الباطل عندما يرتدي عباءة الحق

الحق أثقل من أن يُحمل، والباطل أخف من أن يُحمل. الحق والباطل تمثلا في اول الخلق بهابيل وقابيل، وقبلهما بآدم وإبليس. الحق ذاك الذي يسكن القلب ليجعله في وعاء الاطمئنان، والباطل ذاك الشيء الذي يجعل القلب مضطرباً اضطراب الطير حين يذبح... لم يستطع أي قلم –من غير المعصوم طبعاً- منذ الخليقة أن يميز الحق تميزاً مطلقاً أو يكشف الباطل كشفاً مطلقاً، فترى الحق عند البعض باطلاً، والعكس صحيح، لكن شاء الله أن يجعل في خلقه عقلاً كاشفاً للحق والباطل وجعل القلب وعاء النتائج، فحينما نكتب عن الحق نكتب عن حقنا، لكن متى نستطيع أن نكتب عن الحق المطلق؟ ذاك الحق الذي به نكشف حقائق اسرار الله العزيز. فباطل ابليس اعتبره البعض حقاً ، وحق آدم اعتبره البعض باطلاً ، فهل يجرئ أن يتكلم عن الحق الحقيقي، ذاك الحق الذي إن عرفه الخلق تذوقوا عبودية الله الحقيقية التي تذوقها الرسل والأنبياء والأولياء حينما تذوقوا رشقات منه فكان نصيبهم ملكاً لا يحصى عند الله، فأي حق علينا أن نكتب عليه؟! إن من شأن الباطل أن يجعل من نفس الإنسان ظلاماً دامساً، ويزرع الحقد والحسد والنفاق والغيبة والنميمة فيها، بخلاف الحق الذي ينير دربها ويبدد ظلامها، والخطير في الأمر أن الباطل لا يأتيك على صورته الحقيقية، ولا يدخل عليك بشكله البشع، لأنه في أغلب الأحيان يلبس زي الحق ويرتدي عباءته، لكي تلتبس علينا الأمور وتشتبه، وهذا ما يسمى بالشبهة في الإسلام. وقد أشار إليها الإمام علي (سلام الله عليه) في نهجه فوضّح أنها سميت شبهة لأنها تشبه الحق من حيث الشكل. وهنا السؤال الذي يطرح: إذا كان الأمر كذلك فكيف نعرفها وكيف نفرق بين الحق والباطل؟ الجواب: نجده عند أمير المؤمنين (عليه السلام): (أما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى). وخير مثال نضربه على الشبهة وعلى أولياء الله وأعدائه، هو موقف كل من عمر بن سعد، والحر الرياحي من الإمام الحسين (عليه السلام) إن عمر بن سعد وأصحابه من أمثال الشمر ويزيد بن الركاب والحصين بن نمر وشبث بن ربعي وكعب بن طلحة وحجار بن أبجر، كان بينهم من هو جبهته سوداء من أثار السجود والصلاة مثل حجار بن أبجر، وشبث بن ربعي الذي كان عالماً يحضر دروس الفقه ومجالس الإمام علي (عليه السلام) وعلى الرغم من ذلك قادهم الشيطان في درب الضلال، وتلبس الباطل أمامهم بلباس الحق وتزين بزيه لهم. وفي اليوم العاشر من محرم التفت عمر بن سعد إلى المؤذن وأمره أن يرفع صوته بالأذان من أجل الصلاة، يريد أن يصلي بالناس بعد التسبيح والاستغفار! وفي الجهة المقابلة كان الإمام الحسين (عليه السلام) يصلي في أصحابه! إن من يراقب هذا المشهد من حيث الظاهر يشتبه عليه الأمر، ولكن أولياء الله ضياؤهم اليقين، فهم يعرفون بيقينهم أن صلاة الإمام الحسين (عليه السلام) هي الصلاة المؤمنة في حين أن تلك الصلاة هناك في الجانب الآخر هي صلاة كافرة. إن أولياء الله يدركون بيقينهم أن ابن سعد كافر وأن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الطهر الطاهر وبن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة وأن الحق إلى جنبه. أما ضعيف اليقين فيرى ما يراه عمر بن سعد عندما عرض عليه بن زياد ملك الري مقابل أن يخرج لحرب الإمام، وبات ليلته يفكر في الأمر، وسمع يقول: أأترك ملك الري والري رغبتي *** أم ارجع مذموما بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الري قرة عيني هذا النوع من التفكير لا يستقيم مع الإيمان فضلاً عن العقل السوي. بالمقابل نلاحظ اختلاف التفكير عند الحر بن يزيد الرياحي الذي لم يفكر سوى لحظات حتى اهتدى إلى طريقه السوي ثم راح يدنو من الإمام قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر وقال له: لو قيل لي من اشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحر: إني أُخير نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو أحرقت، ثم ضرب جواده نحو الإمام منكساً رمحه قالباً ترسه وقد طأطأ برأسه حياء من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) بما أتى إليهن وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته: (اللهم إليك أنيب فتب علي فقد أرعبا قلوب أوليائك وأولاد نبيك...) يا أبا عبد الله إني تائب فهل لي من توبة؟ فقال الإمام (عليه السلام): نعم، يتوب الله عليك. نحن إذا طلبنا الحق فليس أمامنا إلا أهل البيت عليهم السلام، لاسيما الإمام الحسين عليه السلام الذي اتحد بالحق واتحد الحق به، فهو أبو الأحرار بلا منازع، وهو الذي تحرك من اجل الحق نفسه، فلنستمع إليه وهو يقول في خطبته: (إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وإن الدنيا قد أدبرت ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ....،ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فإني لا أرى الموت، إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا شقاء وبرما). لذلك نسأل الله أن ينفعنا بحب الرسول وأهل بيته، لاسيما قطب الرحى في هذه الدوحة العطرة، عنيت به أبا عبدالله وسيد الشهداء سلام الله عليه. حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
15815

