وغضبها غضبه: قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) : فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد اغضبني وقال (صلى الله عليه وآله) : يرضى الله لرضا فاطمة ويغضب لغضبها (2). لو تأملنا في الحديثين الشريفين لوجدنا أن النبي الأكرم ربط بين رضا الزهراء ورضا الله فأحدهما مرتبط بالآخر ولربما هي صلوات الله عليها الوحيدة بين الخلائق التي عُرفت بهذه الخصوصية. ولو اخذنا هذا الحديث وحده لتبين لنا أن الزهراء وجود لا يمكن ان يصل الى منتهى معناه انسان. وفي إشارة ثانية هي أن النبي الأكرم يربط بين غضب الزهراء وغضب الله عز وجل ومن هذا المنطلق جعلها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مقياساً لغضب الله تعالى وبيّن انها لن يصل لمكانتها سواها ولعل تأكيده الكثير على هذا الأمر كان بسبب علمه بما سيجري عليها من بعده فأراد ان يتم الحجة على الناس ويبين لهم أن الزهراء عليها السلام وجود فوق سائر الموجودات أو كما عبر الامام الحسن العسكري ( عليه السلام ) : (نحن حجج اللَّه على خلقه وجدّتنا فاطمة حجة اللَّه علينا )(3) الزهراء أفضل الخلق بعد النبي الأكرم ( ص ) ولقد صرح النبي الأكرم وائمة أهل البيت عليهم السلام بأفضلية الزهراء على جميع الانبياء والائمة ـ ما خلا الامام علياً (عليه السلام) الذي يساويها فضلا ومنزلة ومكانة ـ على أن بعض الروايات تذهب إلى أفضليته (عليه السلام) عليها (عليها السلام) ونذكر بعض الروايات الدالة على هذا الأمر فعن سلمان (رض) أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله): (من أفضل خلق الله ؟ فأشار النبيّ إلى الحسنين وقال : جدّ هذين ، قال سلمان : فمن بعد جدّهما ؟ قال : أبو هذين و أمّ هذين ، قال سلمان : فمن بعد أمّهما ؟ قال : هذان (4). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : يا علي إنّ الله أشرف إلى الدنيا ، فاختارني على رجال العالمين ، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين ، ثم اطلع الثالثة فاختار فاطمة على نساء العالمين ، ثم اطلع الرابعة فاختار الحسن والحسين والأئمة من ولدها (5). وكذا جاء عن سلمان في حديث طويل ينقله عن السيدة الزهراء قال فيه.... قالت فاطمة (عليها السلام): يا رسول الله ، فأي هؤلاء الذين سميت أفضل؟ فقال رسول الله : أخي علي : أفضل أمتي ، و حمزة و جعفر هذان أفضل أمتي بعد علي و بعدك ، وبعد ابني : و سبطي الحسن و الحسين (6). وهنالك الكثير والكثير من الروايات إلا اننا سنكتفي بهذا القدر... وكما هو واضح ان النبي والامام علي (صلوات الله عليهما) كانا قد صرحا بأن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أفضل وأسبق من الائمة ـ الذين هم أفضل وأسبق من الأنبياء السابقين ـ والائمة جميعا خلقوا من نورها ، وهذا الكمال ـ وكمالات الزهراء لا تعد ـ الذي تحظى به الزهراء الذي يجعل النبي الأكرم ينحني ليقبِّل يديها ورأسها إكراماً وتعظيماً... الزهراء حوراء انسية : روى الإمام العسكري عن أبائه عن الامام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لما خلق الله آدم وحواء ، تبخترا في الجنة ، فقال آدم لحواء : ما خلق الله خلقاً هو أحسن منا ـ كانا يظنان أنهما أفضل ما خلق الله ـ فأوحى الله إلى جبرائيل أئت بعبدي الفردوس الأعلى ـ ويعني آدم وحواء حيث كانا في الجنة ولم يريا الفردوس الأعلى ـ فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوكٍ من درانيك الجنة ، وعلى رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من نور، قد أشرقت الجنان من نور وجهها . فقال آدم : حبيبي جبرائيل من هي هذه الجارية التي أشرقت الجنان من حسن وجهها ؟ قال جبرائيل: هذه فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) ، وتكون من نبي من ولدك يكون في آخر الزمان. قال آدم : فما هذا التاج الذي على رأسها ؟ قال جبرائيل : بعلها علي بن أبي طالب. قال آدم : فما القرطان اللذان في أذنيها ؟ قال : ولداها الحسن والحسين. فقال آدم : حبيبي جبرائيل أخلقوا قبلي ؟ قال : هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تُخلق ـ يعني قبل أن تُخلق أنت يا آدم ـ بأربعة آلاف سنة(8). إنما الزهراء حوراء من الفردوس الأعلى نزلت الى الارض بصورة إنسية حين أكل النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) من تفاح الجنة ، ولذلك كان يقول دوما حين اشتاق الى الجنة أشمُّ ابنتي فاطمة لأنها خلقت ـ أي جسدها الآدمي ـ من الجنة. وبعد أن بينا بعض كمالات الزهراء عليها السلام يمكننا أن نعرف جزءً يسيراً من مدى الحب الذي يكنه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لها وكم كان يجلها ويعظمها ويبين علو منزلتها و جلالة قدرها عند الله تعالى. ويمكن أن نعرف مدى الضلال الذي استحكم بالأمة في الحقبة التي تلت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت بحق الأسوأ والاشنع في تاريخ الانسانية كلها! إن الارتداد الذي حصل بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان كفيلاً باقتلاع كل ما أفنى به النبي (صلى الله عليه وآله) حياته في زرعه في الناس من قيم ومبادئ واخلاق ، هذا الارتداد كان السبب الرئيس الذي جعل الامة التي بين ظهرانيهم فاطمة عليها السلام يهجم على بيتها وهم ينظرون ويؤخذ منها حقها وهم صامتون. فالسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) اشارة الى حديث سوار الفضة و وهو ورد في مقتل الحسين للخوارزمي وكتب أخرى (2) والحديث بهذه الالفاظ ورد عن اكثر من خمسين من رجال الحديث والسنن من الفريقين كالبخاري وسنن احمد والكافي والبحار . (3) اطيب البيان في تفسير القرآن / المجلّد 13 / الصفحة 225. (4) الخصائص الفاطمية ج 1 ص 562 . (5) أمالي الطوسي ص50 / - الخصال- الشيخ الصدوق ص 207 ) . (6) كتاب‏ سليم‏ بن‏ قيس ص565 ح1 . كمال ‏الدين ج1ص263ب24ح10. (7) رواها الشيخ الطوسي في مصباح الأنوار . (8)السند من السلسلة الذهبية وهي خير الاسناد وأقواها رواها العلامة المجلسي في البحار. والإربلي في كشف الغمة . وكذا استدللنا من مصادر اخرى كملتقى البحرين ومعاني الاخبار والارشاد وغيرها. نجلاء المياحي

