منابرنا التوعويّة .. وتجربة القنوات الحكوميّة

بقلم: حسين جبر السعيداوي مثلما نتلمس الفرق بين القنوات التلفزيونيّة الحكوميّة وبين القنوات الخاصة التي يمتلكها أشخاص مستقلّون فإنّنا نتلمسه أكثر بين بعض المنابر الدينيّة الإعلاميّة وغيرها، إذ تتشابه بعض المنابر – أعني تلك القنوات ذات المنشورات الدينيّة سواء أكانت قناة تلفزيونيّة، أو يوتيوب، أو مؤسسة بحث وتحقيق، أو منبرًا تقليديًا- مع بعض القنوات التلفزيونية في أمور، منها: الأول: أنّها تعتمد على شروط وقيود كثيرة، وخطوط حمراء يحرم التعدي عليها ولذلك فإن منشوراتها ونتاجها عادةً ما يكون مكرّرًا ومملًّا إذ كلما زادت القيود قلّت إمكانيّة الإبداع وطرح الجديد، وبالتالي فإن نسبة الالتفات، والاهتمام من الجمهور ستكون أقل من المأمول، وهذا يفسر كثرة الكتب والبحوث الدينيّة التي لا تجد من يحركها في رفوف معارض الكتب، وحصول البرامج الدينيّة على نسبة مشاهدات أقل من برامج الطبخ! الثاني: أنّها قنوات ومؤسّسات ذات قيادة غير شبابيّة وبالتالي فإنّ الخطة التي تدار فيها تلك القنوات، أو هذه المؤسسات البحثيّة غير متلائمة مع الواقع السيكولوجي المعاصر بمشاكله، وإشكالاته، وتحديّاته وحاجاته الجديدة، نعم الملاحظ أن الكادر العامل في هذه المؤسسات من الشباب ولكنهم خارجين عن دائرة تحديد أهليّة المحتوى، واستقراء الخطاب المناسب، فليس لهم غير إخراج المحتوى الممل والمكرّر بهيأة جميلة، وتصميم راقي وهذا لا يعالج المشكلة ولا يجذب الجمهور. الثالث: الاحتراز من نقد الذات والمبالغة في الدفاع عنها، إذ من البعيد أن تجد القنوات الدينيّة –أعني التي تتشابه مع القنوات الحكوميَة- تفتح برنامجًا لنقد الذات، أو أن لا تبالغ في الدفاع عنها وتلميعها، ولذلك فإنّ الجمهور لا يجد غير صورة ملائكيّة تتصادم مع الواقع الخارجي المليء بالتعارض الصارخ. الرابع: تحجيم الجمهور وإبعاده عن الحركة والتفاعل مع المحيط، وهذا هو المحل الذي يشتد التشابه بينهما فيه، إذ مثلما تحاول القنوات الحكوميّة أن تضع الجمهور في صندوق صغير من الآمال المحدودة المنتخبة وتغلق عليه، بحيث ينشغل عن السياسة والتعلّم وتطوير البلد والمشاركة في صنع القرار في السعي الحثيث اليومي لطلب الرزق، والتفكير في سعر الخضروات المتقلّب، والستر والعافيّة، أقول: مثلما تسعى القنوات الحكوميّة لذلك فإنّ القنوات التي تتشابه معها من القنوات الدينيّة أو المؤسسات البحثيّة تحاول أن تجعل الجمهور المتديّن حِلسَ البيوت والمساجد، غايته العلم بحُلَيله من حُرَيمه، و"أبوك الله يرحمه"، فلا تغيير ولا تطور ولا أقلّها التعرّف على الطرق والمباني والمشوار الاستدلالي الذي صنع لنا هذه المنظومة الكبيرة من المسائل النظريّة الاجتهاديّة التي تبث وتنشر ليلًا ونهارًا، فلا يستميل هذا النهج التحجيمي غير جمهور الوجبات الجاهزة، وهذا يبرّر قلة المشاهدات والمتابعة؛ لأن الجمهور المعاصر جمهور مثقف يختار ولا يختار له، ويسأل قبل أن يستهلك وقته الثمين. إذن، فمثلما صارت القنوات الحكوميّة مهجورة بسبب القيود الشديدة، والأخطاء الإداريّة، والمنشورات السلبيّة فإنّ القنوات الدينيّة –ولا زلت أعيد أنّي لا أقصد القنوات فقط- أوشكت أن تعيد نفس التجربة ما لم ينتبه القائمون عليها لقلة الجمهور والمتابعة، ويعيدوا ترتيب الخطّة، ويتيحوا المجال للشباب المثقّف، ويرفعوا القيود التعجيزيّة والمبالغ فيها، ويفتحوا المجال للتجديد والإبداع، والنقد حتى يتمكنوا من إرجاع الشباب المتجمهر على القنوات المستقلّة.