إذا ثَبتَ العمود نفعتْ الأطناب

الصلاة هي تلك الصلة بين العبد وربه وهي من أساسيات الدين الإسلامي وأولى واجباته العبادية وأهمها لأنها محور قبول الأعمال الأخرى، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: أول ما يحاسب به العبد (على) الصلاة فإذا قِبلتْ قُبلَ (منه) سائر عمله وإذا رُدَّتْ عليه رُدَّ عليه سائر عمله)(١). من هذا الحديث يتبين لنا أهمية الصلاة ودورها في قبول الأعمال وردِّها، ولهذا شُبِّهتْ الصلاة في الاحاديث والروايات بالعمود في التفاتة بلاغية دقيقة لأهمية العمود في إقامة البناء وبخلافه تضعضعه وانهياره ، فعن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :(مَثَلُ الصلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبتَ العمود نفعتْ الأطناب والأوتاد والغشاء وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء)(٢). ورغم أهمية الصلاة ومحوريتها في قبول بقية الأعمال الأخرى في الإسلام، نجد ظاهرة ترك المراهقين للصلاة تنتشر بكثرة في مجتمعاتنا الملتزمة منها وغير الملتزمة، ولا نغالي إن قلنا بأن ظاهرة ترك الصلاة انتشرت بين البالغين أيضاً ولكن النسبة بين المراهقين أكثر بكثير من البالغين ، وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى طبيعة المراهقين أنفسهم في هذه المرحلة العمرية وتمرّدهم على العديد من المفاهيم التربوية والواجبات الدينية في محاولة منهم لإبراز شخصيتهم وتفرّدها بعيداً عن سلطة الأبوين، وغالباً ما تكثر هذه الظاهرة في حالة إهمال الوالدين للأبناء او اختلاف طرق التربية بين الوالدين أنفسهم مما يخلخل المنظومة القيمية للطفل، وفي غالب الأحيان يعود سببها إلى اتخاذ الوالدين الأساليب غير الصحيحة للتربية، فنجدهممثلاً يستغرقون في أسلوب الترهيب والتخويف والإجبار في تعليم الأبناء للصلاة منذ الطفولة مما يشكّل للطفل حالة عقدة من الصلاة وعدم الارتباط بها روحياً، أو يتبعون أسلوب الترغيب فقط بالهدايا أو النقود فقط مما يجعل الطفل يستغل أداء الصلاة للكسب المادي فقط، أو إنهم يعوّدون الطفل على أداء الصلاة كعادة لا كعبادة، وكلها تصب في عدم توجيه الطفل منذ الصغر نحو أهمية الصلاة والارتباط بها ارتباطاً روحياً وثيقاً. ولا ننسى تأثير أصدقاء السوء على المراهقين وكذلك العولمة وسوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي حيث اتخذها أعداء الإسلام كوسيلة لدس السم في العسل لتوهين عقيدة الناشئة من أطفال ومراهقين وحتى البالغين أيضاً بهجمات موجهة ضمن عمل مؤدلج في حرب باردة وبأساليب برّاقة وتحت مسميات حضارية يؤثّرون بها على فئة المراهقين وانجرارهم خلف تلك المسميات والايديولوجيات، لتسلخهم من دينهم وصلاتهم التي هي أساس وعمود دينهم. ومن الأسباب الأخرى لترك المراهقين والشباب للصلاة هو: السلوك الخاطئ لبعض رجال الدين الأمر الذي يعمّم على بقية التيار الديني الملتزم خاصة مع ما توظّفه وسائل الإعلام المضادة من رصد لهذه الهفوات والسلوكيات والتحشيد عليها بهجمات شرسة قد لا يقوى الإعلام الديني الملتزم على الرد عليها جميعاً، لكثرة أساليبهم وتنوّعها وتعدّد الجهات التي يتوّجب على إعلامنا الديني مجابهتها، خاصة إذا ما اتصف أغلب أفراد المجتمع بضعف الوازع الديني، مما يجعل الشخص يستسهل ترك الصلاة ثم بقية الواجبات شيئاً فشيئاً. ولعله من أسباب ترك المراهقين للصلاة أيضاً هو سماع الانتقادات والاستهزاء والتهكم وأسلوب النصح الخاطئ والنقد اللاذع من قبل بعض الملتزمين الذي ينفّر الشباب من الدين بشكل عام والصلاة بشكل خاص. وكنتيجة منطقية لما ذكرنا من أسباب، سيخسر الشاب نفسه عند انجراره مع التيارات الفكرية المضادة وتضيع هويته الدينية بترك الصلاة، وهي أهم الفرائض والواجبات، مما ينعكس حتماً على علاقته بأسرته، خاصة إذا كانت الأسرة غير واعية لخطورة هذه الظاهرة وتلك المرحلة على الأبناء وسلوكهم في المستقبل، مما يؤدي الى حصول شرخ واضح في المجتمع وضياع هويته الإسلامية، وغياب الهوية الاسلامية في المجتمع سيعطي مساحة فراغ كبيرة تسهّل كثيراً احتضان واحتواء أي ايديولوجيات وعادات غريبة عن واقعنا الإسلامي، وتندمج في مجتمعاتنا بدون رادع مجتمعي مما يعطي الصورة المشوّهة للإسلام والمسلمين، التي تتصيّدها التيارات العلمانية والإلحادية للطعن بالأديان مما يفكّك المجتمع ووحدة أبنائه. ومحاولة علاج ما تم ذكره من أسباب ونتائج تنطلق على مستويين: مستوى فردي وأسري ومستوى اجتماعي. فعلى المستوى الفردي الأسري: تتعدد أساليب المعالجة منها: توعية الوالدين للأبناء توعية دينية ملتزمة منذ الطفولة، وخاصة في مسألة أداء الصلاة، كتخصيص مساحة صغيرة من المنزل، كمحراب للصلاة. وكذلك أسلوب الاقتداء بالقدوة الصالحة من المعصومين (عليهم السلام) او الوالدين او الأقارب أو الشخصيات العامة، وتحبيب سلوكهم الملتزم إلى الطفل باستخدام التلقين تارة، وتارة أخرى بالأسلوب القصصي المحبّب للأطفال، خاصة عندما نقص عليهم مثلاً أن الإمام علي (عليه السلام) قتل وهو يصلي في المحراب، أو نقص عليهم كيف أن الإمام الحسين وأصحابه (عليهم السلام) التزموا بأداء الصلاة وهم بين قعقعة السلاح وصليل السيوف ووابل السهام التي تتراشق عليهم عند صلاتهم، كما لا يخفى تأثير قصة رقية بنت الحسين (سلام الله عليهما) على الأطفال عندما نخبرهم كيف كانت تهيئ المصلاة لأبيها، أو كيف كان ولدا مسلم بن عقيل يصليان وهما في السجن، وحتى قبل أن يذبحا على شاطئ الفرات طلبا من قاتلهما أن يصليا لله ركعتين. قصص الأطفال مع الصلاة لها تأثير كبير في نفسية الطفل أكثر من قصص الكبار . إضافة الى الموازنة بين أسلوب الترغيب والترهيب. وكذلك الحرص على مشاركة الأطفال والمراهقين للوالدين أو الأخوة في أداء الصلاة معاً أو اصطحابهم الى صلاة الجمعة او صلاة العيد وتعويدهم على ارتياد المساجد والحسينيات لأداء الفرائض جماعة لتعزيز مفهوم الصلاة وحقيقتها عند الطفل بتأثير السلوك العبادي الجمعي في تفكير الطفل، وتوجيهه توجيهاً صحيحاً منذ الطفولة حتى مرحلة المراهقة، التي تستلزم النصح والارشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، لأنه بكثرة الضغط والشد على المراهق ستطغى لغة العناد على أقوالهم وأفعالهم، أو نجدهم يتشبثون بحجج واهية كتقصير بعض الأفراد الملتزمين مما يجعل المراهق يعمّم هذه الحالة على التيار الملتزم بأكمله، وهنا يتوجب على الوالدين أنْ يربّوا أولادهم على أن البشر خطّاؤون وليسوا معصومين وأن يتّبعوا منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن يعرفوا الرجال بالحق ولا يعرفوا الحق بالرجال. ولا نغفل عن الدور الكبير للوالدين في متابعة أصدقاء أولادهم لتأثيرهم الشديد عليهم وعلى سلوكياتهم، مع ملاحظة أهمية الدور الرقابي للأهل على مواقع التواصل الاجتماعي لأبنائهم من بعيد وباعتدال أي بكلمة أخرى لا نشدّد الرقابة عليهم ولا نهملها. وكذلك غرس مبادئ التربية الإيمانية للأبناء وتقويتها من خلال الاستماع للقرآن الكريم وتفسيره أو الاستماع إلى المحاضرات القيمة وحضورها والبرامج الهادفة التي تصنع فرداً متكاملاً وأمة واعية تعي جيداً أن ظاهرة ترك الشباب للصلاة ليست حالة حضارية أو مواكبة للتطور، كما يروّج المغرضون. وهنا تتجلى أهمية الوعي والإدراك لدى الوالدين والمربين بشكل عام، لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي أخذت بالانتشار والتجذّر في مجتمعنا، وتفعيل دور المساجد في صناعة أفراد الأمة الرساليين، كما فعل رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) حينما جعل من المسجد النبوي محطة لانطلاق رسالته باتخاذه مقراً للصلاة وتجمّع الأمة فيه، مما أسهم كثيراً في تربية جيل إسلامي متميز ومتين عقائدياً وفكرياً وروحياً. وبتظافر الجهود الفردية للآباء والمربين مع مؤسسات المجتمع الدينية منها والحكومية لتعزيز الوالدين والمربين بصورة عامة والمراهقين بالثقافة التربوية الصحيحة من خلال قنوات الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أو من خلال مؤسسات الإرشاد الأسري بإقامتها للندوات والدورات التثقيفية في هذا المجال، مما يستلزم منا تقوية إعلامنا الديني الملتزم وتطوير أساليبه وانتشاره وتسويقه ليواكب مسيرة التقدم في مجتمعاتنا الإسلامية، في زمن العولمة، للحفاظ على مبادئنا وأسسنا الاسلامية وبناء جيل إسلامي على أسس رصينة لا يتأثر بالتيارات الفكرية المناهضة للفكر الدين،ي وليعيد نهضة الأمة ومجد الاسلام بعد هذا التراجع والتقهقر لنمهّد بذلك لدولة العدل المنتظر مع إمام الزمان روحي له الفداء. ________________________ (1) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ، ج1 ، ص209 ، باب فضل الصلاة ، حديث 626 (2) الكافي للكليني ، ج3 ، ص320 ، حديث 9 عبير المنظور

اخرى
منذ 5 سنوات
1652

تجليات الأنس الزينبي..