اخرى
منذ 5 سنوات
6126

كن مثالياً وانطلق في الحياة

اغلبنا يتفاجأ بالمثالية والرقي كأنها معجزات أو من خوارق الطبيعة، ندلك أعيينا بقوة! هل فعلا هذا الانسان المثالي حقيقي ام نحن في حلم نود أن لا نفيق منه ابداً؟ واسباب ذلك تعود لما نشأنا عليه من أن الشخص المثالي هو إما نبي أو ولي، ونتناسى أن واجبنا الشرعي والاخلاقي ان نقلد أئمتنا وانبياءنا في اخلاقهم وسيرتهم المثالية قدر ما نستطيع. ألم يأمرنا الله تعالى بهذا في كتابه الكريم وشدد عليه كثيرا كما في قوله عز من قائل:{أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}؟ وكذا{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؟! ألم يقل النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله): إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق؟ فهل المثاليات غير الأخلاق الرفيعة والذوق في التعامل والكلم الطيب والسيرة الحسنة؟ وهل الرقي أكثر من أن يتمنى الذي يسمع باسمك أن يراك؟ في مقالنا هذا سنذكر لك ـ عزيزي القارئ ـ عشرة سبل تجعلك إنساناً مثالياً كما خلقك الله تعالى لهذا: أولاً: اترك القلق والتوتر اعلم أن قلقك في الحياة سبب رئيس لكل ما تعانيه من عاهة جسدية وأخلاقية، كن مؤمناً واعلم أن الله يفعل ما يشاء ويدبر الأمر. لن يؤخر قلقك أجلك، ولن يقربه، كما لن يزيد في رزقك ولن ينقصه، توكل على الله تعالى، أصلح أمورك بما تستطيع ودع الباقي عليه، فلا تثقل قلبك بالهموم، ولا تجعل للشيطان عليك سلطاناً وأي سلطان له عليك أكثر من القلق والتوتر؟! خاطب نفسك دوماً: لِـمَ يملكني القلق ولي رب يسير كل شيء بأمره؟ أليس الله بأحكم الحاكمين ؟ هل تظن ان الله تعالى يريد بك سوءا ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ثانيا: كن متواضعا: اعلم ان الانبياء والاولياء افضل منا في كل شيء، ورغم كل ما يملكون من المميزات الالهية كانوا متواضعين مع الناس، حتى مع من لا يؤمن بهم بل حتى مع من آذاهم. ألم تسمع بأن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) اتاه اعرابي وشد قميصه حتى أوشك ان يدمي عنقه المبارك قائلاً: يا محمد، اعطني من مال الله! ماذا فعل النبي (صلى الله عليه وآله)؟ التفت اليه ولم يحتقره كونه اعرابيا فضاً، واحسن له العطاء ولم يعاقبه، يقول انس ضحك النبي (صلى الله عليه وآله) ولاطفه وامر ان يعطوه مالا ...... ألم تسمع أن الامام الحسين عليه السلام حين اتاه احدهم طالبا منه مالا اختبأ الامام خلف الباب واعطاه كي لا يحرج السائل قائلا: خذها فإني إليك معتذر *** واعلم بأني عليك ذو شفقه لو كان في سيرنا الغداة عصا *** أمست سمانا عليك مندفقه لكن ريب الزمان ذو غير *** والكف مني قليلة النفقة ما اجملها من أبيات تثير في السائل مشاعر حب الامام له واحترامه لطلبه . ألم تسمع ان الامام علياً (عليه السلام) كان حاكما لأكثر من خمسين دولة و يخبز الخبز بنفسه للأيتام؟ ويحمل على ظهره الماء والأكل؟ ويحرث الارض ويعمرها ويهديها للفقراء؟ ألم تسمع ان الامام الحسين كان يضع خده على خد علي الاكبر وخد جون الاسود؟ ولم يفرق بينهما بحجة أن ابنه ابيض وصاحبه اسود؟ او النبي (صلى الله عليه وآله) الذي تبنى زيدا ـ وهو اسود ـ وكان يفرط في حبه حتى ظن الناس ان زيدا ابنه حقا؟ خاطب نفسك: هل أنا خير من هؤلاء كي احتقر من هو ليس من لوني او ثقافتي او مستواي الاجتماعي؟ اعلم ان التأفف والتكبر لن يزيدك الا احتقارا وذلة بنظر الله تعالى والناس. ثالثا: لا تكن لئيماً ابدا اعلم ان تباهيك بالمال والاولاد يؤلم من حولك ممن لا مال ولا ولد لهم، وتبجحك بالشهادات والثقافة تؤلم من لم يتمكن من الحصول على الشهادة او حتى التعليم، وصحتك واي شيء تملكه دون الاخرين . لو كان صديقك عقيما احذر ان يأخذك اللؤم ـ ولو من دون قصد ـ ان تثير مشاعره عبر كلامك الكثير عن اولادك. ولو كان جارك فقيرا احذر ان تحسسه بفقره بتباهيك بالمال والاملاك.. كن دوما لبِقاً وتعلّم ان تفكر قبل أن تنطق وأن تستشعر فعلك قبل ان تفعله، او كما قال الامام الحسن (احبب لأخيك ما تحب لنفسك). رابعا: لاطف الناس دوما: ما اجمل ان تكون كنسمة هادئة اينما تمر تثير الطمأنينة والسكينة! ما اروع ان يتمنى الناس مخاطبتك لطيب منطقك ودرر كلامك! ما ارقى ان يكون وجودك باعثا على الراحة والهدوء! فكّر بهذا، واعلم انك لو لاطفت طفلا في الشارع وقبلته او اعطيته كرته التي سقطت في منزلك فلن يتم خصم راتبك! لو ساعدت احدهم في حمل اغراضه، تأكد ان صحتك لن تكون بخطر! او رأيت متخاصمين واصلحت بينهما لن يتم رميك في السجن! أو بادرت بالسلام وتوددت لمن حولك لن ينقص من قدرك! كن دوماً ملاطفاً ... ودوداً... محباً... للناس. قال الامام علي ( نصف العقل مداراة الناس) (الحكمة التودد للناس). خامسا: اهتم بمظهرك: اعلم النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) لم يخرج من بيته يوما اشعث الشعر ولا مغبرة ثيابه . سيرة الصالحين كانت دوما هي النظافة في الملبس والاهتمام بالمظهر. طبعا هذا لا يعني ان تنفق ملايين على ثيابك، كن وسطيا لا اشعثا اغبرا ولا مرتديا ساعة بألف دولار! وان كنت تتساءل: لمَ كان الامام علي (عليه السلام) يرقع ثيابه قائلاً: رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها؟ فاعلم ان الامام استلم الحكم والناس جوعى والبلاد في خراب، فكان يواسي شعوبه بارتدائه ثياب العامة من الناس. هذا كان ردا من الامام الصادق (عليه السلام) حين سأله سفيان الثوري عن سر لبسه الثياب الجميلة الناعمة دون امير المؤمنين (عليه السلام) . سادسا: لا تتدخل في شؤون الناس: إن كان النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) ليس مسيطرا على الناس، ولم يتدخل في شؤونهم الخاصة حتى يسالوه، خاطب نفسك من أنا لأكون فضولياً؟ ما شأني بمن يخرج بملابس قديمة او جديدة؟ ما شأني إن كان اثنان يتحاوران بينهما كي أفرض رأيي عليهما؟ تخيل: كم يكون مخزيا ان ندخل في حوار لسنا مدعوين له! ما شأني بمن صلى وصام وحج وزكى ؟ هل جعلني الله وكيلا؟ انصحه إن توفرت شروط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن لا تفرض آراءك عليه ، واعلم ان الله بذنوب عباده بصير خبيرن وأن من تتبع عثرات الناس تبع الله عثرته. لا تكن فضولياً، فان كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب. سابعا: كن واثقاً من نفسك دومًا: الثقة بالنفس هي احساسك بقيمة نفسك وقيمة ما عندك، واعلم أنها ملكة لا يملكها الا ذو حظ عظيم. كن دوما شخصا ثابتا واثقا من خطواتك وكلامك وافعالك. طبعا هذا لا يعني ان تكون مغرورا مقيتا، فبين الثقة بالنفس والغرور خط رفيع إياك ان تتجاوزه. ثامنا: كن قويًا: تخلص من الشعور بالجبن، الموت ميعاد، ولن تموت الا إن شاء الله تعالى. لا يكن همك كيف تنجو كيف تهرب كيف تتخلص من المشاكل. افعل ما تراه صوابا واترك ما بقي على اللهـ فهو اعلم بنواياك. لا تكن محطما ضعيفا ولا متسلطا ظالما، ابتعد عن التغطرس والطيش واعلم ان القوي هو من يملك نفسه وقت الغضب . تاسعا: لا تكن شخصا سطحيا: كن متوازنا في افعالك واقوالك لا تكن كالأشخاص السطحيين الذين لا هم لهم الا التدخين والاغاني والجلوس في الطرقات والضحك والكلام بصوت عال . اعلم ان هذا يجعلك تافها بنظر الجميع كما ان فيه بعض الاثم والعدوان. وإن أجبرتك رفقه السوء على التدخين فاحذر ان تدخن امام من لا يدخنون، لا تشركهم في اخطائك. لا تخطأ بمرأى من الناس فتكون من الذين يشيعون الفاحشة في اللذين امنوا. ولا يكن همك الكلام عن الناس واخطائهم، اعلم ان هذا من تفاهة فاعله وهو حرام وفعل دنيء جدا. عاشرا: احذر اصدقاء السوء: اعلم ان الانسان يتأثر قطعا بمن يحيطه حتى لو لم يشأ هذا . اصدقاء السوء بضاعه رخيصة لن تجني منها الا العفن . انهم يرحبون بك ايما ترحيب ان كان في جيبك مال او لديك ما ينفعهم لينتفعوا فقط. الاصدقاء كالفاكهة فيها الطازج وفيها الفاسد , اختر الصالحين فقط. كن ودودا مع الجميع .... صديقا للقليلين ..... ولا تكن عدوا لاحد. هناك الكثير مما بقي لأنصحك به، لكن يطول المقام بنا كثيرا اجعل تقوى الله ميزانا لك في الحياة واعلم ان الدنيا دار فناء وايامك سويعات فاقضها في التكامل الروحي والاخلاقي. فكلما كنت متقيا، فإنك ستحيي مثاليا ابدا. نجلاء المياحي