اخرى
منذ 5 سنوات
1161

التوحيــد الصفـــاتي

بقلم: رضا الله غايتي للتوحيد مكانةٌ عليا في الشريعة الخاتمة بل في الشرائع السماوية كافة، إذ ما من رسول إلا وتصدرت رسالته الدعوة إلى التوحيد ورفض الشرك، قال(تعالى): "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" (النحل36). وللتوحيد مراحل لابد للمكلف من قطعها جميعاً ليكون موّحِداً وهي: التوحيد في الذات، وفي الصفات، وفي الخالقية، وفي الربوبية، وفي العبادة. ولعدم إمكان التعرض إليها جميعاً ارتأينا الاقتصار على التوحيد في الصفات. صفاته (تعالى) تنقسم إلى قسمين: فمنها ما ينسب الى ذاته ابتداءً بلا توسط أي شيء كالعلم، والقدرة، والغنى، والارادة، والحياة وتسمى بالصفات الثبوتية الحقيقية، ومنها ما تُنسب إليه بلحاظ ما يصدر عنه من الأفعال: كالخالقية، والرازقية، والتقدّم، والعلّية، وتسمى بالصفات الثبوتية الاضافية. وقد وقع الخلاف في الصفات الثبوتية الحقيقية بين الأشاعرة وغيرهم في أنه: هل أنها عين ذاته المقدسة أو غير ذلك؟ بخلاف الصفات الثبوتية الاضافية التي لم يقع فيها هكذا خلاف؛ لأنها صفاتٌ تجري عليه (سبحانه) تبعاً لمنشأ انتزاعها، فبلحاظ خلقه للخلق اتسم بالخالقية، وبلحاظ رزقه إياهم اتسم بالرازقية وهكذا. ولبيان عقيدتنا في الصفات الثبوتية الحقيقية لابد من تقديم مقدمة مفادها: إن الصفات بشكل عام تكون على قسمين: قسم يلازم تصور الموصوف تصور الصفة ولا ينفك عنها ولا يمكن سلبها عن موضوعها ويستحيل وجوده بدونها، وتسمى ذاتية وعينية مثل إضاءة النور، وحرارة النار، وظلمة الليل، وضوء النهار، وقسم يمكن سلب الصفة عن الموصوف، وتصوره بوجوده معها أو من دونها، وتسمى عرضية وزائدة، كحرارة الحديد وضوء القمر، والصفرة من الوجل والحمرة من الخجل. وبقليلٍ من التأمل في الصفات محل النزاع (العلم، والقدرة، والغنى، والارادة، والحياة) نقطع بأنها لابد أن تكون ذاتية وعينية ويستحيل أن تكون عارضة وزائدة؛ وذلك لأنها لو كانت عارضة على ذاته المقدسة وزائدة عليها لكان (سبحانه) محتاجاً ومفتقراً إليها، والاحتياج والافتقار سمة الإمكان وهو (جل وعلا) واجب الوجود، وعليه من المحال أن تكون صفاته زائدة، ولابد أن تكون ذاتية وعينية. كما أن القول بأن صفاته زائدة على ذاته يقتضي أن يكون (سبحانه) فاقداً لها ثم اتصف بها، بمعنى أنه كان جاهلاً (وحاشاه) ثم أصبح عالماً، وكان عاجزاً ثم أصبح قادراً، وكان مفتقراً ثم أصبح غنياً، وهكذا! ولدفع هذا الإشكال الذي أوقع الأشاعرة فيه أنفسهم قالوا بقدم هذه الصفات بقدمه (سبحانه)! فوقعوا بما هو أسوأ وهو القول بتعدد القدماء. وبما أن كل ذلك محالٌ عليه (سبحانه)، إذاً يتأكد أن تكون صفاته ذاتية وعينية لا عارضة وخارجية كما قالت الأشاعرة. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الأدلة الشرعية هي الأخرى قد أثبتت عينية الصفات، ففي القرآن الكريم ورد قوله (تعالى): "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"(يوسف76)، ومن المعلوم في اللغة أنّ (ذي) تدل على المصاحبة والمقارنة، وعليه فإن (ذي علمٍ) هو (من كان علمه عارضاً على ذاته وخارجاً عنها) وهذا لابد أن يكون فوقه (عليمٌ) وهو (من كان علمه صفة ذاته وعين ذاته) وهو الله (عز وجلّ).(1) وأما في السنة النبوية فقد روى الحسين بن خالد عن الامام الرضا (عليه السلام): "سمعت [الإمام]الرضا يقول: لم يزل الله سبحانه عليماً قادراً حياً قديماً سميعاً بصيراً، قلت: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن قوماً يقولون أنه عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة، وقديم بقدم، وسميع بسمع، فقال (عليه السلام): من قال بذلك ودان به، فقد اتخذ مع الله آلهة أخرى، وليس من ولايتنا على شيء، ثم قال (عليه السلام): لم يزل الله عز وجل عليماً، قادراً، حياً، قديماً، سميعاً، بصيراً لذاته"(2). كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "وكمال الإخلاص له: نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه...."(3) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)انظر: الميزان في تفسير القرآن ج11 ص121 (2)مسند الإمام الرضا (ع)ج1ص205 (3)في ظلال نهج البلاغةج1ص20