كيف يكون هناك انس دنيوي وانس برزخي وانس أخروي في الاقتداء بالسيدة زينب عليها السلام؟ الأنس من أنس إلى فلان، أنس بفلان: سكن إليه وذهبت به وحشته ، ألفه وارتاح إليه(1) والأنس يقابل الوحشة، وهو سرور وانشراح النفس بالمحبوب، وسكينة واطمئنان القلب بالمرغوب، وانسجام العقل وارتياحه للمطلوب. وتختلف طبيعة المأنوس به من شخص لآخر تبعاً لاختلاف الرؤى والميول والرغبات فضلاً عن الاختلاف الفكري والمعرفي والنفسي بينهم، فالبعض يأنس بالشهوات والملذات من أطعمة وألبسة وما إلى ذلك وهو أدنى أنواع الأنس، فيما يأنس من تكون نفسه ألطف ومشاعره ارهف بالمناظر الطبيعية الخلابة وبالزهور وتأمل البحر مثلاً، في حين أن المهتم بتغذية العقل والمنطق يأنس بالعلم والمعرفة فتجده يلتذ كلما فهم مسألة جديدة، ويمتع قلبه وعقله في بساتين السطور قاضياً برفقتها أوقاتاً سعيدة، وأما الأولياء فلا يأنسون إلا بالله (تعالى) والسبيل المؤدي إليه. ومقام الأنس به (جل وعلا) من أعلى مقامات اليقين، لا يصله أيُّ أحد من العالمين، إنما هو مقام يقتصر على الأوحدين؛ لأنه مقام يكمن فيه الرضا التام الذي لا يشوبه اعتراض، والسعادة الخالصة التي لا يكسرها حزن، والقوة الحقيقية التي لا يساورها وهن، والعزة الكاملة التي لا يعتريها ذل. ومن أوضح مصاديق من بلغ هذا المقام الرفيع هم الرسول الأكرم محمد وعترته الطاهرة (عليه وآله أفضل الصلاة والسلام)، لا سيما السيدة زينب (سلام الله عليها) التي نعيش ذكرى أسرها بعد مصابها بأعزتها (عليهم السلام)، فهي بالرغم من كل ما واجهته من نوائب، وما ألّمتها من مصائب، وما وقع في الطف من مواقف مفجعة، وما تلتها من أحداث مروِّعة، إلا أنها لم تنسَ صلاة الليل وهي بعدُ لم يمر على فقدها لأحبتها سوى سويعاتٍ قليلةٍ بل وأحالت تلك الليلة الغاية في الوحشة بسبب فقد الأهل والأحبة إلى ليلة أنس بأحب الأحبة، ولا غروَ في ذلك، أليست هي بنت من توَرمت قدماها من قيام الليل، وبنت من أقام في ليلة الهرير صلاة الليل؟! أليست هي ذات الإيمان الصلب الذي لم تزعزعه مصائب كربلاء على شدة قسوتها ولم تنل معركة الطف من قوته قيد أنملة على شدة ضراوتها؟! وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):"من خرج من ذل المعصية إلى عز الطاعة آنسه الله عز وجل بغير أنيس وأعانه بغير مال" (2) كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):"ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه انسا يسكن إليه، حتى لو كان على قلة جبل لم يستوحش"(3) ومن علامات بلوغ هذا المقام السامي هو الالتذاذ بالطاعات، والشوق إليها ومراقبة موعد حلولها في الأوقات، والوحشة من الناس والنزوع الى مناجاة الحبيب في الخلوات، والتسليم التام لكل ما يقضي به رب الأرض والسموات، وإن كان مخالفاً لطبع النفس وما جُبِلت عليه من رغبات. ولو تأملنا بكل تلك الصفات، لوجدناها مجتمعة في فخر المخدرات، فقد خطفها التذاذها بالطاعات من بين كل تلك الأحداث الأليمة، لتصلي صلاتها وتجدد في نفسها القوة والعزيمة، وهي التي رفعت طرف جثمان خامس أهل الكساء، قائلةً: "ربنا تقبل هذا القربان" مسجلةً بذلك أرقى صور الرضا والتسليم للقضاء.. تلك هي العظيمة الحوراء زينب (عليها السلام) وذلك هو أنسها في الحياة الدنيا الذي أمدّها بالقوة والتصميم على تحقيق الهدف من القيام الحسيني، وبالرضا والتسليم للقضاء الإلهي. فحريٌّ بمن تقتدي بها –بل بمن يقتدي بها- أن تحقق ذلك الأنس ولا تنثني لصروف الدهر ولا لما تمر به من شدة أو عسر. ومن الجدير بالذكر أن الأنس بالله (تعالى) في الحياة الدنيا ينعكس على العوالم التي تليها، وبعبارة أوضح: أن الأنس الدنيوي يثمر أنساً برزخياً وأنساً أخروياً. فأما الأنس البرزخي فيكون بمؤانسة الأرواح المؤمنة لبعضها البعض في ذلك العالم، فقد روي عن حبة العرني أنه قال: "خرجت مع أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الظهر أي ظهر الكوفة فوقف بوادي السلام كأنّه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتّى أعييت ، ثمّ جلست حتّى مللت ، ثمّ قمت حتّى نالني مثل ما نالني أوّلا ، ثمّ جلست حتّى مللت ، ثمّ قمت و جمعت ردائي فقلت : يا أمير المؤمنين إنّي قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ، ثمّ طرحت الرّداء ليجلس عليه . فقال عليه السّلام لي : يا حبّة إن هو إلاّ محادثة مؤمن أو مؤانسته، قال : قلت : يا أمير المؤمنين و إنّهم لكذلك ؟ قال عليه السّلام : نعم و لو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون. فقلت : أجساد أم أرواح ؟ فقال عليه السّلام لي :أرواح ، و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلاّ قيل لروحه : ألحقي بوادي السلام ، و انّها لبقعة من جنّة عدن"(4) فهذه الرواية تدل على أنس المؤمنين ببعضهم في عالم البرزخ، بل والتحاقهم بوادي السلام الذي هو بقعة من جنة عدن. كما أكدت كتب الحديث أن عمل الإنسان يؤثر تأثيراً كبيراً في قبره فإما أن يجعله روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران، والاقتداء ببنت سيدة النساء زينب الحوراء (عليهما السلام) بلا شك يثمر في عالم البرزخ روضة من رياض الجنان وأنساً برزخياً. وأما أثر هذا الاقتداء في عالم الآخرة فواضح وضوح الشمس، لأنه إن لم يثقل كفة الحسنات فإنه يسهم في تحصيل الشفاعات، إذ من تجعل الصديقة الصغرى قدوة لها في حركاتها وسكناتها إن لم ترد الجنان بفضل الله (تعالى) فإنها بلا ريب ممن تستحق شفاعة أهل البيت (عليهم السلام)، وفي كلتا الحالتين لا تعدم الأنس الأخروي سواء بالتنعم بنعيم الجنان أو بمصاحبة الأهل والأحبة، أو بالتنعم برؤية الصفوة الطاهرة (عليهم السلام)، أو ببلوغ مقام الرضوان الالهي وذلك أعلى درجات الأنس الأخروي. قال (تعالى):" وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)"(5) مما تقدم يتضح جلياً أن المواظبة على طاعة الله (تعالى) تثمر الأنس به (جل وعلا)، وأن الأنس به في الدنيا يورث الأنس في البرزخ وفي الآخرة، وقد جسدت لنا الحوراء زينب (عليها السلام) الأنس بالله (تعالى) في الدنيا في أجلى صوره، وبذلك يكون الاقتداء بها محققاً للأنس في العوالم الثلاث الدنيا والبرزخ والاخرة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المعجم الوسيط (2) ميزان الحكمة ج1 ص235 (3) المصدر السابق (4) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج1 ص228 (5) التوبة 72 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
1904

نـفــحاتٌ مــلكوتيــة من الــخطاب الــزينبي (٢) " أمن العدل ـ يابن الطلقاء ـ تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن؟!