اخرى
منذ 5 سنوات
2568

ليلةُ العاشر، وفجرُ الحسين ...

ظلامٌ دامس، أصوات منخفضة، تُسَبّح ربها، وتستعد للقاء الحبيب غداً. يجمعهم سيدهم، ليسألهم عن عزائمهم (إنَّ للحسين العلم الكامل بحال أصحابه ولم يكن يحتاج لسؤالهم، لكنه أراد أَن يثبِّت موقفاً للتاريخ) أجابهُ مسلم بن عوسجة الأسدي: أنحنُ نخلي عنك ولمَّا نعذر إلى ﷲ في أداء حقك؟ أما واﷲ حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي وأفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وقال الآخرون: واﷲ لا نُفارِقكَ ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قتلنا كنا وفيّنا وقضينا ما علينا. فما كان منهم إلّا أعلى درجات التضحية وبذل النفس في سبيل الحق، حتى قال فيهم الحسين: ما رأيتُ أصحاباً أوفى من أصحابي. مشهدٌ آخر: فارسٌ يحومُ حولَ الخيام، يحميها ويطمئن من فيها، فلسانُ حالهِ: ما دام لي نفس في صدري فلن يقربكم أحد. لكن كيف سيكون حالهُ غداً عندما يرى الحسين قد انحنى ظهره على مصرعه؟ يرى الشمر يدفع أختهُ زينباً بكعب الرمح ويقول لها: إن لم تبتعدي عن الحسين سأقتلكِ بعده! يدوس الشمر على صدر أخيه ويحتز رأسه الشريف، يسمعُ زين العابدين (عليه السلام) يقول للنساء: عليكن بالفرار. زينب في الخيام تصلي وتدعو، تسمعُ صوتاً يثلجُ قلبها، صوتُ أخيها الحسين (عليه السلام) يتلو القرآن، هذا الصوت الذي لن تسمعهُ مرةً أُخرى، فتنصتُ له ثم تذهب وتجلس عنده في ليلتهم الأخيرة معاً. تودع أخاها وتتزود منه، فيوصيها الحسين بوصية عظيمة: أختي زينب، إذا رأيتِ الشمر يجلس على صدري فابتعدي عنه ولا تكلميه، عليكِ بالصبر، أختاه لا تلطمي عليَّ خداً ولا تشقي عليَّ جيباً... وهي تقول سمعاً وطاعة. الرباب جالسة ترضع طفلها الصغير، تناغيه، تلاعبه، تتأمل ملامحه البريئة، تقبل نحره. هذا النحر الذي سيُذبح غداً وهو عطشان! علي الأكبر يجالس أخاه زين العابدين، وهما يعلمان أن غداً لن يبقى مجالاً للقاء. سيرحل الأخ عن أخيه مدافعاً، ويرجع مقطّعاً. بنات الحسين (عليه السلام) يقضين آخر ليلة مع الأب الحنون، فالبنت لها علاقة روحية مميزة مع أبيها. فكيف بمن لها أب كالحسين.. كيف كانت آخر ليلة معه! وهكذا كان كل واحد منهم يعدُّ نفسه لبلاء يوم غد، يشوّق نفسه للتضحية والفداء في سبيل الحق. فما كان منهم يوم العاشر، إلّا أسمى درجات الوفاء بالوعد، والإخلاص لسبط رسول ﷲ. وكانت مثال الصبر والتضحية سيدتنا زينب (عليها السلام) عندما قالت بعد واقعة الطف المفجعة أمام الأعداء: ما رأيتُ إلّا جميلاً. سيدتي انتِ تقولين هكذا؟! نعم، لأن مولاتنا زينب (عليها السلام) كانت تنظر بعين الرضا والتسليم والحب للّه نظرة عميقة. فهي عالمة غير معلمة، تعلم ما لهذه الواقعة من أثر إيجابي على الإسلام، وتعلم أن أخاها قد انتصر بدمه على الظلم والجور، فلم ترَ من صنع اﷲ إلا جميلاً. هذه الأحداث القليلة ليست فقط لأثارة المشاعر، بل هي للتفكّر واستيعاب العِبَر والقيم العالية في التضحية والتسليم للحق.. الحسين (عليه السلام) يعلمنا بذل النفس والأهل والأصحاب، في سبيل الإسلام، والمصلحة العامة، فهل هناك من هو أكرم منه؟ قدّمَ أصحابه خيرة الأصحاب، ولمّا لم يبقَ منهم أحد، قدّمَ أهل بيته واحداً تلو الآخر، وكان يتهلل ويشرق وجهه كلما مرت عليه مصيبة. حتى لم يبقَ أحدٌ من أهل بيته. فأراد أن يقيم الحجة على أعدائه في آخر موقف له معهم، فنادى: أما من ناصر ينصرنا، أما من محامٍ يحامي عن حرم رسول الله! فلم يجبهُ أحد، فرأى الوقت قد حان لفداء النفس، فقدّم نفسه لنصرة الحق، والمصلحة العامة للإسلام والمسلمين على مر العصور، فلولا هذا الدم الطاهر في كربلاء، لما وصل لنا الإسلام الصحيح! فالحسين (عليه السلام) يعلمنا كيف نعيش حياة مشتركة، متراحمين فيما بيننا، نقدم المصلحة العامة على مصالحنا، نرفض الظلم والجور، ونكون أحراراً. يعلمنا كيف نكون في قمة الإنسانية. أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، نرضى بما يقدره ﷲ لنا... الحسين يعلمنا الحب... والكثير الكثير من العبر الجميلة الرفيعة العالية التي لا تُحصى. البكاء والجزع على الحسين جميل وضروري لبقاء معالم الثورة والظُّلامَة. لكن بالمقابل فإن التأمل واستلهام العبر من مواقف هذا اليوم الملحمي العظيم، هو في غاية الضرورة أيضاً. فواقعة الطف هي تجسيد للإسلام الكامل القوي، وهي مدرسة عظيمة لمن يروم الدخول فيها، ويخسر من يتخلف عنها. نقاء