اخرى
منذ 5 سنوات
1172

آهاتٌ ما زالت تتنهد

بقلم: حنان الزيرجاوي دخل بهدوءٍ، بخطواتٍ واثقةٍ، وقلبٍ يكاد لا يستقرُّ بين تلك الأضلاع المرتجفة، بل كان يضع يده أو كلتا يديه على صدره وهو يخاطب تلك العضلة المرتجفة: مهلًا مهلًا أيّها القلبُ أرجوكَ أتوسّلُ إليكَ لا تسبقني ؛ لكي تحظى بشرف اللقاء، رويدكَ أيّها المتلهفُ شوقًا، ألم نتعاهد أن لا نخون بعضنا؟ هل الشوقُ دفعكَ إلى نقض العهود؟ فسمعت قهقهتهُ وهو يقول: وهل للقيا مَنْ تُحبُّ مِن عهود؟ فأمسكتُهُ بقوةٍ ؛كي لا يفرَّ مني . نعم، هذه أول مرة أتشرف بدخولِ مسجدٍ كان أشرف الخلق يجلس فيه هنا وهناك، وكأنّي أسمع شجيّ صوته وهو ينادي على الأمة يعظها، يرشدها، ينذرها، يبلغها، وأنا في طريقي إلى منبره الشريف لفت انتباهي شيء كأنّه غريبٌ على هذا المكان، شيء لا يوضعُ إلا في أماكن الخوف والتخويف. نعم، دققتُ النظرَ ظنًّا مني أنّه يُخيّلُ إليَّ هذا. ولكنْ عادت إليَّ عيني لتخبرني بحقيقة ما رأيت. فخاطبتني: أيّها المسكين إنّه سوطٌ... إنّه سوطٌ... عجبًا لهذا السوط أن تكونَ له تلك المكانة وذلك الاحترام فيوضع بهذا المكان ويُحجبُ بقداسة عن الملامسين ، فجذبني فضولي لأجلس قبالتهُ منبهرًا متعجبًا، وأفتحُ عينيّ تارةً وأغمضهما أخرى وأقترب منه. بسم الله... بسم الله، فزعت وأنا أردد اسم الله، وكدّتُ أُجَنُّ بعدما سمعت تنهيدةً خرجت من خلف ذلك الزجاج. وإذا بصوتِ ذلك السوطِ يناديني: لا تخف رويدك. فتحتُ عينيّ باستغراب ، نعم ، كادت عينيّ أن تخرجا من حدقيتهما . نعم، نعم، أنا أكلمك، يأتيني الصوت ثانيًا من وراء تلك الحجب الزجاجية. ألتفتُّ يمينًا شمالًا أرى الناس منشغلة ولا أظن أحدًا سمع هذا الصوت. ما بك؟! كأنك جُننت؟! ها أنا أكلمك. نعم، أنا أعلم ما تريد قوله: لِمَ أنا هنا؟ ولماذا وُضعتُ خلف الزجاج؟ ومَنْ أكون؟ وماذا عملت؟ التقِط نَفَسًا وسأُخبرُكَ، وسأُشبِعُ فضولكَ، ولكن بشرط أن تستمعَ إليّ وأنت صامت. فأجبته بحركةٍ من رأسي بالموافقة؛ لعجز لساني عن الإجابة. باختصار وبإيجاز ولا تسألني المزيد فإنّ ذلك يجعلني لا أعرف للنوم طعمًا. فأجبته بالموافقة بهزّة رأسٍ خفيفة. أنا ذلك السوطُ الذي كان بيد ذلك العبد اللعين. كان يلوّحُ بي ويضربُ كلَّ مَنْ يُخالف لسيدِهِ أمرًا. وكنتُ فَرِحًا وأنا أُلامِسُ الأجساد الناعمة الرقيقة أتنقل بين جسدٍ أبيض وآخر أسمر، ثم جسد شديد السواد، وافتخر على أصحابي بأنّي أكثر منهم ملامسة للأجساد. إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم لمّا مَسَكَني صاحبي ورأيته يسير خلف أسياده، فجاؤوا إلى دارٍ كنت أخشى أن أمرَّ بالقرب منها؛ لأنّها عدوة السياط وليس لي صديق فيها. بل كنت أعشق أهلها؛ لأنهم لايُتعِبونَ أصدقائي. نعم، اقتحموا تلك الدار، وأخرجوا منها رجلًا يخشاه الجميع، وسرنا وخرجت خلفنا امرأة في خمارها، وكان صوتُها ينزل من السماء بل هو صوت السماء. هنا التفت سيد العبد الذي يحملني وأمره بالرجوع إليها وضربها. وإنا لا أكاد أصدق ما أسمعه، عاد اللعين وهو يهزّ بي هزًّا عنيفًا، وشعرت حينها أنّي أطيرُ في الهواء، وهوى بي نحو ذلك الجسد أمسكتُ نفسي، تعلّقتُ بكلِّ شيء يُلامسني، توسّلتُ بالهواء أن يمسكني، ولكنّي فشلت. خاطبتُ نفسي: مهلًا… مهلًا… لا تقسي على جسدٍ أحبَّ السجود والتذلّل والخشوع والخضوع لله، ولكنّ قوة ذلك العبد أجبرتني على أن اهبط بقوةٍ عجيبة، أحسستُ معها أنَّ ذلك الجسد قد تمزّق... كفى… كفى، أرجوكَ لا أستطيع أن أُكمل. كفى... فما زلتُ أتألّمُ منذ ذلك اليوم... كفى، ما الذي جاء بك نحوي؟ كفى ، فالكثير الكثير يراني ولم يكترث بي. وانقطع الصوت... نعم، انقطعَ الصوتُ، وانقطع معه قلب لا يكاد يصدّقُ ما جرى. آه... آه... آه…