نفحةٌ اخرى نستشفها مِن خطاب السيّدة زينب (عليها السلام) في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية (عليه اللعنة) حيث استفتحت السيّدة عبارتها التساؤلية هذه بالعدل، إذ إنّ من أهم الشرائط الواجب توفرها في الحاكم هو الــعدل، لكن هل هناك تشكيك في عدم عدالة الطاغية حتى تستفهم السيّدة عن ذلك؟ أم أنّ للخطاب منحى بليغاً؟ ولماذا اختارت السيّدة كنية (ابن الطلقاء) تحديداً؟ وأيّ سترٍ لحرائر آل محمّد هتك؟ هذا ما سيتم معرفته في بيان اجمالي لهذا المقطع. وعليه سيتم بيانه ضمن ثلاث نواحي. الناحية الاولى: الناحية التاريخيّة إذا تتبع القارئ كتب التأريخ يجد أنّ كلمة (الطلقاء) كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أول مؤسس لها حين فتح مكة، حيث إنّ في "هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم [صلى الله عليه وآله] ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل ذلك التفت إليهم وقال لهم: يا معاشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم قال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء" (1) وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان. "ويزيد هو ابن معاوية، وحفيد أبي سفيان، ويطلق عليه (ابن الطلقاء) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية. أما معنى كلمة « يا بن الطلقاء » فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله. إن رسول الله (صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله) فتح مكة ، فصارت البلدة ومن فيها تحت سلطته وقدرته ، وكان بإمكانه أن ينتقم منهم أشد انتقام ، وخاصة من أبي سفيان الذي كان يؤجج نار الفتن ، ويثير الناس ضد رسول الله ، ويقود الجيوش والعساكر لمحاربة النبي والمسلمين ، كما حدث ذلك يوم بدر وأحد ، وحنين والأحزاب ، وهكذا ابنه معاوية الذي كان على دين أبيه ، ولكن الرسول الكريم أطلقهما وخلى سبيلهما في من أطلقهم"(2). الناحية الثانية: الناحية البلاغية الاستفهام الذي نطقت به السيّدة البليغة (عليها السلام) بقولها: أ مِن العدل...؟! ليس للحصول على إجابة؛ لأنّ حقيقة عـدم عدالة الطاغية يزيد بن معاوية (عليه اللعنة) واضحة للجميع وضوح الشمس في رابعة النهار، بـل للاستفهام معانٍ اخرى, واستفهام السيّدة (عليها السلام) كان للتوبيخ والتقريع، "إذ قد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معانيها الأصلية لمعانٍ اخرى مِن سياق الكلام كالنفي... والتوبيخ..."(3). والمراد بالتوبيخ: "التهديد والتأَنيب واللوم، يقال: وبَّخت فلاناً بسوءٍ فعله توبيخاً"(4). ولو ربطنا بين الناحية التاريخيّة والبلاغية، بدمج الحادثة التي ذكرها التاريخ من اطلاق سراح رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي يزيد: معاوية (عليهما لعنة الله) وبين استفهام السيّدة (عليها السلام) التوبيخي للطاغية ابن معاوية، لتجلى لنا مغزى السيّدة مِن لومها للطاغية وتأنيب ضميره على مقابلته لجزاء الإحسان الذي تفضل به جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأبيه -إطلاق سراحه- بالإساءة لحفيدات آل محمّد، فقابلَ الإحسان بالإساءة، وماذا يُرتجى ممن جاز عن وجهته ونكص على عقبه وألفاه الشيطان مستجيباً لدعوته؟! الناحية الثالثة: الناحية الأخلاقيّة إنّ المتتبع لسيرة يزيد (عليه اللعنة) القبيحة يجدها سيرة تخجل الحروف من أن تكوّن كلمات يقرأها الدني والشريف, حيث يذكر الذهبي -أحد علماء أبناء العامة- : "وروى الواقدي بإسناد ، قال : لما وثب أهل الحرة ، وأخرجوا بني أمية من المدينة ، بايعوا ابن الغسيل على الموت ، فقال : يا قوم والله ما خرجنا حتى خفنا أن نرجم من السماء ، رجل[يزيد] ينكح أمهات الأولاد ، والبنات ، والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة"(5). فهكذا كان ديدن الطاغية يزيد قبل أن يتولى الخلافة المزعومة وأثناء ذلك، وحتى مماته، ويؤيد ذلك روايات وردت في كتب أبناء العامة –على اختلافها- الذين يقولون بفسق يزيد، حيث تتفق جميعها على أنّ يزيداً هلكَ وهو ثمل، يتراقص كالسفيه، حيث يقول ابن حبان: "وتوفى يزيد بن معاوية بحوارين قرية من قرى دمشق لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وهو يومئذ بن ثمان وثلاثين، وقد قيل : إن يزيد بن معاوية سكر ليلة وقام يرقص فسقط على رأسه وتناثر دماغه ، فمات وصلى عليه ابنه معاوية بن يزيد"(6). ومن سيرته (عليه العنة) نحكم بأنّه غير عادل -فاسق-، وأنّه لا أخلاق نبيلة له, وهذا ما أشارت إليه السيّدة زينب (عليها السلام) بمقولتها المتقدمة. ولمناقشة تلك المقولة أخلاقياً نقول: أنّ مَن كانَ يهوى الخمور والجواري والقردة لا يُستبعد منه أن يأمر بقتل سبط النبي, وسبي حرائر الوصي، وأما قول السيّدة (تخديرك حرائرك) فهو لا يعني أنّه كان يأمر أهله بارتداء الخدر بالمعنى المتعارف عند حرائر آل محمّد (صلى الله عليه وعليهن وآله)، فشتّان بين الثرى والثريا في ذلك، بـل ويستحيل أن يأمر ذلك الفاسق الفاجر حرائره –زوجه وجواريه- بالتستر وهو لا يعرف من الإسلام إلاّ اسمه، وإنّما مقصد السيّدة بأن الخدر هو المتعارف لغةً، وهو: " سِتْرٌ يُمَدُّ للجارية في ناحية البيت ثم صار كلُّ ما واراك من بَيْتِ ونحوه خِدْراً"(7) أي أ من العدل يا ابن الطلقاء استتار حرائرك وإمائك في بيوتهن وحرائر الرسالة بلا استتار ؟! وأما قول السيّدة (وســوقكَ بنات رسول الله سبايا) ففيه دلالة واضحة على أنّهن (عليهم السلام) قد رُبطْن بالحبال والسلاسل، والأرجاس تسوقهم, وقد أشار إلى تلك اللفظة القرآن الكريم بقول الله سبحانه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}(8) أي يتولى أمر مسيرها. ولا اوافق شرّاح الخطبة الزينبية في شرحهم لهذه الفقرة؛ إذ هناك مَن شرحها قائلاً: ((أنّ السوق هو حثّهم على المسير من القفا كما تُحث الماشية على السير)) وما اعتراضي على المثال المضروب بـل على تصوير حال سليلات الطهر بالجبن، نعم جميعنا نشهد أنّهن (عليهن السلام) استصعبن أمر السير مع الأجانب فضلاً عن كونهم أعادياً، والدخول لمجالس الرجال فضلاً عن كونها حفّت بالشريف والوضيع ، والدنيء والرفيع. وإن كان يتوقع صدور كلّ تصرفٍ دني من اولئك الجنود تأسياً بحاكمهم، لكن لابد من عدم خدش الهالة المقدسة لحفيدات النبي (عليه وعليهن وآله السلام) أثناء سرد القصة أو شرح الخطبة. لكن ممكن تخريج العبارة باحتمال مراد الشرّاح بأنّ جنود الطاغية (عليهم وعليه اللعنة) كانوا يحثون سليلات الخدر والعفاف (عليهن السلام) بالضرب بالسياط. وبالنسبة لعبارة السيّدة: (هتكت ستورهن واُبديت وجوههن) فيقول السيّد محمد كاظم القزويني (قدس سره): "فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، وبعد أن كن محجبات .. وإذا بالأعداء قد سلبوهن ما كن يسترن به وجوههن .. من البراقع والمقانع"(9). فالستر المهتوك الذي أشارت إليه السيّدة تفجعاً هو رؤية الرجال لشخوصهن وظلهن بخروجهن من بيوتهن، ولهذا سبقت هذه الجملة بعبارة (تخديرك لحرائرك وإمائك) وقد عرفنا معنى الخدر وهو ستار يمد في ناحية البيت عن الأنظار، فالستر المهتوك عن سليلات الطهر هو اخراجهن من بيوتهن حيث موضع سترهن. فما أدق نسق العبارات! وأما تفصيل عبارة (ابديت وجوههن) فأعتذر -من المولى صاحب الزمان (عجّل الله فرجه الشريف)، ومِن كل من يقرأ المقال- عن بيان المقصد، فوالله في العين قذى، وفي الحلق شجى، وفي اليدين أذى من شرح تلك العبارة. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ سينقلبون. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمدٍ وحرائره وآله الطيبين الطاهرين. ______________________ (1) السيرة النبوية: ابن هشام، ج 4، ص 41، وبحار الأنوار، ج 21، ص 106. (2) زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص417. (3) البلاغة الواضحة، 199. (4) لسان العرب, وبخ. (5) سير أعلام النبلاء - ومن صغار الصحابة - عبد الله بن حنظلة، ج3، ص324. (6) الثقات - السيرة النبوية، ج2، ص314. (7) لسان العرب، خدر. (8) ق: 21. (9) زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، ص420. لكِ نثار من السماء يلفك بالصبر والصلوات *** أذهلني ذلك الخطب يا سيّدة المخدرات كم مِن نفحةٍ أفضتِها عليّ من خطبك البالغات *** وجيهة بكِ ومقتدية لي عند الله دعوات فسلامٌ عليكِ يا من أصبحتِ للخدر مرآة علوية الحسيني