اخرى
منذ 5 سنوات
4349

كيف يمكن نصرة الامام "بالقلم"؟ وهل لهذه النصرة امتداد في عصر الظهور؟

لعل من التعاريف الجميلة التي عُرف بها القلم هو ما قيل بأنه " الحافظ للعلوم، المدوّن للأفكار، الحارس لها، وحلقة الاتصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل. بل حتّى موضوع ارتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضاً". وبأنه" يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا... ".(١) فلا عجب أن تكون هناك سورة كاملة في كتاب الله - الذي هو دستور حياة الانسان- باسم "القلم" ففي ذلك إشارة وتنبيه لنا على أهمية هذه الأداة الموصلة للمعارف والتي تكتمل بها معتقدات الإنسان الفكرية وتحفظ بها علومه العقلية والنقلية . وبذلك يتم إيصال وتبيان الحقائق وتثبيتها للأجيال لكي لا يضلوا الطريق ولا ينحرفوا بالأقلام المشبوه والأخبار المزيفة الموصلة لهلاك الانسان. ففي كل جانب من جوانب الحياة هناك من يدعو للحق وترسيخ القيم وكل ما يرتبط بالمعارف الالهية وهناك من يدعو لخلاف ذلك مِمَن اتباع هواه ونفسه الأمارة بالسوء. فالقلم هو رمز لأداة عامة تطورت بمرور الزمن ولكن الغاية منها واحدة وهي إيصال مفهوم ما أو ثقافة أو معتقد ما إلى المجتمع البشري. وما لفت انتباهي هو أن السورة التي كانت باسم "القلم" كان اطارها العام يتحدث عن صنفين: صنف عَلم بالحق وآمن بالحجج الالهيين فبلغ الهداية، وصنف جهل وأستهزئ بما جاءت به الرسل من آيات فكان مصيره الضلال على أثر ذلك. ولذا ففي هذا الربط إشارة الى ان القلم من أهم الوسائل بتعريف الناس بالحق المتمثل بمن هو سبيل الله الموصل اليه والمتمثل بخط اهل السماء، وبهذه الوسيلة يتم احياء العقول الجاهلة بهذه الحقيقة. فالرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) قد بَيّن من هو السبيل بعده واكد على ذلك واراد ان يثبت ذلك في وصيته كما ورد عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس،... قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « ائتوني بالكتف والدواة ، أو اللوح والدواة ، أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً ».(٤) فبالنتيجة هو(صل الله عليه وآله) أراد أن يثبت هذا الأمر عبر تدوينه، إلا ان الامة لجهلها منعوه ان يخط ذلك خشية على مصالحهم الدنيوية إثر اتباعهم لأهوائهم... وأبى الله تعالى الا ان يظهر أمره. فمنهاج الحجج الالهيين قائم بالأساس على التوضيح والتبيان والفكر لا السيف والاكراه فكما ورد :" إنّ قوام اُمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم"(١) وهنا أتى دور انصار الحق والمؤمنين به ممن حفظوا وصية النبي(صلّى الله عليه وآله) في قلوبهم والذين ثبتوا ولم ينقلبوا على اعقابهم؛ واتبعوا السبيل وهو امام زمانهم الامام علي(عليه السلام). فكانت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) الشخصية الابرز في التصدي لحفظ رسالات السماء من خلال خطبها وتضحياتها الجسيمة، فقد كانت خير مُبيّن وناصر لإمام زمانها... فتوثيق خطبة الزهراء(عليها السلام) كان بمثابة فرقان للناس ليصل من يريد ان يبصر نور الحق من خلالها. وهذه الفقرة من خطبتها :«وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أمنًا للفرقة».(٥) يمكن ان نقول انها قد أوجزت لنا جوهر غاية الامامة وثمرة اتباع خليفة الله المجعول من قِبل الله في ارضه. وهكذا الاصحاب الخلص ممن ناصر الامام علياً (عليه السلام) ففي كل زمان كان هناك من يبيّن ويعرّف الناس بحق إمام زمانه ويبين للناس أمور دينهم ودنياهم وفق نهج أهل البيت (عليهم السلام) من أصحاب ذلك الامام وتلامذته، وهناك شواهد كثيرة تثبت ذلك - لسنا بصدد الحديث عنها - ونحن الان في زمن لنا أمام زمان هو غائب عنا بشخصه حاظر فينا لان " الارض لا تخلو من حجة "... فمن أهم واجباتنا: إعداد أنفسنا لنكون أهلاً لهذا الانتماء من خلال معرفته كإمام مفترض الطاعة وحجة الله وبقيته والسبيل الموصل اليه. ونجعل طاعتنا وتسليمنا راسخاً في قلوبنا باتباع منهجه والسير على سيرة أجداده وآبائه... فمتى ما كنّا كذلك كنا ممن يوفقون بأن يكونوا من الادلّاء على امامهم والدعاة إليه والذين يقودون الناس للاهتداء بنوره (عجل الله فرجه)... فكم من موالي غافل عن امامه؟ فعلى الذاكر لإمامه ان يوقظه من غفلته. وكم من مدّعٍ لحب أهل البيت وهو يؤذي الامام بأفعاله؟ فعلى العاملين بنهج ائمتهم ان يأخذوا بيده ويصححوا له مسلكه. وكم من تائه يعيش في ظلمة الذنوب والمعاصي يحتاج الى رشحات نور من نور الامام؟ وعلى من يملكها ممن استقى من نور امامه ان يزوده وينير له ظلمته ... فكل هؤلاء يحتاجون ان يعرفوا امامهم ويتعرفوا عليه من خلال المنتمين اليه والعارفين بضرورة الارتباط به... فالضال لابد ان يرتبط بإمامه ليهتدي، والمهتدي عليه ان يزيد ويعمّق ارتباطه بإمامه لكي يكون من اهل الاستقامة. فالإمامة منهج والمأموم عليه ان يكون مرآة تجلٍ لهذا المنهج ليتحول على شكل سلوك سليم يرتضيه الامام فيتحقق بذلك فينا جانب من مفهوم نصرتنا له. وهنا يمكن أن نستفيد من قول الإمام الصادق (عليه السلام): « إن العلماء ورثة الأنبياء».(٢) فالعلماء هم ترجمان للخط الالهي، فهم بتثبيتهم للعلوم الحقة بنفوسهم واستيعابهم لها تمكنوا من حفظ إرث الأنبياء والأوصياء... فكما أن الانبياء جاؤوا لهداية البشرية وليبينوا لهم الحق ويرشدونهم لما فيه صواب؛ فيحيونهم الحياة الانسانية المتمثلة بحياة الفكر والوعي والتعقّل كانت المسؤولية ملقاة على عاتق العلماء كذلك. فمن غايات خلق الانسان هو ان يكون ذا علم وتعقل ليبلغ الرشاد فلا ينحرف عن طريق الحق ويبلغ الغاية القصوى من خلقه ألا وهي نيل الرحمة الالهية. ففي زمننا هناك من ينصر الامام بقلمه من العلماء والمفكرين من خلال ما يتوصلون اليه من خلال تتبع اثار النبي (صلى الله عليه وآله) وعترته صلوات الله عليهم وهو ما يعرف بالاجتهاد والفقاهة. وكل من يبحث ويتوصل للحق وتحصل لديه معرفة بإمام زمانه تقع عليه ذات المسؤولية وذلك بالسعي لإيصال ما يعرفه لمن لا معرفته له. والسؤال هنا هل هذه النصرة ممتدة في زمن حضوره ؟ هنا يمكن ان نجيب بالاتي: كما أن هناك في زمن كل إمام حاضر من هم من أهل العلم والمعرفة كان لهم دور في ايصال فكر أهل البيت ومنهجهم للناس مع وجود امام ذلك الزمان، ففي زمن حضور الامام المنتظر(عجل الله تعالى فرجه) هناك علماء وفقهاء ايضا يمارسون هذا الدور ويعطيهم هذه المسؤولية. فلما نتتبع الروايات- وفق استقراء غير تام - نجد أن هذا الباب يبقى مفتوحاً ولكن بإشراف الامام بشكل مباشر، حيث إن باب الاجتهاد يُغلق والإمام يحيي قلوب الناس بإحياء القرآن واظهار السنن الحقة وتجديد الاسلام. كما ورد في النهج الشريف :« فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميّت الكتاب والسنّة » (٧) فهناك صنف من الروايات تتحدث عن الاكتفاء الذاتي (المكتسب من فيض الامام الحاضر) للمجتمع الانساني في معرفة الحق كما في هذه المصاديق: - كما ورد عن الامام الصادق(عليه السلام):« العلم سبعة وعشرون حرفاً.... فاذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثّها في الناس،... ». (٨) - وعن الامام الباقر(عليه السلام):« اذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكملت بها أحلامهم».(٩) - وعن أبي جعفر(عليه السلام) أنه قال:«...وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله (صل الله عليه وآله وسلم) ».(١٠) وهناك بالمقابل صنف من الروايات تتحدث عن عدم وجود اكتفاء ذاتي بل هو نسبي عند افراد المجتمع الانساني في دولة الامام(عجل الله تعالى فرجه) كما في المصاديق التالية: - ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :« كأنّي أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، قد ضربوا الفساطيط، يعلّمون الناس القرآن كما اُنزل ». (١١) - وفي الغيبة للنعماني:«...عن محمد بن جعفر، عن أبيه(عليهما السلام) قال: إذا قام القائم [بعث] في أقاليم الأرض في كل إقليم رجلا يقول عهدك [في] كفك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها».(١٢) وهنا لعل وفق المقارنة بين ما ذكرناه من روايات ان اتمام العقول وبلوغ اعلى درجات المعرفة يتحقق بشكل كامل في بعض الناس من القادة والاصحاب الذين يعتمد عليهم الامام في تشييد دولته، وتثبيت اركانها في كل العالم. كما ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في وصف أصحاب المهدي (عجل الله تعالى فرجه):« .. وهم النجباء والقضاة والحكام والفقهاء في الدين، يمسح الله بطونهم وظهورهم فلا يشتبه عليهم حكم».(١٣) وهذا لا يعني نفي تحقق اكمال عقول عوام الناس بل هو يتحقق ايضاً ولكن في حدود فهمي لعله يكون من ناحية تقبلهم للحق وقبولهم وأقبالهم عليه لما يُدعون له ويُبين لهم ممن هم من اتباع المذاهب الاخرى والشرائع الاخرى كاليهود والنصارى... أو لعل إكمال عقولهم سيكون في مرحلة متأخرة عن خُلّص أصحابه، وهو ما يمكن أن نفسر به روايات تعليم الناس القرآن كما أنزل وأمثالها. والخلاصة: ان القلم وسيلة لإيصال العلوم والمعارف ففي زمن الغيبة نحن نتعلم ونعلم بواسطة ما وصل الينا من علوم أهل البيت مما ينطبق ويوافق كتاب الله. وفي الظهور نأخذ علمنا مباشرة من الامام عليه السلام. وهو (صلوات الله عليه) كما انه في غيبته يختار اصحابه الممهدين لظهوره، الامر كذلك في ظهوره فأهل الاستعداد والقابلية في الغيبة هم من يلقى عليهم هذا الدور عند تحقق الفرج. وبذلك فليتنافس المتنافسون الان وقبل الظهور. ________________ (١) تفسير الأمثل: ج١٨، ص٣٠١. (٢) الكافي:ج١، ص ٣٢، ح٢. (٣) مجمع البيان: ١٠ : ٥٠١. (٤) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ١١٦: ٣٣٣٦. (٥) شرح خطبة الصديقة فاطمة الزهراء(ع):ص١٥٥. (٦) مكيال المكارم :ص١٦٣. (٧) نهج البلاغة: خطبة١٣٨. (٨) البحار، ج ٥٢، ص ٣٣٦، ب ٢٧، ح ٧٣. (٩) البحار ، ج ٥٢، ص ٣٢٨، ب ٢٧، ح ٤٧. (١٠) كتاب الغيبة: ج ١، ص ٢٤٣.(١١) الغيبة للشيخ النعماني، ص ٣١٨، ح ٣. (١٢) بحار الأنوار، ج ٥٢، ص ٣٦٥. (١٣) الإمام المهدي وظهوره، ص٢٣٨ . فاطمة الركابي