اخرى
منذ 5 سنوات
2004

الأمل روح الحياة

بقلم: ريحانة المهدي الأمل روحٌ ثانية إن فقدتها لا تحرم غيرك منها... زهراءُ طفلةٌ يجتمعُ الجمال والبراءة في شخصيتها، في أحد الأيام مرضت وبقيت ممدّدة على فراشها تعاني من مرض خطير ، سألت أختها الكبرى وهي تراقب شجرة بالقرب من نافذتها: -كم ورقة باقية على الشجرة؟ فأجابت الأخت بعين ملؤها الدمع: لماذا تسألين يا حبيبتي؟! أجابت الطفلة المريضة: لأنّي أعلم أنّ أيامي ستنتهي مع وقوع آخر ورقة فقط! كانت تظن بأنّ حياتها ستنتهي بانتهاء أوراق هذه الشجرة فردت الأخت وهي تبتسم: إذن حتى ذلك الحين سنستمتع بحياتنا ونعيش أيامًا جميلة. كانت أختها تحاول زرع روح الأمل في قلب زهراء؛ لتحيا أيامها الباقية بسعادة مرت الايام... وتساقطت الأوراق تباعًا... وبقيت ورقة واحدة معلقةً على الشجرة الموجودة قرب نافذة غرفتها، ظلت الطفلة المريضة تراقبها ظنًّا منها أنّه في اليوم الذي ستسقط فيه هذه الورقة سينهي المرض حياتها. انقضى الخريف، وبعده الشتاء، ومرت السنة... ولم تسقط الورقة والفتاة سعيدة مع أختها، وقد بدأت تستعيد عافيتها من جديد، وأصبحت تشعر بجمال الحياة مع أختها، فقد كانت تقضي أوقاتها باللعب والمرح مع أختها حتى شفيت تمامًا... فكان أول ما فعلته أنّها ذهبت؛ لترى معجزة الورقة التي لم تسقط، فوجدتها ورقة بلاستيكية ثبتتها أختها على الشجرة؛ لتبقى زهراء تشعر بالأمل بعدم انقضاء أيامها! بالأمل نحيا في الحياة، فلولا الأمل لما تقدّم الإنسان خطوةً مع ما يحمل من طموح وبعض الأمنيات...

اخرى
منذ 5 سنوات
1657

من أسئلتكم

بقلم: مروة محمد كاظم إذا كانت الحيوانات غير مكلفة لأنّها غير عاقلة، فلماذا قال الله سبحانه وتعالى: وإذا الوحوش حشرت؟ فلماذا يحشرها يوم القيامة؟ الجواب: الحشر في اللغة هو البعث والسوق(1)، وقيل هو جمع الناس يوم القيامة(2). والجواب على ذلك يندرج إلى عدة آراء: 1- ذهب الطبرسي إلى أنّ (وإذا الوحوش حشرت) أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء و يحشر الله سبحانه الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا وينتصف لبعضها من بعض، فإذا وصل إليها ما استحقته من الأعواض، فمن قال: إن العوض دائم تبقى منعمة إلى الأبد، ومن قال: تستحق العوض منقطعًا، فقال بعضهم: يديمه الله لها تفضلًا لئلا يدخل على المعوض غم بانقطاعه. وقال بعضهم: إذا فعل الله بها ما استحقته من الأعواض جعلها ترابا) (3)، أي: إنّ الحيوانات تحشر أي تُجمع ويُقتصّ لبعضها من بعض كقوله تعالى: (وما من دابةٍ في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلّا أممٌ أمثالكم ما فرّطنا في الكتابِ من شيء ثم إلى ربّهم يُحشرون) [ سورة الأنعام : 38]. وعن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): (ليؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)(4) إلّا أنّها لا تنال من الحساب والجزاء كالإنسان لكونها غير مكلّفة فلا تنال الجنة أو النار كالإنسان بل تُحوّل إلى ترابٍ ؛ لذا عندما يُحاسب الكافر يوم القيامة يتمنى لو تحوّلَ ترابًا كمصير الحيوانات، قال تعالى: (( ويقولُ الكافرُ يا ليتني كنتُ ترابًا )) [النبأ : من الآية 40] 2- ذهب الطباطبائي والشيخ ناصر مكارم الشيرازي إلى أنّ الحيوان يقع عليه ما يقع على الإنسان من الثواب والعقاب؛ إذ لا مفرَّ من الحكومة الإلهية العادلة؛ إذ يقول الله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) [ ص: 28]، ولما كانت مسألة الحساب والجزاء تستلزم أمرين هما: العقل والإدراك، والتكليف والمسؤولية، فمن غير الممكن أن نصف الحيوان بعدم إدراكه لأموره؛ إذ عالم الحيوان لديه نظام دقيق في تدبير أموره كالنحل والنمل وغير ذلك، و كلٌّ تقع على عاتقه مسؤولية تخصّه كقوله تعالى: (وأوحى ربّكَ إلى النحلِ أن اتخذي من الجبالِ بيوتًا و من الشجرِ وممّا يعرشون) [النحل : 68] وفي قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على وادِ النملِ قالت نملةٌ يا أيّها النملُ ادخلوا مساكنكم لا يَحْطِمنَّكم سُليمانُ وجنودُهُ و هم لا يشعرون) [النمل : 18] يشير فعل النملة هنا إلى إدراكها وفهمها. وما فعله طائر الهدهد مع سليمان يشير أيضًا إلى فهمه وإدراكه في قوله تعالى: (فمكَثَ غيرَ بعيدِ فقالَ أحطتُ بما لم تُحِط به و جئتكَ من سبإٍ بنبإٍ يقينٍ )) [ النمل : 22] لذا كما تقع التكاليف والمسؤولية على الإنسان تقع على الحيوان أيضًا و إن كانت النسب بينهما متفاوتة (5) 3- أما العلّامة حسن المصطفوي فقد ذهب في تفسير قوله تعالى: (( وإذا الوحوش حشرت)) إلى أنّ الوحوش هم أفرادٌ من الناس اكتسبوا الصفات الحيوانية لابتعادهم عن الحقيقة الإنسانية(6)، و ذهب إلى تفنيد الرأي القائل بحشر الحيوانات يوم القيامة؛ إذ يقول: (( فإنها لم تُخلَق للبعث والنشور، ولا تُكلَّف بتكاليف إلهية حتى ترى آثار أعمال عملت، وليس لها استعداد بلوغ إلى كمال فوق مرتبة الحيوانية. قال تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تُريحون وحين تسرحون و تحمل أثقالكم... والخيل والبِغال والحَمير لتركبوها وزينة)، (ومن الأنعام حَمولة وفَرشًا كُلوا ممّا رزقكم الله)... وهذه المعاني تنافي استقلال وجودها واحترام نفوسها في قبال الإنسان، وتدلّ على أنّها غير مُكلَّفة و لا مسؤولية لها وعليها ، وليست حياتها إلّا لإدامة التعايّش الحيواني الماديّ. فظهر أنّ الحيوانات بأنواعها بريّة وبحريّة إنّما خُلِقت للعيش في الحياة الماديّة، وليس لها في ذواتها استعداد التوجّه إلى الروحانيّة والطاعة والعبوديّة وإخلاص النيّة في الأعمال))(7) ولعلّ ما ذكره المصطفويّ يقترب ممّا ذكره الطبرسي من كون الحيوانات غير مكلَّفة فلا تُحاسب ولا يشملها العقاب أو الثواب وتُحشرُ أي تُجمعُ فقط للقصاص فيما بينها ثم تُحوَّلُ ترابًا، وبذلك حشرها يعبّر عن عيشها المادي فقط ولا حياة أخرى معنوية لها، ويبدو هذا الرأي من أقرب الآراء؛ لأنّ الحيوانات أغلبها مُسخّرة من الله وقد خُلِقت لحكم متعددة، وأما مسألة الاقتصاص التي تجري بينها فهو اقتصاص مقابلة لا اقتصاص تكليف؛ لأنّها غير مُكلّفة كالإنسان حتى تُحاسب كحسابه، والله أعلم. ____________________ 1- مقاييس اللغة : 2/66. 2- لسان العرب : 4/190. 3- تفسير مجمع البيان للطبرسي : 10/ 674-675 ، الجمّاء : التي لا قرنَ لها. 4- مسند أحمد : 15/193 ، الجلحاء : التي لا قرنَ لها . 5- تفسير الميزان: ج ٧ ص ٧٤ - ٧٥ ، و تفسير الأمثل للشيخ مكارم الشيرازي : 4/ 274-277 . 6- التحقيق في كلمات القرآن الكريم :13/ 56-57. 7- المصدر نفسه :13/57.