اخرى
منذ 5 سنوات
4722

كيف تتشكل الخُرافة في اذهان الأطفال؟

الدول المتقدمة التي تهتم بثقافة شعوبها تجدها تعطي أولوية لمسألة التعليم، فالتعليم يُعتبر السلاح الأكثر قوة في محاربة الجهل والتخلف، إذ التخلف والجهل أحد الأمراض الخطيرة التي تسبب تأخر الشعوب فكرياً واقتصادياً وصحياً. ومن هنا، تجد الشعوب النامية تسخر كل امكانياتها في سبيل نشر العلم بأسلوب سهل. يسهل استيعابه والانسجام معه منذ المراحل الاولى للدراسة، فأهم نقطة هنا تكمن في انسجام المنهج الدراسي نظرياً وعملياً مع الواقع المعاش، فلو كان هناك انسجام وتطابق بين المنهج الدراسي والواقع المعاش، فإن التعليم سيكون مصيره النجاح، وهذا يعكس انتشار الوعي الاجتماعي وتقليص مستوى ظاهرة الجهل والتخلف والخرافة. وما نشاهده الآن من كون التعليم مجرد عملية تلقين وسرد للمعلومات والمطالبة بحفظها ما هو إلا عملية تساعد على تأخر الوعي والثقافة وتضعف من عملية تطوير التفكير، وهذا يساعد على فقدان الرغبة بالتعلم والدراسة، وهو أحد اسباب عزوف الكثيرين من الأطفال عن الالتحاق بالتعليم. لذلك نجد أن سلوك الأطفال والشباب يناقض ماي تعلمونه في المدارس فلا أثر لما يدرسونه في نفوسهم وسلوكهم، فالمناهج تخلو من تدريس الأخلاق، والمنهج عقيم وممل، ولا يعدو كونه مجرد معلومات تاريخية وأرقام يطالب التلميذ بحفظها، وهذا ما يجعل الحياة اليومية بعيدة عن المادة التي تتناولها الكتب المدرسية، رغم أن المفروض هو أن يكون هنالك نسبة اتصال وانسجام وتفاعل بين البيئة الاجتماعية والبيئة الدراسية. لعملية انتشار الخرافة والجهل والتخلف اسباب عديدة نذكر البعض منها : 1- عدم محاسبة الاباء الذين لا يهتمون بتسجيل أبنائهم في المدارس، مما يؤدي الى انتشار ظاهرة الامية في الاوساط الاجتماعية وخصوصا القرى والارياف .. 2- عدم تطابق المنهج الدراسي مع الواقع الاجتماعي مما يشكل ضعفا في التطبيق العملي لهذه النظريات والدراسات والتي لا تعدو كونها مجرد معلومات يطالب التلميذ بحفظها . 3- الفكر الخُرافي الذي يحمله البعض من الاباء والامهات والمعلمين والذي يؤثر بشكل مباشر على الابناء فما يعتقد به الاهل يؤمن به الابناء عن طريق تأثير العقل الجمعي 4- الإكثار من سرد القصص الإعجازية والامور الخارقة للعادة للأطفال وهم في عمر غير مناسب لفهم هذه الظواهر ! مما يؤثر سلبا على قدرتهم التحليلية للأحداث التي تقع امامهم ، فكثرة الحديث عن هذا الموضوع من قبل الامهات والتي تكون غالبا متأثرة اكثر من الرجل لقوة عاطفتها بهذه الخوارق غير الطبيعية والتي تتناقلها الالسن منذ سنوات يشكل تصوراً خُرافياً في عقلية الطفل مما يدفعه إلى الاعتقاد بها وتصديقها والابتعاد عن استخدام العقل التحليلي للأحداث ، مما يزيد من انتشار ظاهرة التخلف الاجتماعي بين أوساط المجتمع . 5- البعض من الناس والذي يصاب بالفشل والإحباط يُرجع سبب فشله وضعفه والقهر الذي يعانيه إلى ( الجن والسحر والعين .وووو...ووو) فهو يريد ان يتخلص من شعوره بالإخفاق والفشل لذلك يريد أن يتخلى من مسؤوليته فيبحث عن مبررات لمواجهة اهتزازه بثقته بنفسه، وهذا ما يؤثر بشكل سلبي على الاطفال الذين يعيشون معه ويستمدون من طاقته! وبعبارة أخرى: إن من أسباب ذلك هي البيئة الملوثة فكرياً، التي ينشأ بها بعض الاطفال، ( ونقصد هنا المنهج الذي يتبناه الوالدان في حياتهما) حيث نجد ان كثيرا من الاباء والامهات متأثرون بالأمور الخرافية واغلب حديثهم يدور عن الغيبيات التي تشكل ذهنية خرافية يعيشها اطفالهم ، فاذا حدث خطب ما في البيت كمرض احد الاطفال او تعرض احدهم لحادثة معينة كخسرانه تجارته مثلا او ان احد الاطفال انكسرت رجله مثلا ، فان مثل هذه الحوادث يتم ارجاع اسبابها الى (الجن والعين والسحر) دون الرجوع الى الاسباب والمسببات الطبيعية التي كانت مقدمة لحصول الحادث ، وهذا ما يربك عملية التفكير المنطقية لدى الاطفال ويشوش اذهانهم. لذلك يجب على الاهل والمربين السعي نحو اصلاح المجتمع بنبذ مثل هذه المعتقدات المضللة، والايمان بالله تعالى والسعي نحو العمل الصالح، وهذا يتم عن طريق الايمان بالذات والذي يؤدي الى زيادة سعي الانسان لتحصيل كل ما هو مفيد له ولمجتمعه ... ومن الله التوفيق قاسم المشرفاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
2765

لماذا يتوق الناس إلى الماضي؟

ينتابنا الحنين إلى الماضي كلما زرنا أماكن أو قابلنا أشخاصا تجمعنا بهم ذكريات خاصة، أو كلما فشلنا في التأقلم مع أوضاع أجبرتنا الظروف على القبول بها . ويعتبره علماء النفس من الحيل الدفاعية التي يلجأ إليها العقل الباطن لحماية الإنسان من التوتر والتقليل من الضغوط النفسية، إذ بمجرد أن تبدأ المشاعر السلبية في الظهور يقوم العقل لا شعوريا باستدعاء ذكريات الماضي الإيجابية فتزوده بشحنة من الدفيء والتفاؤل للتعامل مع حالة الإحباط الحالية. وقد أكدت أستاذة علم النفس الأمريكية كريستين باتشو أن التغيير والتطور سنة من سنن الحياة، لكن الإنسان برغم ذلك يبحث دوماً عن الاستقرار، ما يجعله يستذكر الماضي بشيء من الحبّ، لأنّه يعطيه أماناً نفسياً وشعوراً بالتأقلم، وقد أثبتت الدراسات أن حوالي (80%) من الأشخاص تنتابهم حالة حنين إلى الماضي مرة أسبوعيا على الأقل . من منا لم يستحضر ذكرى الترابط الأسري والعلاقات الأخوية الدافئة بين الأهل والجيران أمام منظر أفراد الأسرة المنكبّين على هواتفهم النقالة أو حواسيبهم الشخصية، والذين غالبا ما تمضي الأمسية دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، بل قد يتحدثون مع بعضهم البعض بالرسائل النصية. كم راودتنا بشوق صورة الانضباط والاحترام الذي كان يبديه الأطفال والمراهقون لآبائهم ومدرسيهم أمام ما نراه حاليا من حالات العقوق و التمرد والعنف الذي لم تسلم منه حتى المؤسسات التربوية وأطر التدريس؟! وكيف كانت قدوة الصغار تتجلى في الآباء والأساتذة والعلماء، أما الآن فأصبح مثلهم الأعلى أبطال الرياضة ونجوم الغناء والسينما! من منا لا يتذكر صدق العلاقات الإنسانية وعمقها وكيف كان الناس يحكمون ضمائرهم ومبادئهم كلما أجبرتهم الظروف على التعامل مع أشخاص تحكمهم جيوبهم وغرائزهم . كم داعبت خيالنا ذكرى زيجات الماضي التي لا تنتهي إلا بموت أحد الطرفين، قبال ما يحصل اليوم من الارتفاع المهول لحالات الطلاق والخلع وقضايا النفقة؟! وذكريات التآخي والتسامح أمام مذابح الصراعات الطائفية والعقائدية؟! يوميا تقشعر جلودنا ونحن نسمع عن حوادث لم نكن نتخيل -ونحن أطفال- حتى إمكانية حدوثها كزنا المحارم وحالات الشذوذ الجنسي والجرائم في حق الأصول والفروع والتي أصبحت تمثل أخبارا مألوفة على صفحات الجرائد والقنوات الفضائية. لا يقتصر تعلقنا بالماضي على المشاعر فقط، بل كثيرا ما نترجم هذا الإحساس إلى تصرفات كالولع باقتناء التحف الأثرية القديمة التي تقام لها معارض ومزادات عالمية وتُدفع مقابلها مبالغ خيالية أحيانا. أو الإصرار على اختيار ديكور البيت أو المكتب بذوق كلاسيكي! وهو أمر استغلته أغلب الشركات العالمية الكبرى في إعلاناتها وأفكارها التسويقية، حيث أكدت العديد من الدراسات أن تعرّض الإنسان لحالة الحنين إلى ماضيه يرفع من رغبته في شراء أشياء تمثل ذكريات رائعة ثم يصبح شديد الاستعداد لدفع أمواله بسهولة أكبر حتى ينتشي بنفس الأحاسيس والعواطف التي عاشها في المرة السابقة، أي تصبح المسألة كالإدمان تماما. إن البحث عن السعادة المؤقتة في أشرطة الماضي ساهمت في ترسيخه السينما العربية كذلك حيث تكتفي جل المسلسلات والأفلام بعرض التقهقر والانحطاط الذي أصاب القيم الإنسانية ، بينما انهمك صناع السينما الغربيون في إخراج أفلام تصور الحياة في أزمنة مستقبلية واقتراح حلول للمشاكل التي قد تواجه الإنسانية مستقبلا كالاكتظاظ السكاني وغزو الكواكب وجفاف الموارد المائية وتحكم الآلات بالبشر . ونحن نعيش يوميا كل هذه المقارنات، فمن المنطقي أن يصبح الماضي بالنسبة إلينا هو الفردوس المفقود. لكن رغم ذلك لا يجب أن نجعله قوقعة ننعزل فيها صحبة الخذلان والمشاعر السلبية، بل فرصة للاستفادة من التجارب والخبرات السابقة تمنعنا من الوقوع في نفس الأخطاء وتساعدنا في بناء مستقبل أفضل، ولا أن نجعل منه كذلك مبررا لمقاومة التطور والتغيير وقتل روح الإبداع لدى الأفراد؛ لأن كل حضارة تنغلق على نفسها وتنهمك في اجترار ماضيها فإن مصيرها الفناء . داريا المرصاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
5392

العــدل الإلهي في كلمات السيدة زينب (عليها السلام) (2)