اخرى
منذ 5 سنوات
2097

من أسئلتكم

السائل: ماهي نصيحتكم لأخت لا يسمح لها زوجها بالخروج من البيت حتى لزيارة أرحامها، فكيف تتعامل معه، علماً أنّها تشبّه حالها بالملل من الجلوس في البيت الذي تعتبره سجناً لها؟ الجواب: سيتم بيان الجواب بنواحيه المتعددة. أولاً: لقد أكّد الإسلام الحنيف على أهمية صلة الأرحام؛ لتبقى العلاقات الاجتماعية قائمة متراصة بين أبنائها. فالحكم الفقهي لقطيعة الرحم هو الحرمة, حيث جاء في جواب المرجع الأعلى سماحة السيد السيستاني (دام ظله): "تحرم قطيعة الرحم ، حــــتى لـــو كان ذلك الرحم قاطعا للصلة تاركاً للصلاة ، أو شارباً للخمر، أو مستهيناً ببعض أحكام الدين، كخلع الحجاب وغير ذلك بحيث لا يجدي معه الوعظ والإرشاد والتنبيه بشرط أن لا تكون تلك الصلة موجبة لتأييده على فعل الحرام. قال نبينا الكريم محمد (ص[صلّى الله عليه وآله]): «أفضل الفضائل: أن تصل مَن قطعك ،وتعطي من حرمك ،وتعفو عمّن ظلمك». وقال (ص[صلى الله عليه وآله]): «لا تقطع رحمك وان قطعك». ولعلّ أدنى عمل يقوم به المسلم لصلة أرحامه مع الامكان والسهولة ، هو أن يزورهم فيلتقي بهم ، أو أن يتفقد أحوالهم بالسؤال ، ولو من بعد. قال نبينا الكريم محمد (ص[صلى الله عليه وآله]) «إنَّ أعجل الخير ثوابا صلة الرحم ». وقال أمير المؤمنين (ع [عليه السلام]): «صلوا أرحامكم ولــو بالتسليم، يقول الله سبحانه وتعالى( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنَّ الله كان عليكم رقيبا)». وعن الإمام الصادق (ع[عليه السلام]): «إن صلة الرحم والبرِّ ليهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب ، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم ، ولو بحسن السلام ورد الجواب»)(1). فالشرع رسم لنا أصالة حكم صلة الرحم وكيفية تحققها, وعلى نهجه يسير المؤمنون ثانياً: ما يترتب على الزوج يؤثم الزوج إذا منع زوجته من صلة رحمها دون مبرر شرعي, وقطع سبل وصولها لهم, أو تقصيها عن أحوالهم, وتغطرس في ذلك. وقد لا يؤثم إذا منعها ذلك؛ في حال لو كانت زيارتها لأرحامها تسبب ضرراً أو حرجاً لها أو له, كما لو كان من تذهب لزيارتهم لا يبالون بارتكاب الذنوب -كالغيبة والنميمة مثلاً-. فهنا عدم زيارتها لهم يكون أفضل لها من مشاركتها لهم في الذنوب التي قد تتسبب بتهديم أسرة بكاملها, فلا حرمة على زوجها لو منعها صلة اولئك الأرحام. ثالثاً: ما يترتب على الزوجة على المرأة أن تلتفت إلى حكم شرعي يقول بأن صلة الرحم لا ينحصر تحققها بزيارة الأهل ميدانياً، بل يكفي أن تسأل عليهم, حيث جاء سؤال موجه لمكتب السيد المرجع مفاده: "السؤال: كيف تكون صلة الرحم؟ الجواب: يكفي ان تسأل عن حالهم ولو بالهاتف وتعودهم اذا مرضوا ونحو ذلك ولا يجب ان تزورهم(2). ولو منعها زوجها حتى من الاتصال بأهلها فهنا عليها حل الموضوع باتباع الحلول التالية: 1- بالاتفاق بينهما على صيغة معينة لصلة الرحم. 2- وإن تعذر الاتفاق فبتحكيم طرف رشيد من أهله وطرف من أهلها لفض النزاع المترتب على هذا الأمر. 3- وإن تعذر التحكيم فعليها مسايرة الحياة وكلٌ ينال جزاءه عند الله تعالى, وتواصل واجباتها الزوجية المناطة بها شرعاً، لا أن تُخلّ بها وتجعل الموضوع مسوغاً لتركها. واعلمي يا أختاه أنّه يوجد حكم شرعي ينظّم خروجكِ من بيتكِ دون إذن زوجكِ, كما يوجد حكم شرعي ينظم علاقاتكِ بأرحامكِ, ذلك الحكم يقول بالحرمة, فلا تنظري لتحقيق المثوبة بمنظارٍ واحد فقط, فبالتزامك بتعاليم زوجكِ تنالين المثوبة أيضاً. ومن الخطأ أن تصفي بيتكِ بالسجن وحالكِ بالملل, وأنا على يقين بأنكِ لو قرأتِ روايات محمد وآل محمد (عليهم السلام) في فضل طاعة المرأة لزوجها لتغيرت مصطلحاتكِ, ولسعدت حياتكِ, قَالَ رسول الله ( صلى الله عليه و آله) : " جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ لِزَوْجِهَا "(3). فأنتِ في بيتكِ الذي وصفتيه بالسجن لكِ فضل كفضل المجاهد في سبيل الله سبحانه, وجميعنا يعلم عظمة فضل الجهاد في سبيل الله, إن أحسنتِ علاقتكِ بزوجكِ. وبعبارة أخرى نقول للأخت الكريمة: يجب ان تكون الحياة الزوجية ضمن الإطار الإلهي الذي ذكره القران الكريم (مودة ورحمة) فإذا خرجت عن هذه الدائرة أصبحت حياة تعيسة خاوية وهزيلة تخلو من مقومات ومرتكزات العيش السعيد. لذا وجب على الزوجين الجلوس جلسة حوار وتفاهم وليست جلسة انتقاد وكيل اتهامات، وأن يختارا وقتاً مناسباً لمناقشة أسباب الاختلاف في الرؤى ووجهات النظر التي تسبب مشاكل وانقطاع تواصل، هذه المناقشة والحوار من أجل إرساء دعائم الحياة المستقرة والقائمة على أساس الحب والاحترام. اما فيما يخص السؤال وما ورد فيه، فإن السماح للزوجة بعيادة أهلها وأقاربها لهو من المستحبات الأكيدة، وقد قال سماحة السيد السيستاني في منهاج الصالحين (ينبغي للزوج ان يأذن لزوجته في عيادة اهلها واقاربها) وفي نفس الوقت يلزم أن يكون الزوج صاحب مروءة وأخلاق مع زوجته، فلا يتزمّت برأيه، مستغلاً ذلك الأمر من أجل كسر ذات الزوجة وارضاءً لكبريائه وغطرسته. ويمكن للزوجة ان تستخدم أسلوب اللين مع زوجها وقدرتها في التأثير عليه بأساليبها الطريفة وطريقتها الجذابة وهذه من الطرق التي تقلب الزوج رأساً على عقب.. ___________________ (1) موقع مكتب السيد السيستاني (دام ظله). (2) المصدر نفسه. (3) بحار الأنوار : 74 / 166. والحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيّدنا محمدٍ وآله الطاهرين. علوية الحسيني وقاسم المشرفاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
1682