اخرى
منذ 5 سنوات
2437

شهادة قنديل

بقلم: ابو محمد مهدي الترابي لم يكن يخلُ بيتٌ في الأزمنة السابقة من قنديل، واعتادت الناس أن تضعه في مكان مرتفع لا تصل إليه الايادي حفاظًا عليه، ومن الطبيعي أن ما كان في مكان مرتفع فهو يضيء ويرى كل ما يحدث دونه، واليوم سيروي لنا القنديل ما حدث في بيت الزهراء... - تفضل أيه القنديل، واروِ لنا ما حدث، ولتكن شهادتك هي الأم، وشهد شاهد من اهلها... - فقال القنديل: من توفيقي اني وجدت في هذا البيت، في بيت اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.. في بيت تستأذن الملائكة والنبي الخاتم للدخول فيه، في بيت يسكنه معصومون.... بين مصلٍ وقارئ للقران ومتهجد وفي يوم .... وفي ساعة ..... وفي عام ...... كان الكل مشغولًا بفقد خاتم المرسلين (صلى الله عليه وآله) والعزاء والحزن يملئ كل جوانب البيت . قال القنديل مسترسلًا، والدمه ينهمر منه: سمعتُ رجالا خارج البيت يتحدثون، ومناديًا ينادي: ليخرج لنا عليٌّ للبيعة والا احرقنا الدار ومن فيها! واذا بصوت منهم يقول -وهو كبيرهم الذي علمهم لا السحر- وانما التجاوز على مقام النبوة والامامة: احرقوا الدار ومن فيها! فقال احدهم: سيدي إن في دار فاطمة... واذا بصوت عالٍ من سيده (وإنْ)! فقلت –القنديل- : أيعقل هذا؟! أنا قنديل لا أحرق الا زيتًا وضعوه في داخلي لأنير لهم الظلمات، فكيف يحرقون نور النبوة ونور الطهارة! نورًا اخرجهم من الظلمات إلى النور؟! كم كنت أرى صنع النبي صلى الله عليه واله لهذا البيت ومن فيه؟ فتذكرت في وقتها موقف النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يطرق هذا الباب ويقول: إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرًا... ويقول: يا اهل الدار، أتأذنون لمحمد بالدخول، فتقول ابنته: تفضل يا ابتِ، البيت بيتك والحرة ابنتك، ولكني أرى اليوم قومًا بين حارق للدار وبين داخل عليها.. دفعوا الباب، وكانت سيدتي خلف الباب، واذا بها تصرخ لخادمتها فضة: أسنديني، واليك ضميني، فقد أسقطوا جنيني، وقد سمعت شيئًا يُكسر، فظننت أن الباب كسرت، فالتفتُّ، واذا بالباب عامرة، فالتفتُّ يمينًا وشمالًا، لأرى ماذا كُسر، ولكن لم اعرف الا يوم غُسلت سيدتنا، ورأيت مولانا أمير المؤمنين يبكي، وسمعت أن يديه مرت على إضلاع مكسورة...

اخرى
منذ 5 سنوات
628

أمنياتٌ أم أهداف؟!