ثانياً: فــي خطبتـهـــا فــي مجلـــس الإمـــارة فــي الكوفـــة قولها (سلام الله عليها ) : " ما رأيت إلا جميلاً "(1) إشارة الى أن الجمال يكمن فيما أراده الله (تعالى) وقضاه وقدَّره وإن كان لا يتناغم مع رغبات النفس البشرية ، بل وإن سبَّب لها الألم وجر إليها الحزن والهم. وقد يُقال: كيف يمكن الحكم على واقعة كربلاء وما جرى فيها من جرائم بالقبح تارةً و بالحسن أخرى؟ ألا يعد الحكم على الشيء الواحد تارةً بأنه حسن وأخرى بأنه قبيح تناقضاً؟ وبالتالي لو كان الحسن والقبح عقليين لما اختلفا؟ ولكنه يُجاب: أولاً : إن وصف الأفعال بالحسن والقبح ليس على شاكلة واحدة، وإنما هو على أشكال متنوعة، وقد أوضح السيد الطباطبائي (طيب الله ثراه) ذلك في قوله : "فمن الأفعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم" الى أن قال : "و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات... و ضرب أمثلة على ذلك فقال : "و أكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا، و هو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله" (2) و مما لا شك فيه أن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يخرج بأهل بيته و أصحابه إلا امتثالاً لأمره (عز وجل) و بالتالي فإن كل ما تعرضوا له على قساوة منظر صورته الملكية ، فإنه الغاية في الحسن و الجمال في صورته الملكوتية . ثانياً : ذكر السيد الطباطبائي (قده) أيضاً : "إن الحسن موافقة الشيء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه " (3) وعندما ننظر الى واقعة كربلاء بهذا المنظار نجد أنها غاية في الحسن والجمال ؛ وذلك لأنها وإن أثقلت بكل ما تحمله من صورٍ تكلم الفؤاد كلماً ، ويعتصر لها القلب حزناً وألما ، فهي أيضاً أشرقت بقرابين عظيمة لله (تعالى) العظيم ، ولشرعه القويم ، كان هدفها إعادة الأمة المحمدية الى الصراط المستقيم ، حيث شرعت بالانحراف عنه منذ أن نُحّيَ عن منصبه مَن كان للرسول الأكرم (صلى الله عليه و آله) بمنزلة هارون من الكليم ، بيدَ أن مصلحة خاتم الأديان ورعايته من التحريف اقتضت من الله الحكيم أن لا يقوم بالإصلاح في الأمة إلا الذِبح العظيم ، الحسين الشهيد الذي وصفه بذلك القرآن الكريم . وعليه، فقد وصفت العقيلة زينب (عليها السلام) ما رأته بالجمال وذلك لــ (أن دين الاسلام الخاتم للأديان قد تعرض بسبب انحراف السلطة لخطر التحريف و التشويه ، بحيث تضيع معالمه ، ولا يتيسر الوصول و التعرف عليه لمن يريد ذلك ، كما حصل في الأديان السابقة ، وأن الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قد واجه ذلك الخطر ، ودفعه بنهضته المقدسة ، وما استتبعها من تضحيات جسام )(4). وقد تأكد هذا المعنى أيضاً في زيارة الأربعين للإمام الحسين (عليه السلام) حيث نقرأ فيها : " فأعذرَ في الدُّعاءِ ومنحَ النُّصحَ وبذلَ مُهجتهُ فيك ليستنقذَ عبادكَ من الجهالةِ وحيرةِ الضَّلالةِ "(5) . ثالثاً : ما جرى في واقعة الطف قبيح ، وترك الدين بيد الطغاة يحرفونه كيفما يشاؤون قبيح أيضاً ، إلا أن ترك الدين يُحرّف والشريعة تُزيّف أقبح مما جرى في الطف ، وما جرى في الطف أحسن من تحريف الدين وتزييف الشريعة ، فيحكم العقل بالتعرض لواقعة الطف قضاءً لتقديم الأرجح على الراجح ، فإن تقديم الراجح على الأرجح قبيح عند العقل(6) كما أن قولها (صلوات ربي عليها ) : " ما رأيت إلا جميلاً " شهادةٌ لها بأنها قد حازت على أرفع درجات اليقين ؛ لأنه يمثل عين الرضا بقضاء الله (تعالى) و قدره ، و قد روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال : "أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا "(7) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : " الرضا بمكروه القضاء من أعلى درجات اليقين "(8). وأما قولها (عليها السلام) : " هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ " (9) فقد جاء رداً على ما كان ابن مرجانة يحاول جاهداً ترسيخه في الأذهان لتبرأة ساحته و من كان معه متوسلاً بتحريف العقيدة الاسلامية -و قد كان و لازال هذا ديدن أغلب من يتخذون من دين الله الحنيف و المذهب الحق الشريف مسنداً لحكمهم- حيث قال : " كيف رأيت صنع الله بأخيك واهل بيتك؟" مُدعياً بسؤاله هذا أن ما وقع في الطف بكل ألوانه الوحشية المختلفة ، وبشتى أشكال الإجرامية المتباينة ، من قتل لصفوة البشرية ، الى تمثيل بالجثث الطاهرة الزكية ، الى رضِّ أضلع النفوس الراضية المرضية ، الى حرق الخيام على من فيها من العيال ، الى نهب التراث وسلب النساء والأطفال ، كل ذلك إنما هو (صنع الله)! وأن الجيش الأموي و من أمرهم بالخروج لم يكونوا إلا أدوات لتنفيذ ذلك الصنع الإلهي ، محاولةً منه لإسباغ الشرعية على الوحشية الأموية ، و تقديم المبرر الديني المشرعن على اقتراف تلك الجريمة النكراء ، و محاولة لتبرأة الوحوش البشرية . وقد وافق ادعاء ابن زياد هذا قول الأشاعرة بالجبر؛ وذلك لأن ادعاءه بأن الجيش الأموي لم يكن سوى أداة نفذت صنع الله هو عين القول الذي قالت به الأشاعرة من أن الانسان مجبرٌ على ما يفعل ، وأن الله (تعالى) كما خلق أعضاء الانسان فقد خلق أفعاله . وقد ثبت خطأ هذه النظرية ؛ لأنها تنسب الظلم إليه (سبحانه وتعالى) و إن لم تصرح بذلك ، و إلا فهل يمثل عقاب المُجبر على المعصية سوى الظلم؟؟ ولذا فقد ردت الحوراء زينب (عليها السلام) عليه قوله ، وهي العالمة غير المعلّمة حيث قالت: "هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ " فأسقطت بذلك نظرية الجبر التي حاول التمسك بها جملة وتفصيلا ، و أكدت أن فعل الانسان إنما هو مزيج من فعل الله (تعالى) و فعل الانسان نفسه ، من خلال عبارتها الموجزة المبنى و العميقة المعنى . فإن الله (عز وجل) قد كتب عليهم القتل أي الجهاد في سبيله و في سبيل إحياء دينه ، وهم (سلام الله عليهم) قد لبوا نداء الله(تعالى) ، و امتثلوا لتكليفهم بإرادتهم ، إلا أن من قتلهم هو أنت يا ابن زياد ولهذا فإن الله سيجمع بينك و بينهم يوم الحساب فتُقدم الحجج و الأدلة التي تدينك يومئذٍ ، و تخاصم من قبل من قتلتهم ، فانظر في ذلك اليوم لمن الفوز والظفر. وبقليل من التأمل نجدها (سلام الله عليها ) قد أشارت في عبارتها الى مسألتين مهمتين في العدل الإلهي وهما : أولاً : تفنيد نظرية الجبر في مسألة القضاء والقدر ، فقد أثبتت (سلام الله عليها ) بأن ابن زياد هو من قتلهم بكامل اختياره و بلا جبر من الله (تعالى) عليه بقرينة قولها : " وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم " و الله عادل بل هو العدل عينه ، و عليه لا يمكن أن يعرض للحساب فضلاً عن العقاب إلا من كان حراً مختاراً في فعله لم يجبره أحد على المعصية . ثانياً : مسألة العدل الجزائي ، أي إن كل إنسان سيجزيه الله (تعالى) بما كسب ، فيثيب المحسن على إحسانه ، ويعاقب العاصي على عصيانه ، و ذلك في قولها : " وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ " . وعلاوة على ما تقدم فقد تضمنت كلماتها تذكير الطاغية بعدم الاغترار بهذا النصر المزيف لأن النصر و الظفر الحقيقي سيكون يومئذ من نصيب الإمام الحسين (عليه السلام) وسائر شهداء الطف . وأما قولها: "واني لأعجب ممن يشتفي بقتل أئمته ، ويعلم انهم منتقمون منه في اخرته" (10) فقد تضمن هو الآخر التأكيد على العدل الجزائي لله (جل وعلا)، لأن كلمة «منتقمون» من مادة الانتقام، وتعني العقوبة والجزاء، وقد يتصور القارئ أنها العقوبة المقترنة بإخماد نار الغضب وتفريغ ما في القلب من انفعال وحب الانتقام كما هو المعنى الوارد في محادثاتنا اليومية في عصرنا الحاضر، إلا أن هذا الأمر لا وجود له في المعنى اللغوي للكلمة. (1) ابن طاووس ، اللهوف في قتلى الطفوف ص67 (2) السيد الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ج5 ص10 (3) المصدر السابق (4) السيد محمد سعيد الطباطبائي : فاجعة الطف 143 و144 (5) الطوسي : مصباح المتهجد 788 (6) أنظر محاضرات في الإلهيات : للشيخ السبحاني ص170 (7) الري شهري : ميزان الحكمة ج4 ص144 (8) المصدر السابق (9) إبن طاووس : اللهوف في قتلى الطفوف ص67 (10) المصدر السابق ص 68 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
2540

العــدل الإلهي في كلمات السيدة زينب (عليها السلام) (1)