كيف ترشد الناس؟

كيف ترشد الناس؟ هذه عدة نصائح: ١- عليك أن تفهم أنّ لكل فرد من الناس طبعاً، ولكل منهم طريقة وأسلوباً، فهناك من ينفع معه الاستدلال العقلي، وهناك من ينتفع بدغدغة مشاعره وفطرته السليمة، كبشر الحافي الذي اهتدى بعبارة واحدة هزت قلبه (لو كان عبداً لاستحيى من الله)، فعليك أن تحاول فهم الطرف الآخر قبل أن تكلمه. ٢- انتبه لطريقة نصحك للناس، فليس الجميع يتقبل منك النبرة الحادة في الكلام والصوت المرتفع فقط لأنك أكبر منه سناً أو لديك علم، كن حذراً جداً. ٣- امسك أعصابك مهما كان الطرف المقابل بنظرك جاهلاً يجادل، وأعلم أنك لن تسع الناس بمالك لكن يمكنك أن تسعهم بخلقك، ومن أكثر ما اشتهر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلمه وسعة صدره مع الناس الذين كانوا عُرباً أجلافاً. ٤- أنت كإنسان لا تقبل أن ينتقدك الناس على اخطائك بشكل مباشر، فلا تتوقع منهم الانصات والخضوع لك وأنت تنتقدهم بشكل عنيف أمام الآخرين، كن منصفاً، فما يؤلمك ويحزنك يحزن غيرك ويؤلمه. ٥- لم يحرّم الله الخمر أول يوم في الدعوة، هل تساءلت لماذا؟ لأن الإنسان يتعلم بالتدرج على الاقلاع عما اعتاد عليه، فلا تتوقع أن كل إنسان يقلع عن ذنوبه واخطائه بمجرد قولك: حرام... لاحظ كيف ان الله منعهم من الصلاة وهم سكارى، ثم بيّن لهم مساوئ الخمر والسكر ثم حرّمها عليهم. هذا نموذج لعادة سيئة اعتادها الناس فعالجها الله تعالى بما يوافق الطبيعة الإنسانية، وكل ذنب هو في الواقع عادة سيئة تحتاج إلى أن تعوّدهم على التقليل منها ثم تعطيهم البديل الذي يناسب الشرع الحنيف وبعدها سيقلعون عن الذنب. ٦- الإنسان كائن مختلف تماماً عن عالم الارقام والقوانين الوضعية والدراسات ووو… الإنسان كائن نفخ الله فيه من روحه وميّزه بنعمة العقل والمقدرة على الوصول للكمال، احذر أن تستهين به، انظر في كل فرد من الإنسان بما خصّه الله به، فعامله بما يستحق، وأعلم إن كان الله لم يرتض لإبليس -الذي كان من عباده- أن لا يسجد له، فلن يسوغ لك أن تقلل من قيمته. ٧- أغلب الناس -بحسب ما استقرئت من تجاربي وبحسب ما يذكر في كتب علم النفس والاجتماع- يستجيبون للنصح غير المباشر، أي إنك تبين له أنك مخطئ دون أن تصرح بذلك، مثلاً كان معك أحدهم وأنت تعلم أنه لا يصلي، فمن غير المحبذ ولا النافع أن تقول له: يا لك من زنديق كيف لا تصلي يا كافر يا...! بكل هدوء يمكنك أن تقول: ما رأيك أن نقوم للصلاة، بدل ان نؤجل صلاتنا لآخر الوقت بسبب المشاغل. أولاً سيستحيي منك وينهض للصلاة ويكون قد فهم تماماً أنك علمت أنه لا يصلي لكنك لا تريد أن تجرحه أو تكذبه إن لم يقر أنه لا يصلي، وهذا له تأثير نفسي كبير عليه مما يجعله ولو تدريجياً يصلي ويهتم بصلاته، وقس على هذا سواه... ٨- في حياتك ستصادف أناساً رائعين محببين للنفس، ما أن تنصحهم حتى تفيض أعينهم من الدمع حباً لك وفرحاً أن وجدوا من يرشدهم، احمد الله على وجودهم في هذا العالم وبمقدرتك أن تكون لهم هادياً. وكذلك قد تصادف أناساً غليظي القول كأَن طينتهم مزجت بالسوء والقسوة، لربما في نصيحتك لهم تلقى الكلام الجارح والتصرف غير اللائق، أبق مبتسماً هادئاً وكلّمهم بهدوء، تذكر دوماً أن النبي محمداً (صلى الله عليه وآله) بعظمته رجمه قومه بالحجارة وما قال فيهم إلّا (اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون)! ٩- صدق من قال: إن الناس عقولهم في عيونهم وآذانهم. لا تنصح الناس بما لم تتمسك به أنت، وإن كنت مضطراً فبيّنْ لهم إنك فعلت خطأ وأنت كذلك تريد أن تصلح نفسك بهذا كما تريد اصلاحهم، وإلّا فلا تتعب نفسك بالنصح بل لا تجعلهم يظنون أن كل مرشد هو منافق ينهى الناس عما يأتي به! ١٠- وأهم من كل ما سبق: كن مخلصاً وصادقاً في نصحك للناس، اجعل غايتك أن ترضي الله وترشدهم، سواء كانوا من قومك أو لا، سواء كنت تحبهم أو تكرههم، لا يكن هدفك تتبع عثرات الناس، فمن تتبع عثرات الناس تتبع الله عثرته. نجلاء المياحي