بقلم: رضا الله غايتي قلوبٌ تنبض بالكثير الكثير من الأمنيات، ونفوسٌ عطشى لتُحقق ما حلمت به من لحظات، وأرواحٌ تترقب برجاءٍ تارةً وقلقٍ وخوفٍ تارةً أخرى لما هو آتٍ، وعيونٌ أضناها الواقع الأليم وأرّقها الحزن المقيم لما تعانيه من حوادثٍ وأزمات، فسارع بعضها لتطالع وبكل شوقٍ ما قد ينشره المنجمون في مختلف المواقع والصفحات. مشاهدٌ مؤلمةٌ حقاً، لكني توقفت لأتأمل قليلاً، تُرى أيهما أشد أيلاماً، هل ما يعانيه معظم الناس من آلامٍ ومعاناة؟ أو السبل التي يلتجأ إليها بعضهم لحل مشاكلهم وتحقيق ما تراودهم من أمنيات؟ وجدتُ نفسي وإن أقررتُ بمرارة ألم المحزونين وقساوة ما يكابدونه من الأسى في هذه الحياة، أكاد بل أجزم أن سبل الحل التي يهرع إليها البعض لتغيير واقعهم نحو الأفضل لهي أعظم المأساة.. تُرى هل خُلِق الإنسان مسيّراً ليقف مكتوف اليدين لا يبذل من الجهد سوى التمني والتألم والحسرات؟ أو هل كان قاصراً ليُنصِّب النجوم وصيةً عليه يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها في تسيير مختلف شؤونه في الحياة؟ أو هل كان زمام تغيير أحواله بيد سواه ليتظلم ويتألم مجسداً دور الضحية في مختلف السلوكيات؟ لا، وألف لا، وهيهات أن يكون ذلك المخلوق الدنيّ صنع الخالق العظيم القويّ، بل هو أكرم مخلوق لأعظم خالق، ما خلقه ليخوض غمار هذه الحياة إلا بعد أن بيّن له خارطة الطريق وزوّده بأذكى وأرقى الأدوات. فبالعقل الذي مكّن الإنسان أن يبتكر ما شاء الله من أدق الأجهزة وأعقد الآلات، يمكن أن يُحقَق به ما قد يُتصور أنه من المحال أو المعجزات، ولكن ليس بالسلبية والاقتصار على أحلام اليقظة وإطلاق الأمنيات، بل بتحويلها إلى أهداف والعمل الجاد على تحقيقها من خلال وضع ما يناسبها من برامج ومخططات. فالأمنية والهدف كلاهما أمرٌ مرغوبٌ به من قبل الانسان، إلا أن بينهما بونًا شاسعًا ربما كالفرق بين العدم والوجود. فالأمنية لا تعدو أن تكون مجرد رغبة تعيش في قلب الانسان وتحيا في مخيلته، وربما تتردد على لسانه، أو تقض مضجعه، لكن لا أثر لوجودها في الخارج، ولا سعي لتحصيلها على أرض الواقع. وأما الهدف فهو وإن كان رغبة كما الأمنية إلا أن له انعكاسات في الخارج تزداد شيئاً فشيئاً حتى يكلل بالتحقيق التام إن شاء مسبب الأسباب. ولكي يتحقق أي هدف من الأهداف على الوجه الأمثل مهما بدا لنا أنه هدفٌ يسير ــ كالدراسة اليومية مثلاً بالنسبة للطلبةــ لا بد أن تتوفر فيه شروط أهمها: أولاً: أن يكون الهدف مرتبطاً بالمرحلة التي يعيشها الانسان الهادف، فلا يصح مثلاً أن يكون هدف طالب الإعدادية هي دراسة علم الفلك؛ لأن ما يناسب مرحلته من أهداف هي دراسة مواده الدراسية والتمكن منها أولاً. ثانياً: أن يكون الهدف قابلاً للتحقيق: إذ من المحال أن يكون الهدف دراسة جميع المواد الدراسية في يوم واحد فقط. ثالثاً: أن يكون الهدف محدداً: ويتحدد في الدراسة مثلاً بتحديد المادة فيكون دراسة مادة الكيمياء مثلاً. رابعاً: أن يكون قابلاً للقياس: للتعرف إلى نسبة تحقيقه، فيكون الهدف: أن أدرس مادة الكيمياء الفصل الثاني الذي هو عبارة عن عشرين ورقة مثلاً. خامساً: أن يكون محدودًا بوقت؛ لأن الأهداف التي لا تحدد بوقت غالباً ما يؤجل تنفيذها مرة بعد أخرى حتى ينتهي الأمر بالفشل في تحقيقه، فيكون الهدف في مثالنا: ان أدرس الفصل الثاني من مادة الكيمياء من الساعة التاسعة وحتى الحادية عشرة صباحاً. وتختلف الأهداف في المدة الزمنية التي ينبغي رصدها لأجل تحقيقها، ولذا فهي على أقسام ثلاث: فمنها أهداف يستلزم تحقيقها زمنًا طويلًا، وجهدًا وفيرًا، وهي أهداف طويلة المدى تمتد لعشرين سنة أو أكثر. ومنها أهداف متوسطة المدى وتمتد لخمس سنوات، ويمكن للإنسان الهادف أن يستعين بهذه الأهداف كمقدمات أو مراحل لتحقيق الأهداف طويلة المدى. وبما أن هذه الأهداف هي الأخرى تقتضي مدة زمنية ليست بالقليلة لذا يمكن الاستعانة بالأهداف قصيرة المدى وهي أهداف سنوية. ومن الجدير بالذكر أن هناك عوامل مهمة لتحقيق الأهداف أهمها: الصبر والإصرار وتكرار المحاولة مع تحري الطرق المختلفة والسبل المتنوعة في كل مرة حتى تحقيق الهدف، فقد نُقل أن أديسون حاول مائتين وواحدًا ستين محاولة (بل قيل: 999 محاولة) حتى نجح في ابتكار المصباح، وكل محاولة كان يأتي بها بشكل مغاير عن المحاولات السابقة. وبما أن أرقى الأمنيات هي أمنيات المؤمنين، فكم هو جميل أن ينقلوا تلك الأمنيات السامية إلى عالم الأهداف، فتتحد الأيادي البيضاء، وتسرع النفوس في سبيل التزكية، وتتنافس الهمم العالية، وتتسابق العزائم نحو الكرائم، ، وتستبق القلوب نحو الخيرات. وتنطلق الأرواح للرقي في الدرجات، عندئذٍ يحصدون كل خير. هذا وقد ذكرت بعض الروايات بعضًا من جوانبه منها ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "يا ابن جندب لو أن شيعتنا استقاموا لصافحتهم الملائكة ولأظلهم الغمام و لأشرقوا نهارا و لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولما سألوا الله شيئا إلا أعطاهم"(1). كما ورد في توقيع له (عجل الله فرجه):" ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا. و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا ، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم"(2). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تحف العقول ص303 (2) معجم أحاديث المهدي ج5 ص463و464