إن من يطالع واقعة الطف أو يسمع بقصتها كاملةً وبما تبعها من أحداث لا يمكن له إلا أن يقف إجلالاً وتقديراً لتلك المرأة المثال في الصبر ، والغاية في الحكمة ، والقمة في الصمود والقوة . وما تلك المواقف التي يُشار اليها بالبنان، إلا حكاية عن تلك القوى العظيمة الخافية عن العيان، نعم، هي قوى الصبر والرضا والتسليم لقضاء الله (تعالى) وقدره النابعة من صدق اليقين وكامل الإيمان . لقد جسدت السيدة زينب (عليها السلام) بسيرتها العطرة جميع الاعتقادات الحقة ، وقد تجلى العدل الإلهي من بين كل تلك الاعتقادات ، كتجلي الشمس في رابعة النهار ، سواء فيما وقفت من مواقف وفيما نطقت من كلمات ، وفيما ألقت من خطابات . ولأن أبرز خطبها (صلوات الله عليها ) كانت لأهل الكوفة ، وفي مجلس ابن زياد ، وفي الشام حيث مجلس يزيد ، فقد ارتأيت أن أدرج تحت كل خطبة ما ورد فيها من كلمات تشير الى العدل الإلهي . أولاً: كلمات العدل فــــي خطبتها مع أهل الكوفة قولها لهم (عليها السلام) : " فلا يستخفنكم المُهل، فإنه (عز وجل) لا يحفزه البدار ، و لا يخاف فوت الثار . كلا إن ربك لبالمرصاد ، فترقبوا أول النحل و آخر صاد "(1). أي : احذروا أن يكون إمهال الله (تعالى) لكم والتأخير في انتقامه منكم لخلفكم في وعدكم للإمام الحسين (عليه السلام) في نصرته سبباً لانتعاش نفوسكم من الفرح ، و لأمان صدوركم من العذاب ، ولاطمئنان قلوبكم من العقاب . فلا التأخير في العقوبة يعني العفو عن الجريمة ، ولا التأجيل في الجزاء يعني عدم ورود الانتقام ، فإن الدنيا دار امتحان وبلاء ، لجميع الناس من الفجار والأتقياء ، وكلٌ منهم سينال عاجلاً أم آجلاً ما يناسب عمله من جزاء . فالإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، قال تعالى : « وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) » (1). و قد ذكرت (سلام الله عليها) سببين من أسباب تأخير العقوبة و عدم الاستعجال بها : الأول : « فإنه لا يحفزه البدار » ، أي إن الله (سبحانه) لا يعجل في الانتقام ؛ لعدم وجود الداعي الى ذلك؛ فهو لا يخشى فوت فرصة وضياعها، كما وصفه الإمام السجاد (عليه السلام) في الدعاء الثامن و الأربعون من الصحيفة السجادية : " وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلاَ فِي نِقْمَتِكَ عَجَلَةٌ، وَإنَّمَا يَعْجَلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ، وَإنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الظُّلْمِ الضَّعِيفُ، وَقَدْ تَعَالَيْتَ يَا إلهِي عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً "(2). كما أنه لا يخشى انفلات المجرم من قبضته التي هي قبضة العدل الإلهي كما نقرأ في دعاء كميل : « ولا يمكن الفرار من حكومتك ». وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : " ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوته أخذه وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشجا من مجاز ريقه " (3) بالإضافة الى ذلك فقد يؤجل الله (تعالى) العقوبة لحكمةٍ يراها ( سبحانه ) أو لمصلحة تقتضي ذلك . الثاني : " و لا يخاف فوت الثار " ، فقد ادخر الله الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله فرجه ) لينتقم من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) في الدنيا ، وأما في الآخرة فإن لقتلة الإمام الحسين (عليه السلام ) عذاباً شديداً ، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنه قال: " إن قاتل الحسين بن علي (عليهما السلام) في تابوت من نار، عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شد يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكس في النار، حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتنة، وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم، مع جميع من شايع على قتله، كلما نضجت جلودهم بدل الله (عز وجل) عليهم الجلود "(4). وقولها : " وإن ربك لبالمرصاد " استعارة من آية كريمة، وقد قال عنها صاحب الميزان : " وكونه (تعالى) على المرصاد استعارة تمثيلية شبه فيها حفظه (تعالى) لأعمال عباده بمن يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمر به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشد العذاب " (5) وفي عبارتها هذه (سلام الله عليها) إشارة الى عدله (سبحانه) لأن حفظه لأعمال العباد إنما هو لأجل أن يثيب المحسن ويعاقب المسيء ،وينصف المظلوم من ظالمه. وقولها (صلوات الله عليها) : " فترقبوا أول النحل وآخر صاد " هو استشهاد منها (عليها السلام) بكلام الله على ما بينت لأهل الكوفة ، فأما أول النحل فقوله (تعالى) : " أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ "(6) وأما آخر صاد فقوله (عز من قائل) : " وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) " (7) و في كلماتها (سلام الله عليها) على إيجازها إشارة واضحة الى العدل الإلهي ــ كما أوضحنا ــ ؛ و ذلك لأن عدم إهمال جريمة دونما عقاب و لو بعد حين هو من أهم أسس العدل ، بل و ضمّنت كلماتها الموجزة استشهاداً من القرآن الكريم على صحة ما ذهبت إليه كما تقدم . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم : فاجعة الطف ص591 (2) إبراهيم 42و43 (2) الإمام السجاد (ع) : الصحيفة السجادية ص239 (3) الري شهري : ميزان الحكمة ج6 ص41 (4) المصدر السابق ص 88 (5) المجلسي : بحار الأنوار ج44 ص300 (6) الطباطبائي : الميزان في تفسير القرآن ج20 ص281 (7) النحل 1 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
3819

شبهاتٌ حول التشيّع/ في القضيّة الحسينيّة قتلوا الحسين ويبكون عليه!