اخرى
منذ 5 سنوات
1784

أشباحٌ نورية في العوالم الملكوتية

"تعدّدت الأقوال في أول مخلوق خلقه الله تعالى، وذلك لاختلاف الروايات الواردة في هذا المجال، وهي : 1-روح النبي (صلى الله عليه وآله) : فعنه (صلى الله عليه وآله) : (أول ما خلق الله روحي)(1). 2- القلم : فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (أول ما خلق الله القلم، فقال له : اكتب.فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة)(2). 3- الماء : فعن جابر الجعفي, قال : جاء رجل من علماء أهل الشام إلى أبي جعفر (عليه السلام), فقال : جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحداً يفسرها لي, وقد سألت ثلاثة أصناف من الناس, فقال كل صنف غير ما قال الآخر, فقال أبو جعفر (عليه السلام) : وما ذلك ؟ فقال : أسألك, ما أول ما خلق الله عزّ وجل من خلقه ؟ فإن بعض من سألته قال : القدرة, وقال بعضهم : العلم, وقال بعضهم : الروح, فقال أبو جعفر (عليه السلام) : ما قالوا شيئاً, اخبرك أن الله علا ذكره كان ولا شيء غيره, وكان عزيزاً ولا عز, لأنه كان قبل عزه وذلك قوله : (( سبحَانَ رَبّكَ رَبّ العزَّة عَمَّا يَصفونَ )) (الصافات:180) وكان خالقاً ولا مخلوق, فأوّل شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه, وهو الماء(3). 4- العقل : فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أول ما خلق الله العقل)(4). ووجه التوفيق بين هذه الأخبار, هو : أن بعضها محمول على الأولية الإضافية, وبعضها على الحقيقة . فأولية نور النبي (صلى الله عليه وآله) حقيقية, وغيره إضافية نسبية"(5). أي إنّ أول ما خلق الله سبحانه هو ذلك النور المحمدي في عالم يسبق عالم الذر, كما سنعضد هذا الكلام بالأدلة الروائية, فإن قيل: لماذا اختار الله سبحانه محمداً (صلى الله عليه وآله) دون غيره؟ أجيب: إنّ الله سبحانه يجيب على هذا السؤال في كتابه الكريم, حيث قال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون}(6), أي إن علمنا بحكمته تعالى يكفي جواباً للمؤمن. كما ويمكن أن يجاب بأنّه لا تعارض بين الروايات, بلحاظ أنّ بعضها تتكلم حول أول ما خلق الله سبحانه من الأمور المادية فقالت: القلم, والماء, واخرى تتكلم حول أول ما خلق الله سبحانه من الامور غير المادية وهو نور النبي محمد (صلى الله عليه وآله). إذاً فالله سبحانه فضّل ذلك الشبح النوري -وآله- على غيره في عالم الملكوت بثلاث ميزات: المـيزة الاولى: أولية الخلق حيث أنّ النبي محمداً وآله (صلوات الله عليهم) أخرجهم الله سبحانه من كتم العدم إلى ساحة الوجود قبل كافة مخلوقاته, ومن الروايات المؤيدة لهذا الكلام: 1- "عن معاذ بن جبل : ان رسول الله[صلى الله عليه وآله] قال : إن الله عز وجل خلقني وعلياً وفاطمة والحسن والحسين قبل ان يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام قلت فأين كنتم يا رسول [الله]؟ قال: قدام العرش نسبح الله تعالى ونحمده ونقدسه ونمجده. قلت : على أي مثال؟ قال: أشباح نور حتى إذا أراد الله عز وجل ان يخلق صورنا صيرنا عمود نور ثم قذفنا في صلب آدم ثم أخرجنا إلى أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ولا يصيبنا نجس الشرك ولا سفاح الكفر يسعد بنا قوم ويشق بنا آخرون ، فلما صيرنا إلى صلب عبد المطلب أخرج ذلك النور فشقه نصفين فجعل نصفه في عبد الله ونصفه في أبى طالب ثم أخرج النصف الذي لي إلى آمنة والنصف إلى فاطمة بنت أسد فأخرجتني آمنة وأخرجت فاطمة عليا"(7). وهنا تساؤل: ما هو العرش؟ وكيف يسبِّحون ويقدِّسون ويمجِّدون الله سبحانه أمامه؟ جوابه سيتضح في الفقرة اللاحقة. 2- " جاء في كتاب فضائل الشيعة للصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وآله إذ أقبل إليه رجل فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل لإبليس: (استكبرت أم كنت من العالين) فمن هم يا رسول الله الذين هم أعلى من الملائكة؟ فقال رسول الله: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين: كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود فسجدت الملائكة كلهم إلا إبليس فإنه أبى أن يسجد، فقال الله تبارك وتعالى: استكبرت أم كنت من العالين "(8). وهنا ملاحظة لابد من الالتفات إليها وهي: أنّ المراد من مفردة العرش هو علم الله سبحانه, وليس العرش بالمعنى الجسماني المادي, وسيأتي بيان تلك المفردة روائياً, ووجه الارتباط بين العرش وتلك الوجودات النورية التي ابتدأ الله سبحانه خلقه بها. الميزة الثانية: أسبقية شهادتهم بالتوحيد ففي عالم الذر وبعد أن خلق الله سبحانه مخلوقاته بهيأة ذرات [على رأي]، نثرهم وسألهم مَن ربّكم, فكان أول من أجاب بالشهادة هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم). فعن صالح بن سهل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) إن بعض قريش قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله): بأي شيء سبقت الأنبياء، وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم فكنت أنا أول نبي قال: بلى، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل"(9). وفي حديث آخر "عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ أن أَبَا عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) قال: فَلَمَّا أَرَادَ الله أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ نَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلام) وَالائِمَّةُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ فَقَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا..."(10). الميزة الثالثة: تحميلهم لعلم الله تعالى لقد فضّل الله تعالى محمداً وآله (صلوات الله عليهم) دون سائر خلقه بأنّه جعلهم مستودع علمه سبحانه؛ لكونهم أول من شهد بالربوبية له سبحانه في عالم الذر. الروايات الشريفة وصفت هذا الحدث العظيم بأنّ الله تعالى جعلهم (صلوات الله عليهم) حملة عرشه, وهنا جاء محل بيان مفردة العرش من خلال ذكر رواية ثم شرح محل الشاهد فيها. "عَنْ دَاوُدَ اَلرَّقِّيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ » فَقَالَ مَا يَقُولُونَ قُلْتُ يَقُولُونَ إِنَّ اَلْعَرْشَ كَانَ عَلَى اَلْمَاءِ وَ اَلرَّبُّ فَوْقَهُ. فَقَالَ كَذَبُوا مَنْ زَعَمَ هَذَا فَقَدْ صَيَّرَ اَللَّهَ مَحْمُولاً وَ وَصَفَهُ بِصِفَةِ اَلْمَخْلُوقِ وَ لَزِمَهُ أَنَّ اَلشَّيْءَ اَلَّذِي يَحْمِلُهُ أَقْوَى مِنْهُ. قُلْتُ بَيِّنْ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ. فَقَالَ إِنَّ اَللَّهَ حَمَّلَ دِينَهُ وَ عِلْمَهُ اَلْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَرْضٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ جِنٌّ أَوْ إِنْسٌ أَوْ شَمْسٌ أَوْ قَمَرٌ فَلَمَّا أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ اَلْخَلْقَ نَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ مَنْ رَبُّكُمْ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَ اَلْأَئِمَّةُ صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا أَنْتَ رَبُّنَا فَــحَمَّلَهُمُ اَلْعِلْمَ وَ اَلدِّينَ ثُمَّ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ هَؤُلاَءِ حَمَلَةُ دِينِي وَ عِلْمِي وَ أُمَنَائِي فِي خَلْقِي وَ هُمُ اَلْمَسْئُولُونَ ثُمَّ قَالَ لِبَنِي آدَمَ أَقِرُّوا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَ لِهَؤُلاَءِ اَلنَّفَرِ بِالْوَلاَيَةِ وَ اَلطَّاعَةِ فَقَالُوا نَعَمْ رَبَّنَا أَقْرَرْنَا فَقَالَ اَللَّهُ لِلْمَلاَئِكَةِ اِشْهَدُوا فَقَالَتِ اَلْمَلاَئِكَةُ شَهِدْنَا..."(11). • شـرح الرواية: لو تمعنا في الرواية الشريفة لوجدنا أنّ السؤال الموجه للإمام (عليه السلام) كان حول تفسير آية (وكان عرشه على الماء) فأجاب (عليه السلام) بأنّ الله سبحانه حمّل علمه على الماء, ففسر العرش بالعلم, ففي علم الله تعالى أنّ علمه سيحمله على الماء, وبقيت مفردة الماء غامضة، إلى أن قال (عليه السلام) (فلما أراد أن يخلقهم نثرهم بين يديه) وهذه هي مرحلة الإيجاد التالية لمرحلة العلم الإلهي, فحينما أوجد سبحانه مخلوقاته في عالم الذر وأشهدهم على ذلك وسألهم من ربّهم كان محمد وآله (صلوات الله عليهم) أوّل من أجاب بالربوبية فكان جزاء الله تعالى لهم هو أنّه سبحانه حمّلهم علمه, واتضح عندئذٍ المراد من الماء وهم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم). • مصباحٌ للإيضاح: ألا ترى أنّك إذا فكّرت في مخيلتك بشيء دون أن تنفذه على أرض الواقع فانّك فقط تدور في مرحلة الإخطار الذهني. أمّا إذا نفذت ما تصورته وأوجدته في الواقع الخارجي فانّك تدور في مرحلة المصداق. كما لو تصورت مفهوم عملية الكتابة دون أن تكتب, ففي الواقع لا توجد كتابة إلاّ إذا نفذت الكتابة فإنّها ستكون مصداقاً لما تصورته. هذا المثال لتقريب الفكرة فقط, وإلاّ فالله سبحانه ليس جسماً كي يفكّر ثم ينفذ؛ جلّ وعلا عن ذلك علواً كبيرا, فهو سبحانه في مرحلة العلم الإلهي المسبق للإيجاد حمّل الماء العرش (أي حمّل الأئمة العلم) قبل أن يخلقهم؛ "لــعلمه الواسع سبحانه بكل شيء قبل إيجادها بدليل أن (التجرّد عن المادة ملاك الحضور) وبعد إيجادها بدليل (احتياج المعلول إلى علته حدوثاً وبقاءً وقيامه فيها كقيام المعنى الحرفي في المعنى الإسمي)"(12). وخير مثالٍ على علم الله سبحانه بالأشياء قبل إيجادها هو الفقرة الواردة في زيارة السيدة الزهراء (عليها السلام)، حيث قال العلامة المجلسي: ووجدت في هذه الزيارة زيادة برواية أخرى وهي: السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قــبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة ونحن لك أولياء مصدقون..."(13), فلو تأملنا هنا وتساءلنا: أين امتحنها الله سبحانه قبل أن يخلقها؟ لوجدنا أنّ جوابه: في مرحلة العلم الإلهي المسبق قبـل الإيجاد, حيث إنّه سبحانه يعلم أنّ هذا المخلوق سيجري عليه ما يجري من ظلاماتٍ وويلات ويبقى صابراً معتصماً عن فعل أي معصية أو جزع, حتى جعله الله سبحانه أفضل مخلوقاته وأولهم إيجاداً فحمّله وأمثاله العلم الإلهي. وهنالك العديد من الروايات صرّحت بأن حملة العرش –العلم- هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) حيث جاء في اعتقادات الصدوق (رضوان الله عليه): "وأما العرش الذي هو العلم، فحملته أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين. فأما الأربعة من الأولين: فنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى. وأما الأربعة من الآخرين: فمحمد، وعلي، والحسن، والحسين، صلى الله عليهم،. هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة - عليهم السلام - في العرش وحملته"(14). *ضياءٌ من آياتِ ربِّ السماء: قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِين}(15). جاء في تفسير الأمثل: "...إنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علة حياة الموجودات الحية. أما باطن الآية فإنه يرتبط بوجود الإمام (عليه السلام) وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الأخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني"(16). وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين }: هذه نزلت في القائم، يقول : إن أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماء والأرض، وحلال الله عزّ وجلّ وحرامه ؟... ثم قال : والله ما جاء تأويل الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها"(17). فالماء المعين هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), ومن بابٍ أولى أن يكون الأئمة السابقون هم الماء المعين الوارد في الآية, وكذا الأولوية ترجع إلى النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله). • استنتاجٌ: 1- الماء يؤوّل بمحمد وآل محمد (صلوات الله عليهم). 2- العرش يؤوّل بالعلم. 3- الآية الكريمة (كان عرشه على الماء) تؤوّل بأنّ الله سبحانه حمّل علمه محمداً وآل محمد (صلوات الله عليهم) 4- حملة علم الله سبحانه يجب أن يكونوا خلفاء الله على أرضه إلى قيام يوم الدّين. 5-العلم الذي حمّله الله سبحانه لتلك الأشباح النورية ليس هو جميع علم الغيب, بل جزء منه, وإلاّ فعلم الغيب استأثر الله تعالت قدرته به لنفسه فقط. __________________ (1) ( شرح أصول الكافي للمازندراني 12 / 11. (2) تفسير القمي: للشيخ القمي, 2 / 198. (3) اصول الكافي: للشيخ الكليني, 1 / 21 ح 14. (4) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, 55 / 212. (5) مركز الأبحاث العقائدية. (6) الأنبياء: 23. (7) علل الشرائع: للشيخ الصدوق, ج 1, ص 208 – 209. (8) فضائل الشيعة للشيخ الصدوق,ص ٧. (9) أصول الكافي: للشيخ الكليني, ٢: ١٠. (10) الكافي:للشيخ الكليني, ج1, باب العرش والكرسي, ح7. (11) المصدر نفسه. (12) ظ: محاضرات في الإلهيات: للشيخ السبحاني, ص95-98. (13) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج ٩٩, ص٢١٣. (14) الاعتقادات: للشيخ الصدوق, باب العرش, ص46. (15) الملك: 30. (16) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: للشيخ ناصر مكارم الشيرازي, ج18, ص513-514. (17) إكمال الدين واتمام النعمة: للشيخ الصدوق, ص52. علوية الحسيني