اخرى
منذ 5 سنوات
1946

ومضاتٌ فاطمية لإنارة غياهب الجاهلية (٥)

بقلم: علوية الحسيني "وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة؛ علماً من الله تعالى بمآئل الأُمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور". بعد الشهادة بالألوهية لله تعالى في العبارات السابقة عطفت السيّدة الزهراء (عليها السلام) كلامها بالنبوة لمحمد (صلى الله عليه وآله)، وعرّفت الناس بها؛ لأن المخاطبين جاحدون، فهم على دراية بشخص فاطمة المتكلمة (عليها السلام) بدلالة مَن قال (وإنْ) حين إرادة الشروع بإحراق الدار، فهُم على معرفة بها وبأبيها (عليهما السلام) إلاّ أنّها أرادت كشف الحجب التي رانت على قلوبهم. فقالت (عليها السلام): (وأشهد أنّ أبي محمداً عبده ورسوله) نسبةً لها منه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم بدأت التعريف بشخص النبي(صلى الله عليه وآله)؛ فأول سمة وسمته بها هي العبودية فقالت (عبده)، فهو (صلى الله عليه وآله) عبد من عبيد الله تعالى قبل أن يصطفيه للنبوة. وعطفت وقالت (ورسوله) وربما كان هذا منها إشارة إلى الفارق بين النبي والرسول، "ومعنى الرسول حامل الرسالة، ومعنى النبي حامل النبأ، فللرسول شرف الطاعة بين الله سبحانه وبين خلقه والنبي شرف العلم بالله وبما عنده"(١). (اختاره وانتجبه قبل أن اجتباه) سياق الجملة واحد، إلاّ أنّ هناك فارقًا بين الاختيار والانتجاب. فالمنتجب: هو "المختار من كل شيء، وقد انتجب فلاناً إذا استخلصه، واصطفاه اختياراً على غيره"(٢) أي إنّ الله تعالى اختار محمداً (صلى الله عليه وآله) قبل أن يصطفيه. (واصطفاه قبل أن ابتعثه) الاصطفاء: "...أخذ صفوة الشيء وتخليصه مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، وينطبق من مقامات الولاية على مقام الإسلام، وهو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له"(٣). نعم، يبقى مقام الأفضلية للنبي محمدٍ (صلى الله عليه وآله) على سائر المصطفين الذين أشار إليهم القرآن الكريم في هذه الآية {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وغيرها؛ بلحاظ اختلاف درجات الاصطفاء. وقد أشار العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) إلى اختلاف درجات الاصطفاء بقوله: "من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: ﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين﴾ آل عمران: 42، حيث فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء. وقد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم ونوحًا، فأما آدم فقد اصطُفى على العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ البقرة: 30، وأول من فتح به باب التوبة... . فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذريته، وسيدهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)"(٤). (إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة) تطرّقت السيّدة الزهراء (عليها السلام) إلى ذلك الظرف الذي كان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) عبداً لله تعالى، ورسولاً له، مختاراً، منتجباً، مصطفىً، من قبَل الله تعالى، وذلك الظرف هو عالم ما قبل الدنيا، ربما هو عالم الذر؛ بقرينةٍ سياقيةٍ كلاميةٍ متصلةٍ وهي قولها: "إذ الخلائق بالغيب مكنونة" فعالم الذر عالمٌ غيبي لا يعلم به إلاّ الله عزّ وجل، فجميع الخلائق مستورة بعالمٍ غيبي. (وبستر الأهاويل مصونة) ثم عطفت (عليها السلام) على مكنونية الخلائق بالغيب مصونيتها بستر الأهاويل، إشارةً منها إلى أنّ أهاويل الأمور المقدّرة بالعلم الإلهي محفوفة بالخلائق جميعها. (وبنهاية العدم مقرونة) وهذه الجملة -مقرونية الخلائق بنهاية العدم- كسابقها، معطوفة على مكنونية الخلائق بالغيب، ومصونيتها بأهاويل مستورة. فالجمل الثلاثة مفسرة لمعنى واحد، وهو ظرفية الاختيار، والانتجاب والاصطفاء لنبيّ الله محمد (صلى الله عليه وآله). *فائدة: العالم الذي تتحدث عنه السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو عالم الذر، عالم خلق الأرواح، حيث أول ما خلق الله تعالى نور نبيّه، بدليل ما روي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): "أول ما خلق الله روحي"(٦). وهنا سؤال: كيف اختار الله تعالى واجتبى واصطفى محمداً (صلى الله عليه وآله) قبل أن يجتبيه ويصطفيه -قبل عالم الدنيا-؟ ولماذا فضّل الله تعالى محمداً (صلى الله عليه وآله) على غيره؟ جوابه سيتضح في العبارة التالية: (علماً من الله تعالى بمآيل الأُمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور) فجاء الجواب منقطاً بالنقاط الثلاثة التالية: ١-لعلم الله تعالى الواسع بخواتيم الامور. ٢-لقيومية الله تعالى وإحاطته وهيمنته. 3- لمعرفة الله تعالى بمواقع المقدورات. ولعلها (عليها السلام) تريد الإشارة إلى أنّ علم الله تعالى بالكليات والجزئيات معاً؛ لقرينة كلمة (مآيل، حوادث، مواقع). وبعبارةٍ منطقية: أنّ الله تعالى يعلم بالمفاهيم والمصاديق. "فالمفهوم: هو الصورة الذهنية الحاصلة عندك حينما تقول اسم محمد مثلاً، والمصداق: هو فرد تلك الصورة المرتسمة في الذهن"(٧). والخلاصة: أنّ علم الله تعالى واسع يتعلّق بجميع الجزئيات –المعلومات-، والجزئيات ممكنات، فيتعلّق علمه تعالى بها؛ لانتفاء مانعية تعلّقه بها. وهذا ما سار عليه متكلموا الإمامية (أعزهم الله) استدلالاً بعبارة العلاّمة الحلّي (قدس سره): "وكل حي يصح أن يعلم كلّ معلوم فيجــب له ذلك"(٨) كما قال المقداد السيوري في شرحه. أي إنّ العلم بما أنّها هي صفة ذاتية فيجب وقوعها آناً، ووقوعها هو تعلّقها بالمعلومات، وإلاّ لو لم يتحقق القوع الآني للزم افتقاره تعالى إلى غيره ليفيض عليه العلم ثم يجعله متعلّقاً بالمعلومات. والافتقار محال على الغني المطلق، فبطل. ______________ (١) تفسير الميزان: السيد الطباطبائي، ج٢، ص١٣٩. (٢) لسان العرب: ابن منظور، ج١، ص٧٤٩. تاج العروس: الزبيدي، ج٢، ص٤١٨. (٣)الميزان (٤) المصدر نفسه. (٥) المصدر نفسه. (٦) شرح أصول الكافي: المازندراني، ج١٢، ص١٢. (٧) ظ: منطق المظفر: الشيخ محمد رضا المظفر، ج١، ص٦٣. (٨) النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: الشيخ المقداد السيوري، ص٣٤. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول المصطفى المسدد، أبي القاسم محمد، وأهل بيته اولي الشرف والسؤدد.