مِن جملة التشنيعات التي شنّها أعداء المذهب والجهلاء هي أنّ الشيعة قتلوا الحسين ولازالوا يبكونه, ولدحض هذه الشبهة لابدّ من ترتيب الجواب وفق ثلاثة مطالب. المطلب الأول: مَن هم الشيعة؟ ومَن كتبَ للإمام الحسين من الكوفة؟ الشيعة لغةً: "هم الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ)"(1). فالتشيع يعني الاتباع والطاعة، وهذا هو ما تؤكده روايات أهل البيت (عليهم السلام) وإنّ من كتبَ للإمام الحسين (عليه السلام) هم أهل الكوفة, لكن لا يعني ارسالهم برسائل إلى الحسين (عليه السلام) أنّهم شيعة الحسين (عليه السلام)؛ لقد كانوا يتعاملون معه (عليه السلام) باعتباره صحابي وسبط الرسول (صلى الله عليه وآله) لاسيما بعد انكشاف النوايا الشيئة لقادة الكوفة آنذاك. إذاً فتلبية الحسين (عليه السلام) لدعوة اهل الكوفة ليس لأنهم من شيعته, وللوقوف أكثر على شيعيّة الكوفة نقرأ المطلب التالي. المطلب الثاني: هل الكوفة كانت شيعية؟ "إن الشيعة في الكوفة يمثّلون سبع سكّانها وهم (15) ألف شخص كما نقل التاريخ وحدود (12) ألف زجّوا في السجون، وقسم منهم اعدموا، وقسم منهم سفّروا إلى الموصل وخراسان، وقسم منهم شرّدوا، وقسم منهم حيل بينهم وبين الحسين (عليه السلام) مثل بني غاضرة، وقسم منهم استطاعوا أن يصلوا الى الحسين (عليه السلام)"(2) إذاً نسبة السُبع نسبة قليلة مقارنةً بمساحة الكوفة, وهذا ما يجعل القارئ يستفهم عن سكنتها الآخرين وعقديتهم, والجواب بديهي وهو أنّ سكنتها من غير شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) بــدليل قول السيد محسن الامين في أعيانه: "حاش لله أن يكون الذين قتلوه هم شيعته، بل الذين قتلوه بـعضهم أهل طمع لا يرجع إلى دين، وبـعضهم أجلاف أشرار، وبـعضهم اتبعوا رؤساءهم الذين قادهم حب الدنيا إلى قتاله، ولم يكن فيهم من شيعته ومحبيه أحد، أما شيعته المخلصون فكانوا له أنصاراً وما برحوا حتى قتلوا دونه ونصروه بكل ما في جهدهم إلى آخر ساعة من حياتهم وكثير منهم لم يتمكن من نصره أو لم يكن عالماً بأن الأمر سينتهي إلى ما انتهى إليه وبعضهم خاطر بنفسه وخرق الحصار الذي ضربه ابن زياد على الكوفة وجاء لنصره حتى قتل معه، أما إنّ أحداً من شيعته ومحبيه قاتله فذلك لـم يكن، وهل يعتقد أحد إن شيعته الخلص كانت لهم كثرة مفرطة ؟ كلا، فما زال أتباع الحق في كل زمان أقل قليل ويعلم ذلك بالعيان وبقوله تعالى: وقليل من عبادي الشكور"(3). المطلب الثالث: مَن هم قتلة الشيعة الحقيقيون؟ إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو الذي يخبرنا مَن هم قتلته, حيث أشار إليهم (عليه السلام) اشارة واضحة في يوم عاشوراء وقال: "ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه, وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون"(4) فالإمام (عليه السلام) قد خصّهم بشيعة –أتباع- آل أبي سفيان ودعا عليهم بالويل إن نفذوا ما يطلبه منهم القادة الظلمة. ومِن أبرز وأقسى أتباع آل أبي سفيان مِن جنود يزيد (عليهما اللعنة) هو شمر بن ذي الجوشن, فهذا اللعين حتماً ليس مِن شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) بدليل شناعة فعله, واعتراف أبناء العامة بأنّه كان يصلي معهم, بـل لم يأخذوا برواياته فجرّدوه عن صفة الوثاقة, يقول إمامهم الذهبي في ميزانه: " شمر بن ذي الجوشن ، أبو السابغة الضبابي ، عن أبيه ، وعنه أبو إسحاق السبيعي ، لــيس بأهل للرواية ، فانه أحد قتلة الحسين (ر) ، وقد قتله أعوان المختار ، روى أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، قال: كان شمر يصلى معنا ثم يقول: اللهم إنك تعلم إني شريف فاغفر لي، قلتُ: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل ابن رسول الله (ص[صلى الله عليه وآله وسلم])، قال: ويحك فكيف نصنع، إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنا شرا من هذه الحمر السقاة ، قلت: إن هذا لعذر قبيح ، فإنما الطاعة في المعروف"(5) فهذا اللعين يؤكد بلسانه على أنّ هناك مَن أمره بقتل الحسين (عليه السلام) وأعانه على ذلك, فيتضح للقارئ العصابة التي شايعت وبايعت وساعدت على قتل ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله), بـل وأمرت بذلك (عليهم اللعنة أجمعين), ووجه شمول كل من اولئك باللعنة هو: 1/ القاتل (لعن الله أمة قتلتكم). 2/ المساعد (ولعن الله الممهدين لهم بالتمكين من قتالكم). 3/ الراضون بما جرى (ولعن الله أمة سمعة بذلك فرضيت به). وتلك نصوص صريحة في زيارة عاشوراء تستنكر تعاون اولئك على الإثم والعدوان. ولتوضيح الصورة أكثر نقول: إنّ المتتبع لكتب الفريقين يجد أنّ المجرم الأول مصرّح باسمه هو يزيد بن معاوية (عليهما اللعنة), فقال الذّهبيّ فيه: "كان[يزيد] ناصبيا، فظّا، غليظا، يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بــقتل الحسين، وختمها بوقعة الحرّة، فمقته النّاس، ولم يبارك في عمره"(6). بل نجده بنفسه (لعنه الله) يعترف بقتل الحسين (عليه السلام) لا بل ويندم على جريمته النكراء, وذلك كما ينقل رواة أبناء العامة, حيث قال الذهبي: "حدثنا : يونس بن حبيب ، قال : لما قتل عبيد الله الحسين وأهله ، بعث برؤوسهم إلى يزيد ، فسر بقتلهم أولا ، ثم لم يلبث حتى ندم على قتلهم ، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى ، وأنزلت الحسين معي ، وحكمته فيما يريد ، وإن كان علي في ذلك وهن ، حفظا لرسول الله (ص[صلى الله عليه وآله]) ورعاية لحقه ، لعن الله ابن مرجانة يعني عبيد الله فانه أحرجه ، واضطره ، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل ، أو يأتيني ، فيضع يده في يدي ، أو يلحق بثغر من الثغور ، فأبى ذلك عليه وقتله ، فأبغضني بقتله المسلمون ، وزرع لي في قلوبهم العداوة"(7) بـل وهنالك العديد من الروايات عندهم تصرّح بجرأة اللعين حينما مثّل برأس الإمام الحسين (عليه السلام) ولا أعلم هل هناك عاقل يقول بأنّ قتلة الحسين هم شيعته بعد كل هذا التصريح في كتب القوم؟! نقرأ ما قاله إمامهم البخاري في صحيحه: "عن ‏ ‏أنس بن مالك ‌‏(ر) ‏أتي ‏ ‏عبيد الله بن زياد [عليه اللعنة] ‏برأس ‏ ‏الحسين ‌‏(ع[عليه السلام]) ‏ ‏فجعل في طست فجعل ‏ ‏ينكت‏، ‏وقال في حسنه شيئا ، فقال أنس‏: ‏كان أشبههم برسول الله ‏ (ص[صلى الله عليه وآله]) ‏ ‏وكان ‏ ‏مخضوبا بالوسمة"(8) فإن قال قائل: إنّ عبيد الله بن زياد هو الذي قتل الحسين (عليه السلام) وليس يزيد, وأنّ يزيد قد ندم على ذلك, كمــا يقول شيخ الوهابية ابن تيمية: "ولم يأمر[أي يزيد] بقتل الحسين[عليه السلام] ولا أظهر الفرح بقتله"(9) فنـقول له ولأمثاله باختصار: إنّ تبريركم هذا يعني أموراً، وكلها مرّة، فأيّهما تختارون: 1- أنّ ابن زياد خرج عن امرة يزيد, فيجب لعن ابن زياد بل وقتله, وحيث أنّ يزيد لم يقتله إذاً فهو حاكم ظالم فاسق, أو جبان يخشى أتباعه. 2- أنّ يزيد كان منشغلاً بالقردة والخمور والجواري ولم يهتم بمجريات الامور مع الجيش الذي أرسله لمقاتلة الحسين (عليه السلام). 3- أنّ يزيد كان سفيهاً بعدم دراسته لخططه فهو لا يصلح بذلك للحكم, وبهذا أخطأ معاوية حينما ولاّه الخلافة المزعومة. 4- تكذيب الروايات التي رواها البخاري والذهبي وغيرهم التي صرّحت بجرميّة يزيد. ترى أيّ الامور ستختارون؟! ولرسول الله غداً كيف ستواجهون؟! علماً وللأمانة، أنّ بعض علماء أبناء العامة قد خالفوا الوهابية برأيهم في يزيد (عليه اللعنة), كما قرأنا للذهبي أعلاه, بل ولابن الجوزي أيضاً رأي سديد حيث يقول: "ما رأيكم في رجل[أي يزيد] حكم ثلاث سنين : قتل في الأولى الحسين بن علي ، وفي الثانية أرعب المدينة وأباحها لجيشه ، وفي السنة الثالثة ضرب بيت الله بالمنجنيق"(10). ويقول المناوي في فيضه: " وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر ملك الروم يعني القسطنطينية ، أو المراد مدينته التي كان بها يوم ، قال النبي (ص[صلى الله عليه وآله]) ذلك وهي حمص وكانت دار مملكته إذ ذاك مغفور لهم ، لا يلزم منه كون يزيد بن معاوية مغفورا له لكونه منهم ، إذ الغفران مشروط بكون الانسان من أهل المغفرة ويزيد ليس كذلك ، لخروجه بدليل خاص ويلزم من الجمود على العموم إن من ارتد ممن غزاها مغفور له ، وقد أطلق جمع محققون حل لعن يزيد به ، حتى قال التفتازاني : الحق أن رضى يزيد بقتل الحسين واهانته أهل البيت مما تواتر معناه ، وإن كان تفاصيله آحادا فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه"(11). وأمّا كتب الشيعة فهي مشحونة باستنكار فعلة يزيد وشرذمته (عليهم لعنة الله), نقتصر على احدى الروايات فيها: "روى الكليني بسند صحيح عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر ـ الباقر ـ عليه السلام يقول: ان يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج, فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد: أتقر لي أنك عبد لي, إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك فقال له الرجل: والله يا يزيد ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام, وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخبر مني فكيف أقر لك بما سألت؟ فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك, فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي (عليهما السلام) ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمر به فقتل))"(12). ومسك الختام وقول الفصل رواية في وصف شيعة أهل البيت (عليهم السلام): روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن أطاع الله عزّ وجلّ" (13), فلو سلّمنا جدلاً وقلنا أنّ شيعة الإمام هم مَن قتلوا إمامهم, فهل يتقربون بقل إمامهم إلى الله؟! أعتقد أنّه لا يقول بذلك إلاّ سخفاء العقول, أو يكون الإمام الباقر (عليه السلام) مخطئاً في وصف الشيعة ! وأعتقد أنّه لا يقول بذلك إلاّ الناصبة. ______________________ (1) الملل والنحل ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ، ج٦ ص ۷ ـ ۱۱. (2) مركز الأبحاث العقائدية. (3) أعيان الشيعة, 1ج, ص585. (4) المصدر نفسه, ص 906. (5) ميزان الاعتدال في نقد الرجال - حرف الشين - 3742 - شمر بن ذي الجوشن, ج2, ص 280. (6) ميزان الاعتدال, ج4, ص404. (7) سير أعلام النبلاء - ومن صغار الصحابة - الحسين الشهيد[عليه السلام], ج3, ص 317. (8) صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب الحسن والحسين (ر[عليهما السلام]), ح3538. (9) الوصية الكبرى, ص25. (10) تذكرة الخواص, ج1, ص 261. (11) فيض القدير شرح الجامع الصغير, ج3, ص 84. (12) الكافي, ج8, ص 235. (13) الكافي, ج2, ص 73. اللّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرن الباطل باطلاً وأعنّا على اجتنابه, والحمد لله حمداً يليق بشأنه, الصلاة على محمدٍ وآله. علوية الحسيني

اخرى
منذ 5 سنوات
4110

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
69400

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
50329

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41062

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
34878

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32053

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
31607