اخرى
منذ 5 سنوات
8428

حينما يتحدث الصمت!

في أفنية هذه الحياة ثمة أوجاع متناثرة هنا وهناك تبددت أوصالها وتبعثرت أشلاؤها على صفحات وجدران الأيام وضاعت أصوات الآه الحبيسة بين ثنايا الحلق والقفص الصدري وأطبق الصمت على الشفاه فأُخرست الكلمات وجعاً... هدوء مطبق على الجوارح غير أن صرخة الصمت المدوية تعصف بجمجمة الرأس لتقرع طبول الحرب الأزلية بين العقل والقلب وفي ساحة هذه المعركة الضارية توجه بضوضاء صمتك لربك وخالقك فالله تعالى يعرف جيدا لغة الصمت هذه ويفهم جيدا أن الصمت الناجم عن تجمد المشاعر المتخدرة من شدة الوجع له حديث خاص ولغة خاصة لا يفهمها الا هو... يفهمها ويشذبها ويحتويها ويترجمها بسكون متناغم مع الاطمئنان النفسي بالتوجه إليه بيقين وتوكل عليه عز وجل. إن شعرت يوما ما أن صمتك سيغلبك، وبدأ بالثوران الداخلي، اعرض صرخاته على الله تعالى، فصرخات استغاثة صمتك ستترجم إلى خشوع وخضوع ودموع على مصلاتك في لحظة دعاء ومناجاة. استمع لكلامه يستمع لصمتك! فعند قراءتك او استماعك لآيات القرآن الكريم، حتماً ستلامس صمتك الصاخب الكثير من المعاني فتهدأ وتنعم بسكون وطمأنينة. ففي هذه الساحة القدسية يتوافق العقل والقلب. ويتناغمان ويتناسيان الحرب الضروس ويعلنان الهدنة. وربما وقف إطلاق النار -إن صح التعبير- وأخيرا يعم السلام الروحي في هذه النفس الثائرة وستتوضح لك الرؤية ويتميز لك السبيل في مدلهمات المزالق فالله تعالى أنيسك الوحيد حينما يتحدث الصمت. عبير المنظور

اخرى
منذ 5 سنوات
1908

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70381

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51490

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41491

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
36080

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
32904

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32263