اخرى
منذ 5 سنوات
2396

برعم في مهب الريح

بقلم: سماهر الخزرجي الريح تخطب في الخارج محتجة على أحداث يومها، الليل مدلهم غارت نجومه حزناً. لم تستطع النوم... وقفت ترمق الباب بعينين نهمتين وبحواسها الرهفة، وبيديها الصغيرتين بدت تمسح قدس دماء استبغ به الباب وارتداه حزناً سرمدياً. البيت خالٍ إلا منها ومن بقايا دماء وأنين وروح تحلق كسحابة في أرجاء الدار. ما أسرع الموت حين يحدو بنا، فأيامنا تزول كزوال الفيء. رمتها الأيام في مهد الأحزان. غارت عيناها وابتلعت غصاتها، تلمست عتبة الباب، فهنا صُرع أخوها قبل أن يبصر النور. تطلعت في ذلك المسمار الذي تسمر بشموخ المجدفين، تخاطبه: (ليتك شككت فؤادي ولم تسلب مني نبض حياتي) هنا لطموا عرش الله، هنا احمرت عينها، هنا مزق المسمار صدر السماوات وأهريق دمه، وعند عتبة باب الله خمدت انفاس طفل لم يبصر النور. وهذا محرابها يتلو تراتيل لوعتها، وقدس أنفاسها، مازالت تعطر الدار... وثمة رحى تطحن نفسها حزناً لفراق أيدي عانقتها سنينا. تمرر يديها الصغيرتين فوق الرحى لعلها ترقد في راحتي أمها التي كانت يوماً ما تدير الرحى باحثة عن حنان يدفئ برودة شتائها الموحش. يتموج الحزن في صدرها ويتهاوى بها الألم من كل جانب، وسنيُّها الخمس تتلوى كالشمعة في مهب الرياح. تنوح بصمت، فنواح الفاقدين لا تعيه أذُن المجدفين. تلملم أطمارها البالية وتلثمها، وكأنها تلملم بقايا روحها المتناثرة في أرجاء الدار… غفت الصغيرة على الرحى، ولم تعلم أن رحى الزمن ستدور عليها وتطحنها مع أيامها ولياليها. غفت وثمة سؤال وجهته لدهرها: هل سترى يوماً أشد ضراوة من هذا اليوم وأناسًا أشد غائلة منهم؟ وهل ستمتد هذه السياط لتتلوى فوق متونها؟ غفت زينب وتمنت الحياة أن لا تكون إلّا غفوة ومصرع أمها إلا اضغاث أحلام.

اخرى
منذ 5 سنوات
2728

يتصدر الان

لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع

يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
70743

بين طيبة القلب وحماقة السلوك...

خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
51794

الطلاق ليس نهاية المطاف

رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
41683

لا تقاس العقول بالأعمار!

(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي

اخرى
منذ 5 سنوات
36398

المرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)

بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.

اخرى
منذ 5 سنوات
33278

أساليب في التربية

عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي

اخرى
منذ 5 سنوات
32329